31/7/1941
رفيقي العزيز وليم،
إني صرت أعمل تحت ضغط عصبي وتعب فيزيائي دائمين. وبدلاً من أن تفكروا في تحرير نفسي وجسمي من المتاعب الباطلة تفكرون في كيف تعوضون عن تفكيري بتفكيركم.
تسلمت كتابك الأخير المؤرخ في 16 يوليو/تموز الحاضر. وهو مرسل قبل وصول كتابي الأخير إليك الذي أجبت فيه عن كتابك السابق المؤرخ في 4 يوليو/تموز الحامل نسخة كتاب قديم لم يكن وصل إليّ. سرّني أن يكون فؤاد [لطف الله] فهم الغاية من كتابي إليه. وسرّني أكثر أن أعلم أنه أخذ منه درساً واسعاً للمستقبل فلا يحوجني في هذه الظروف الحرجة إلى العودة لكتابة مثله، الأمر الذي يكلفني تضحيات كثيرة روحية، ومادية الآن، واذا كان لا بد من قول كلمة حول من كان السابق إلى مسّ إحساس الآخر بذاتيته، فأقول إنه قد يكون جبران [مسوح] المبتدىء وقد يكون نسي ما كتب قبل. وأنا قد بيّنت لفؤاد أنه ليس القصد من كتابي تفضيل جبران عليه، فللكتاب غرض آخر هو إصلاح المعوج من فؤاد.
أما القول الذي ورد في كتابك إنّ فؤاد كتب العبارة المشوشة التي أظهرت له غلطه فيها، بقصد سحق كبرياء جبران القائل إنه لا يقبل ملاحظة من أحد، فلا يبرر صيغة العبارة التي تمسّ الزعيم المعلم في عمله ومقدرته. فلو قