7/7/1942
رفيقي العزيز فؤاد لطف الله،
انقطع التراسل بيننا منذ بضعة أشهر، وكان القطع من جانبي، إذ لم أجب على رسالة منك تاريخها 18 يناير/كانون الثاني الماضي. وكنت قد عللت النفس بقدومك بوينس آيرس حسب الأخبار التي وردت في هذا الصدد، وتأسفت كثيراً لأنك لم تتمكن من تنفيذ عزمك، لأنّ المكاتبة في أمور كثيرة لا تقوم مقام المقابلة. وكنت أشعر بالحاجة إلى حديث طويل معك في مسائل كثيرة عملية ونظرية وغير ذلك. بعد ذلك تتالت موجات الأشغال والانهماك والقلق على مصير رسائل كثيرة وأعمال لا محل لها في هذا الكتاب. وأنا مع ذلك أترقب الفرص لأعود إلى الكتابة إليك وهي تأبى السنوح. ولا أقول إنها سنحت الآن فأنا أكتب بداعي الضرورة التي ظهرت مما سمعته من الرفيق جبران مسوح حين كنت عنده منذ بضعة أيام في توكومان. ومن كتابك الأخير إليه الذي تسلمته يوم عودتي إلى بوينس آيرس. فقد رأيت أنّ بينكما جدلاً أخذ في التعقد ومناظرة تكاد تصل إلى الشطط والجفاء. كنت عوّلت على القيام برحلة إلى توكومان في أواسط مايو/أيار الماضي، ولكن الأشغال عاقتني فسافرت في الرابع عشر من يونيو/حزيران الماضي ووصلت مساء الخامس عشر منه. بعد النظر في أمور مستعجلة، والفراغ من الأعمال الضرورية حدثني الرفيق جبران مسوح وأخبرني أنه تسلّم منك جواباً على كتاب أرسله إليك تقول له فيه إنك «قبلت اعتذاره»، وقد ظهر لي أنه استاء من هذه العبارة ورأى فيها تحديداً ضيقاً لموقفه وإحراجاً لمركزه. وأخبرني أنه أجاب في الحال على كتابك يبيّن لك ماذا يقصد «بالمراجع العليا»، وأنه لا يرى نفسه مسؤولاً إلا تجاهها أو مقيداً إلا بها. ففهمت أنه لجأ إلى هذا الأسلوب ليخبرك أنه ليس مسؤولاً عن الاعتذار إلا إلى الزعيم، وأنه لا يقبل محاسبة بهذا الشكل إلا منه. لم أعلم نص عبارته ولا روح كتابه إليك فهو لم يذكر لي شيئاً إلا باختصار كثير، وأنا لم أسأله الزيادة، ولكني شعرت بأنّ مراسلتكما ليست متجهة نحو التفاهم الودّي الذي رغبت فيه، والذي أشرت على جبران به بعد قراءتي كتاباً سابقاً منك إلى جبران رأيت فيه أنّ جبران كان قد أحرج مركزك وخاطبك في أمر له علاقة بي، دون أن يسألني موافقتي أو توجيهاتي. فكتبت إلى جبران أبيّن له منزلتك عندي وأفهمته أنك لست مثل الذين تألمت وتألم جبران من عقليتهم، وأني أرغب في مراسلتك، وأود أن تكون المراسلة بينك وبينه على مستوى عالٍ تشمله المودة ومحبة التفاهم.
بعد أن قرأت رسالتك الأخيرة المؤرخة في 25 يونيو/حزيران التي لا تزال عندي، رأيت الخرق الذي حدث صدفة يتسع عليكما. فرأيت أن أتدارك أمركما في الحال، لأنكما من أصدق القوميين الاجتماعيين وأخلصهم وأشدهم غيرة على القضية القومية المقدسة.
إني كنت كتبت إلى الرفيق [وليم] بحليس أخبره برأيــي في الرفيق جبران مسوح، أنه شاعر أكثر مما هو مفكر أو سياسي أو إداري. والحقيقة أنه في الأمرين الأخيرين على غير قاعدة وخالٍ من كل إمكانية. وهذا النقص في جبران مسوح هو بالنسبة إلى ما نطلبه نحن أو ما نحتاجه في هذه الظروف وليس بالنسبة إلى حقيقته هو، فهو في حقيقته كامل بالمقدار الممكن لطبيعته ونشأته واختباره. وإذا فهمناه كما هو لم نجد فيه إلا ما يحملنا على محبته ويدعونا لاحترامه. ولكن إذا حاولنا أن نفهمه كما نريد أو نود أن يكون فإننا نظلمه ونعاقبه بظلمنا إياه. وعندما قلت لوليم إنّ الرفيق مسوح شاعر أردت أن يشمل ذلك مزاجه العصبي الحاد. فهو إذا اندفع في ناحية حملته الحدة إلى مدى بعيد، وأحياناً كثيرة يعطي لك روعة ويجد قبولاً عند الكثيرين، لأنّ كلامه ينحصر في نقطة واحدة ولا يتشعب كثيراً، ويصب كل تفكيره وشعوره في تلك النقطة المنفصلة عن مصاحباتها، فتجد العامة في كلامه قوة وروعة. فجبران مسوح من ناحية أدبه كاتب شعبي من الطراز الأول عندنا، ولكن يجب أن لا نطلب منه أكثر من ذلك، وأن لا نكلّفه مخالفة طبيعته ومزاجه، وأن يتحول من كاتب حاد إلى مفكر عميق محيط بالكليات والجزئيات.
هذا ما أقوله فيما يختص بالرفيق جبران مسوح من حيث مزاجه وأسلوبه. أما الأمر الذي بينكما فعائد إلى كلامه الأول إليك عن وقت الزعيم وما شاكل. وقد أفهمته غلط نفسه فحاول إصلاحه. ثم جاء كتابك يحمل «قبولك اعتذاره» وانتقاداً على مقاله «خالهم الحصان»1 فساءه ذلك فحاول ما بيّنته آنفاً فيما يختص بالوجه الأول، أما الأمر الثاني أي مقاله «خالهم الحصان» فقد أخذ فيه وجهة غير الوجهة التي كان يحسن أن يأخذها. فهو بدلاً من دفاعه عن المقال ووجهة نظره فيه أخذ يدافع عن حقه بنشره بعد أن أجازه الزعيم. وهكذا تحولت المسألة من الوجهة الفكرية إلى الوجهة الإدارية القانونية، وهو من نتائج عدم تدقيق الرفيق مسوح في هذه المسائل. أما قوله إنه لا يقبل انتقاداً على مقالته من أحد غير الزعيم، كما ذكر لي أنه كتب إليك، فعائد إلى أنه أخذ المسألة من وجهة مناظرة لا من وجهة تفاهم بين رفيقين على مسألة لها علاقة بالأمور الفكرية والاجتماعية التي تهمّ النهضة القومية الاجتماعية.
أرى أنه يجب أن تفصلا بين الشؤون القانونية أوالنظامية، فترفعا ما تختلفان فيه إلى مراجعه، والشؤون الفكرية التي يمكنكما التباحث فيها ما شئتما. وهذا ما سأقوله للرفيق مسوح. وإذا كان هو خلط بين الناحيتين فأنت تشاركه في الخلط بقبولك الجواب على الناحيتين. ففي كتابك الأخير الذي تنكر فيه عليه التكلم بلسان المراجع أو النهضة، تقف موقفه عينه حين تقول «فالنهضة القومية، يا رفيقي، تفتش عن رجال، الخ». وهذا يجعلك منه في مركز المعلم الذي يشرح أموراً لجاهل هذه الأمور، كما كان كلامه إليك في موقف المعلم الذي يشرح المراجع العليا وما يختص بها وما لا يختص.
الأمر الأساسي لاختلافكما هو مقال الرفيق مسوح «خالهم الحصان»، وأنت فكرت في إبداء رأيــي فيه إليك، لأنك كنت أشرت إليه في بعض كتبك السابقة، هذا المقال هو حاد ومتمركز في نقطة واحدة ككل كتابات جبران مسوح، ولكن موضوعه الأساسي الذي لا يدل عليه عنوانه هام جداً لتفكيرنا القومي الاجتماعي وحركتنا. والحقيقة أنّ الرفيق مسوح كتبه بعد سماعه تذمري من انتشار مرض التزلف وطلب الوجاهة بين مغتربينا بالتفاخر بتقديم هدايا شخصية أو خصوصية إلى حكومات الأقطار التي يعيشون فيها. وكان تذمّري مبنياً على عدة أخبار أكثرها من صحف أميركة الشمالية، وتتعلق بأشخاص في الولايات المتحدة وكندا يقومون بتقديم هدايا فيها السراف وعدم رؤية، ولا تأتي بأية نتيجة قومية أو جنسية. وكان ولا يزال بودي معالجة هذا الموضوع من نواحيه الهامة. ولكن الرفيق مسوح أسرع بحسب طبيعته إلى كتابة مقاله «خالهم الحصان»، فأجزته له بعد تعديل قليل لينشر في الزوبعة موقعاً بتوقيعه، على أن أعود بنفسي إلى هذا الموضوع الهامّ الذي هو حلقة من سلسلة طويلة من مواضيع أمراضنا النفسية في الوطن والمغترب. أما حدة المقال فليست كافية لمنع نشره، وأما نظرة الكاتب فلك أن تخطئه فيها كلما شئت بالتكلم على التعيين وليس على الإطلاق وعلى التفصيل وليس التعميم. ففي التعميم والإطلاق ندخل باب الفلسفة الكلية ونخرج من الدائرة المحدودة للموضوع وكلامه. فلو أنك من الأول حاولت إفهام الرفيق مسوح المقبول عندك وغير المقبول من كلامه في مقاله المذكور، لكان الأرجح أن تكون المراسلة بينكما اتخذت غير هذا الوجه الحاد الذي خرج من نطاق موضوع المقال إلى نطاق تعليم نظام النهضة القومية وطرائقها، وأنت لست بعيداً عن فهم هذه الحالة. وهذه عبارتك في كتابك الأخير «... بل ما أظنه هو أنّ حضرة الزعيم يعطيك الحرية لتدرس الشؤون الاجتماعية حسب ذوقك وخبرتك، كما يعطي هذه الحرية لكل قومي، لكن لا أظن أنّ المنظمة القومية تحمل مسؤولية هذه الدروس»، إنه تفكير صحيح وإدارك جيد، ولو أنك عملت بهما منذ البدء أو لو بقيت ضمنها دائماً لما أخذ مقال الرفيق مسوح كل هذه الأهمية وكل هذه الحدة من جانبيكما التي تنتهي بك إلى هذا التعميم: «إذا اندحرت النهضة القومية في حربها على الرجعية، فما الحق على الأمة السورية، بل الحق علينا لأننا ما عرفنا كيف نقوم بحرب يجب أن نجند فيها كل الأمة السورية إذا أمكن». فما معنى قولك إذا أمكن، مع أنك قد عيّنت كيف يكون ذلك ممكناً وعيّنت على من يكون الحق إذا لم يكن ممكناً؟ ومن هو الذي يضع الحق على الأمة السورية؟ إنّ الأمة السورية لا حق ولا يمكن أن يكون حق عليها. ولكن الجيل الحاضر من أجيالها المملوء بالمفاسد والكثير الجهل والأغلاط يحب أن لا يحمل مسؤوليته. ولا يعقل أنّ قوة بعض الكتّاب القوميين الاجتماعيين في كتاباتهم، أو بعض كتاباتهم، هي التي ستكون السبب في «اندحار النهضة القومية في حربها على الرجعية». في كل النهضات في العالم يكون هناك كتّاب قاسون وكتّاب ليّنون، وكتّاب حارّون، وكتّاب باردون، وكتّاب سطحيون وكتّاب عميقون، وكتّاب من أصناف كثيرة، ولا يكون أمر من هذه الأمور هو السبب في اندحار بعضها أو انتصارها. إنّ الرفيق جبران مسوح قد كتب كتابات كثيرة ليّنة ولطيفة، ولكن الناس لم يتبعوا لطفها وليونتها، والذين سيحتجون بقوة بعض مقالاته للتخلف من تأييد النهضة السورية القومية فتخلّفهم سببه جهلهم لا مقالات جبران مسوح التي يكتبها بلسانه وعلى مسؤوليته من الوجهة القومية.
إنّ تجنيد كل الأمة السورية، أي الجيل السوري الحاضر مسألة فيها نظر طويل وتحتاج إلى تدقيق كثير بالمعنى الاجتماعي العلمي والمعنى السياسي. فنحن لا نعلم حزباً في التاريخ تمكن من أن يجند الأمة كلها في جيل من أجيالها إلا بتسلمه الحكم وبقبضه على أزمة القوة. أما نجاح حزب في الوصول إلى القوة فيكون بقدر عمله للحقيقة بإخلاص وبوجود اللين والقسوة جنباً إلى جنب فيه. هذا على التعميم، أما على التخصيص فكل أمر يجب أن يدرس في ذاته. وصدورنا يجب أن تكون دائماً مفتوحة للتساهل تجاه القوة الأدبية المشفوعة بالإخلاص، خصوصاً القسوة التي تناولت حالة عامة من غير تخصيص أنواع وأفراد. فبعض الأنواع والأفراد الذين يدخلون ضمن نطاق الحالة المذكورة يحتاجون القسوة، ووجود بعض من لا يحتاجونها لا يكون سبباً لمنعها. أما لماذا لم يميّز الرفيق مسوح في مقاله بين من يستحقون القسوة ومن لا يستحقونها فسببه أمران: الأول طريقة تفكير مسوح الخاص، والثاني أنه كتب على التعميم في حالة عامة لا على التخصيص. فهو كاتب هذه حدود مقدرته الكتابية. فهو أديب روائي شعري حاد المزاج مرّ العبارة في الحمل والتشجيب. ولو لم يكن هذا مزاجه لكان يفهمك على غير ظاهر عبارتك النقدية له التي تأخذه أحياناً بالكليات في معرض الجزئيات فيثور، كما تثور أنت عندما ترى أنه يقيسك بغيرك في كتبه إليك.
الخلاصة، إنكما من أشد القوميين إخلاصاً وغيرةً واهتماماً، ولو أنكما اجتمعتما متقابلين لخرجتما متفاهمين كل التفاهم ومتحابين كل التّحاب، ولكن المراسلة تبقي أشياء كثيرة غير مذكورة اختصاراً للوقت. والاقتضاب مع اختلاف الأسلوب يشوش القصد. ونصيحتي لكما هي أن تترويا وتدققا كل واحد في عبارته إلى الآخر، وأن تحدّدا موضوع الكلام فلا يتناول هذه الدنيا الواسعة دفعة واحدة.
إني أعتمد عليك أن تفهم جبران كما هو أكثر من اعتمادي عليه. فأنت لك نظرة عملية في الأمور ليست له، ويمكنك أن تؤثّر عليه كثيراً بتساهلك ورحابة صدرك ولطف أسلوبك. وإني لم أقل كل ما كان يمكن أن أقوله لو أني اطّلعت على جميع مراسلتكما. فإني قد بنيت استنتاجاتي على ما وصل إليّ وهو ليس الكل. ولكني ضربت صفحاً عن التحقيق في الكل وفي جميع العبارات، لأني أجد في روحيكما وحسن قصدكما ما يغني عن الذهاب إلى هذا الحد.
فإذا شئت أن تكتب إلى الرفيق مسوح منتقداً مقاله في موضوعه الأساسي وفي أسلوبه، فاكتب وبيّن رأيك بالتفصيل وأظهر المواضع التي تظن أنها تضر أو أنها تفيد أو أنها لا تنطبق على الحقيقة. أما تشجيب المقال بكلام عمومي قليل يقال للكاتب الذي كتبه مقتنعاً بصوابه، فلا يفيد كثيراً ويظهر بمظهر النقد الحاكم الغاضب المهدم، في حين أنّ القصد التعمي لا الهدم. واعتبر ما جرى سوء تفاهم وهو لا مفر منه في حركة تبدأ تجمع عناصر من بيئات وأساليب متفرّدة ومختلفة.
بقي أن أبدي ملاحظة على اندفاعك أنت الذي يكاد يفوق اندفاع جبران في تثبيت وتوكيد ما ترتأي. فقد وردت في كتابك الأخير إلى جبران هذه العبارة «حتى ترى، يا رفيقي، كيف تشعر بالجرأة القومية لا أكتم عليك أني سأبدي رأيــي إلى حضرة الزعيم رأساً بصدد خاتمة «جنون الخلود» التي ما وجدت فيها ما يتفق مع سمو الأبحاث السابقة. فالعودة على الأفراد كانت بمثابة الاهتمام بالموتى. فالخوري وفرحات وأبو ماضي لا مكان لهم اليوم في عالم الشباب السوري، فلماذا العودة إلى أجيافهم؟».
هذه العبارة تقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول، إعلان العزم على إبداء الرأي للزعيم في صدد إحدى المقالات. الثاني، وصف المقالة المذكورة بعدم الاتفاق مع سمو الأبحاث السابقة. الثالث، إبداء الرأي الذي كان في النيّة عرضه على الزعيم لأحد الرفقاء بصورة انتقاد على المقالة المذكورة.
القسم الأول، وجيه ومقبول، والقسم الثاني غير ضروري وغير مبني على درس دقيق، والثالث انتقاد غير ناضج في غير محله. وإليك البيان: القول إنّ خاتمة «جنون الخلود» غير متفقة مع سمو الأبحاث السابقة هو قول ناقص في المعرفة على الأقل. فهاني بعل قال في المقالة التي تقدمت المقالة التي تشير إليها إنه قد أتمّ بحثه وإنه سيقول كلمة ختام. فكلمة الختام منفصلة عن البحث، ولكن لها علاقة وثيقة بأسباب البحث المذكورة تكراراً في بدء السلسلة، والسلسلة لا تكون كاملة بدونها. وشرحك قولك المذكور «العودة على الأفراد كانت بمثابة الاهتمام بالموتى» هو نقص آخر في المعرفة. فعند من هم أموات أولئك الأفراد؟ أعند الشباب السوري كله؟ وإذا كان الجواب إيجاباً فمن هو الذي أماتهم؟ أكانوا أمواتاً قبل ابتداء لسلسلة «جنون الخلود» أم بعد ابتدائها؟ وإذا كانت السلسلة المذكورة هي التي أماتتهم، أمن الضروري أن لا تدحرج أحجاراً على قبورهم توكيداً لدفنهم؟
الحقيقة، يا عزيزي فؤاد، إنّ الأفراد المذكورين لم يكونوا أمواتاً، بل كان يحتفل بهم وبأسمائهم في مجامع ومجتمعات كثيرة. ويوجد سوريون كثيرون لم تكن تصل إليهم الزوبعة من قبل ولم يقفوا على كيفية موت أولئك الأفراد. ويوجد أفراد قليلون أو كثيرون كانوا يدافعون عنهم. وخاتمة «جنون الخلود» كانت ضرورية جداً من وجهة التشخيص النفسي لغير العارفين ولقليلي المعرفة بأولئك الأشخاص وللعارفين بهم. ومهما أمكن توسيع المعرفة وتوكيدها كان حسناً جداً خصوصاً حين الكتابة للعامة فضلاً عن الخاصة. وبعض الذين انضموا إلى النهضة مؤخراً يتحققون كتابة أشياء من جديد لهم ليعرفوا أو يؤثّروا في أوساطهم.
وبما أنّ الرفيق مسوح كتب مقاله بناءً على تذمري من حالة مرض نفسي متفشّ بين مغتربينا، فأنا أترك مقال جبران وأسلوبه له، وأتكلم قليلاً على الموضوع لتعلم أنه ضروري الكتابة فيه لردع كثيرين من التهور ولصدّ تيار المسابقة لإحراز حظوة في عيون حُكام الأقطار التي تنزل فيها مهاجرون سوريون اكتسبوا فيها وأكسبوها عمراناً وازدهاراً بجدّهم.
أنت تقول إنّ السوري الصحيح القومية أو الوطنية يجب أن لا يمنعه مانع عن القيام بواجبات تشترطها عليه اللياقة نحو البلاد المضيافة «حتى لا يكون يهودياً أو مثل اليهود». هذا الكلام مطلق ومعمم ولا يمكن تحصيل شيء منه بالنسبة إلى موضوع وجود تيار يجرف سوريــي المهجر الأغنياء نحو التزلف الشخصي إلى الحكومات الأجنبية، إما اكتساباً لجاه أو لالتفات خاص أو لمصلحة أخرى شخصية. خذ هذا المثل: أحد أفراد عائلة معلوف الأغنياء في الولايات المتحدة أهدى إلى الحكومة الأميركانية منذ ما يزيد على عقد من السنين عقاراً أو مبلغاً من المال يصل إلى رقم مئات الألوف من الدولارات، ونال وساماً أو رتبة شرف. ثم سافر هذا الثري إلى الوطن وزار كفر عقاب سنة 1934 وكان الأمين فخري معلوف، وهو من المشرع كفر عقاب، يعدّ مشروعاً لتكبير المدرسة التي كانت تديرها والدته المربية نظيرة معلوف، فرأى أن يسأل مساعدة نسيبه للمدرسة. وأقيمت لذلك الوجيه حفلة طنانة في كفر عقاب وتليت القصائد وألقيت الخطب، وألقى الأمين معلوف خطاباً جيداً عرض فيه لأمر التربية القومية وحاجة الأحداث. وبعد الحفلة حدّث نسيبه في مشروعه، فأذن ذلك النسيب الوجيه الثري بمبلغ خمسين دولاراً أو خمسين ليرة سورية لمساعدة مشروع المدرسة!! أليس هذا المثري أقل من يهودي بالنسبة إلينا إذا لم يكن أقل من يهودي بالنسبة إلى الولايات المتحدة؟ خذ مثلاً آخر، أحد الشبان المتخرجين في الجامعة السورية في دمشق سافر إلى المكسيك وأخذ يتحين الفرص لدخول الولايات المتحدة حيث له أخ وأقرباء. وفيما هو ينتظر أعلن أنه يحمل اختراعاً لبعض الآلات أو المتفجرات وأنه يريد أن يهديه للولايات المتحدة وهو بعد لمّا تطأ قدماه أرضها!! وقد مدحته جريدة السمير بمقال طويل! أليس هذا أقل بكثير من يهودي؟!.
ويوجد مثرون في أقطار أميركية كثيرة أهدوا حكوماتها هدايا، تلك الحكومات بغنى عنها، وليس فيها مظهر شعبي لأنها من أفراد خصوصيين، وصارت المسألة شبه مزاحمة شخصية ومسابقة على الشرف الشخصي، وليس من أجل الشرف القومي أو الجنسي. فهل هذ شيء أفضل من حالة اليهود؟ وفي أي الأمم الحية يبلغ عد المتزلفين إلى الحكومات القائمة في بلاد المغترب عدد الأغنياء السوريين المتسابقين على هذا الشرف؟
إني أعتقد أنك أنت الوحيد بين جميع الذين أهدوا إلى حكومات أميركية الذي قدم بنيّة سليمة وباعتقاد له صلة بمبدأ عام قومي أو جنسي. واعتقادي مبني على انضمامك إلى النهضة القومية واهتمامك بها وبمساعدتها. ولولا ذلك لما كان بد من حشرك مع المتزلفين، لأنك تكون فعلت ما كان يجب أن توجهه إلى أمتك أولاً. وجميع الذين أهدوا هدايا كبيرة من طيارات ومصانع وأموال لم يهدوا إلى أمتهم عشر معشارها، فلا يبرر تزلفهم الشخصي شيء. فهم أقل من اليهود تجاه أمتهم وتجاه الذين أهدوا إليهم، فأمتهم تجد أنها أنجبتهم لفائدة غيرها وهي ذليلة. والذين أهدوا إليهم يجدون أنه كان أحرى بهم أن يساعدوا أمتهم أولاً لرفع الذل عنها، ثم بعدئذٍ يليق بهم أن يهدوا هدية أحرار إلى أحرار.
وبعد فالهدايا القومية من شعب إلى شعب تكون مجموعية لا أفرادية، كتمثال نزلاء البرازيل في عيد استقلالها المئوي. وبعد، فماذا جرى لهذه الهدية، وإنها في مكان تحفُّ به الزبالة والأوساخ فلا المهدون يهتمون به ولا المهدى إليهم، أليس ذلك لأنّ حالة السوريين المغتربين بلغت دركاً أحط من درك اليهود بسبب ذل أمتهم؟!
إنّ الحر لا يفتخر بهدية أهداها إليه عبد. وأما أمر اليهود فقد كانوا يُرمون بنكران الأوطان التي صارت أوطانهم. فهم ولو امتزجوا بأهل بلاد مهجرهم وولدوا في تلك البلاد جيلاً بعد جيل فلا يقدّمون واجباتهم الوطنية نحو البلاد، وليس هذا شأن السوريين، ولا شأن الإنكليز، ولا شأن الفرنسيين، ولا شأن غيرهم، فهؤلاء لا يزالون مرتبطين بأوطانهم التي خرجوا منها ويحملون جنسيتها وتأتي واجباتهم نحوها أولاً. ولكن تيار العقوق بين مغتربينا قد جرف هذه الواجبات فهم يعطون حكومات مهاجرهم، بصفة شخصية خصوصية جملاً ويعطون أمتهم أذن جمل، ولو عكسوا الفعل لكان لأذن الجمل التي يهدونها إلى حكومات المهجر قيمة أعلى من قيمة الجمل المهدى من أشخاص كان الأوْلى بهم أن يقدّموا لأمتهم المحتاجة إليه أكثر كثيراً من الحكومات المذكورة. وهذه الحكومات تدرك ذلك جيداً ولذلك ترى أنّ جميع هدايا السوريين الخصوصية لم ترفع منزلة السوريين قيد شعرة في نظر الأجانب. فالذي يرفع السوريين هو عملهم كشعب عزيز يفدي الحرية بالنفس والمال، فإذا نال السوريون حريتهم كان ذلك أرفع لشأنهم من جميع الهدايا الخصوصية. إنّ الصحافة السورية المتزلفة التعيسة قد شجعت هذا التيار وغررت بالناس فيه. لأنها هي لم تقصد غير التزلف إلى الأغنياء والوجهاء. ولكني أرى أنّ هذه الحالة يجب أن لا تدوم ولا فرق كبيراً بين أن يجري التنبيه بلغة خشنة أو بلغة لطيفة، فخشونة اللهجة يجب أن لا تصبح حجة لعدم الإقبال على الإصلاح والتيقظ.
إنّ غلط جبران مسوح هو غلط تقني فني، ولكن غلط هذه الطائفة الكبيرة من المغتربين هو غلط روحي فكري. وقد علط جبران مسوح في عدم وضع عبارة استثناء لواحد أو اثنين، ولكن ذلك لا يجعل موضوعه غلطاً كله ولا نقض قصده الأساسي. بل إني أفضّل هذا الغلط على إيجاد الاستثناء الذي إذا لم يبيّن المستثنين كان وسيلة ليستثني كل واحد نفسه ويتهم الآخرين.
أعود الآن إلى انتقادك خاتمة «جنون الخلود» التي يفيد الشرح المتقدم لفهم الموقف منها. فالزعيم يعرف جيداً جميع هذه الأفكار التي تعرضها لجبران مسوح. وهذا الافتراض على الأقل، كان يجب أن يمنعك عن إبداء هذا الانتقاد، الذي قد يكون في غير محله، لأفراد قوميين قد يقبلونه ويتعرضون، بناءً عليه، لإساءة فهم الزعامة وإساءة تقدير مقدرة الزعيم وكفاءته ومعرفته، لأنّه إذا كانت تفوت الزعيم هذه الآراء البسيطة الشائعة التي لا تنفرد بها أنت، فكيف يجوز الثقة بكفاءته السياسية والاجتماعية والإدارية؟ وإذا بقي قسم من الثقة فهل ينتفي الشك؟
لو كنت في مكانك وأردت إبداء نظرة في أمر أتاه زعيمي واعتقدت، لنقص اختباري ومعرفتي عن اختباره ومعرفته، أنه غير مصيب لوجدت واجبي يتطلب مني عدم الجزم برأيــي قبل عرضه على زعيمي ووضع رأيــي في موضع شك أكبر كثيراً من الشك في رأي زعيمي، وعلى افتراض وجد صديق ورفيق حميم أطلعه على ما يخالج نفسي فإني كنت أضع عبارتي بهذه الصورة «لا أكتم عنك أني سأبدي رأي كذا إلى حضرة الزعيم رأساً في صدد مقالة كذا، فقد بدا لي حسب تفكيري، أنّ هذه المقالة غير متفقة مع الأبحاث السابقة ولكن قد يكون للزعيم غرض معيّن من وضعها كان خافياً عليّ. وقد يكون في ملاحظتي ما يطلع الزعيم على محل ما تناولته المقالة في بيئتي وعند الأوساط التي أتصل بها وهو في كل حال أدرى مني بالأصلح». هذا ما كنت أشعر أنه يجب أن أقوله أو أكتفي بقوله لكي لا أظهر بمظهر من يخطّىء الزعيم ويجعل تفكيره وآراءه في مقام تفكيره ورأيه وهو مبلغ لحقيقة الزعامة والأساس الذي تقوم عليه. لأني إذا كنت أعتقد أنّ تفكيري وإدراكي لهذه الأمور الاجتماعية السياسية مساوٍ لتفكير وإدراك زعيمي فقد انتقض في نفسي مبدأ التسليم الأساسي بزعامته ومبايعته على الأمر والطاعة. ومتى انتقض هذا المبدأ في الأساس فأية فائدة من بقائه في الشكل فقط (emforma)‚ ولكن إذا كان هذا المبدأ قائماً في الأساس فكيف يجوز أن أضع هذه العبارة الحاملة روحية التخطئة وأرسلها إلى رفيق آخر قد يتأثر بها، وأنا بعد لا أدري إذا كان زعيمي لا ينقضها ويريني أنها غير صحيحة؟ وتكون النتيجة إيجاد الشك والتشويش الروحي وإثارة رغبة الانتقاد بدلاً من رغبة الاستطلاع والتعلم والدرس.
الحقيقة، يا رفيقي، أنّ اليهود الذين تأنف من مساواة أنفسنا بهم صاروا يأنفون هم من مساواة أنفسهم بنا. إنهم كانوا مكروهين لحبهم المال فقط ولعدم وجود قضية معنوية لهم. أما الآن فقد أوجدوا قضيتهم وهذه حكومة الولايات المتحدة وحكومة بريطانية وجميع حكومات «الأمم المتحدة» تعترف بهم، وتفتح مجالسها لمندوبيهم وممثليهم، وتقبل أن يرتفع علمهم إلى جانب أعلامها، ولا تنظر إذا كانوا قدّموا إليها هدايا خصوصية أم لم يقدّموا، لأنها تنظر إلى قوة عقيدتهم وحسن نظامهم وجهادهم، واعتبر في أمر المستشفى السوري الذي لم ينقذه الكرم الزائف، بينما مستشفيات اليهود قائمة.
إنّ الهدايا التي ترمز إلى منزلة شعب هي الهدايا المجموعية المقدمة باسم الشعب، لا الهدايا الخصوصية المقدمة بأسماء أفراد أو بأسماء شركات تجارية. فقطعة قماش أو سلاح أو خشب رمزية تهدى إلى حكومة باسم شعب أو جماعة مغتربة منتسبة إلى شعب حي لها قيمة أكبر كثيراً من جميع الطيارات والغواصات والمدرعات التي يهديها أفراد بصفتهم الخصوصية، إذا كانوا يقصدون فخراً لجنسهم. أما إذا كانوا يقصدون منافعهم ومصالحهم الخصوصية، فأمرهم لا علاقة له بجنسهم وقوميتهم.
إنّ جبران مسوح لم تكن له هذه الأفكار وهو يصرّح بذلك. وهو بنى مقالته على تألمي وعبارات مقتضبة بدرت مني في هذا الصدد لدى قراءتي أخبار المسابقات على الهدايا، بينما أبطالنا في السجون وحركتنا في الوطن تقاسي الأهوال بلا مساعدات ولا هدايا ولا بلوط، وشعبنا يجوع وتعركه المنافسات الرجعية المتواطئة مع الغايات الأجنبية. إنّ هذه الآلام تكاد تخنقني كما تكاد تخنق أمتي.
إنّ جبران مسوح مستعد دائماً لإصلاح كل فكر أو عمل يشير به زعيمه، أما أسلوبه الكتابي فيجب أن لا نحرمه شخصيته فيه. إني قد قلت عنه إنه ذو مزاج شعري وتفكير شعري، وإنه ليس سياسياً ولا دبلوماسياً ولا إدارياً، ولا أطلب منه أن يكون شيئاً من ذلك، بل أقبله كما هو بإخلاصه وصفاء سريرته وبحدّته وبتطرفه وبقسوته أحياناً، وكلما بدر منه شيء من ذلك في سبيل المصلحة القومية الاجتماعية، حتى ولو كان غلطاناً، كذلك أقبلك أنت كما أنت بحلوك ومرّك، وقد قلت ما قلته بقصد توجيهك ولفت نظرك إلى وجهات جديدة وليس بقصد تقديم جبران مسوح عليك، ولا بقصد تعزيز شخصيتي، فأنطون سعاده لا يريد منزلة أعلى من منزلة أي فرد سوري حر، ولكن الزعيم ليس مجرّد شخص أنطون سعاده، إنه ممثل جميع القوميين الاجتماعيين، وكرامتهم وكرامتك وكرامة جبران مسوح من ضمنها. إنه يمثّل ويعبّر عن أشواق الأمة ومثلها العليا وإرادتها ومقدرتها، وهذه أشياء مقدسة توجب أشد الاحترام وأعظم الدقة.
لا قول إنك لا تشعر بهذا ولا تدركه، ولكني أقول إنك تحتاج للتدقيق في تطبيق أقوالك وأفعالك على شعورك وإدراكك. وإني أوصيك كما سأوصي الرفيق مسوح، أن لا تكون سريع التأثر لذاتيتك بهذا المقدار فشدة التحمس الشخصي هذه قد تصل بك كما قد تصل به، إلى حرمان المجتمع الذي تنتمي إليه من الفوائد الكبيرة التي أنت كفؤ لتقديمها إليه.
سأكتب إلى الرفيق مسوح وأرشده إلى أغلاطه. كما أرشدتك إلى أغلاطك التي بدرت عن حسن نيّة، وسأطلب منه كتابك السابق إليه الذي هزه ليجيبك كما أجابك. ويا ليتني أحصل على كتابه إليك لأعيّن له مواضع غلطه، وأتمنى أن يكون في ذلك خير أمتي الذي لا أبغي خيراً سواه.
كتابك إلى السيد نجيب حنكش قد صار في حوزتي ولم أشأ نشره قبل سؤالك إذا كنت ترى في هذه الظروف ما يدعو إلى تأجيله. السيد نديم عبود في سان باولو شيء، وفي بوينس آيرس شيء آخر. لم يحدث بيني وبينه شيء خاص، ولا سوء تفاهم. ولكن تصرّفه هنا ليس كتصرّفه هناك. فهناك يرى تحبيذاً في الأوساط وفهماً فيجاريها، وهنا يرى أعمال المفسدين والمشاغبين فيوقف موقفه لها.
أما [إلياس] الفاخوري فأعرف ثبات عقيدته وحسن تصرّفه الشخصي، ولكن خلله النظامي واعتداده بنفسه كانا معروفين عندي وهو بعد هنا. وأنا لم أقصد سوى إصلاحه ودعوته إلى النظام والقانون في الشؤون النظامية والقانونية.
لا أدري ماذا جرى لرسائلي الثلاث التي أرسلتها إلى وليم [بحليس] بعد كتابه المؤرخ في 20 أبريل/نيسان الماضي. فقد خابرته بشأن المطبعة وقلت له إنه يوجد هنا جهاز أمهات من جسم 14 يصلح للأخبار والحواشي في الجريدة والكتب وثمنه نحو ألفي فاس، (ريالات أرجنتينية) فهذا الجهاز مع جهاز 24 الموجود في سان باولو يكفيان، مع ما يلزم من جسم 36 أو 28 للعنوانات لإصدار جريدة جيدة وإصدار كتب، وأرسلت إليه قائمة بأسماء مشتركي الزوبعة في البرازيل.
كتبت إليه أيضاً في أمر قدومه إلى جانبي يعينني على العمل، ويصبح لدي وقت للاهتمام بأمور هامّة ومراسلة الرفقاء بنفسي. فإذا أمكن إصدار الجريدة نصف أسبوعية تحت إشرافي كان له عمل كافٍ، ويمكنه الاهتمام ببعض الأعمال التجارية أو يمكنه الاهتمام بالتجارة أولاً ومساعدتي في المراسلات وأعمال مكتبي.
لو كان الرفيق وليم هنا منذ السنة الماضية لكانت الأعمال سارت بسرعة مضاعفة وأعطت نتائج مضاعفة. فالنقص الكتابي يشلّ قسماً لا يستهان به من الحركة ويؤخر اختمار الأفكار. أتمنى أن تكون والعائلة الكريمة بخير وصفاء. قرينتي تشترك معي في إهدائك والعائلة السلام.
سلامي القومي إلى الرفقاء والأصدقاء، وليكتب لي وليم. ولتحيى سورية .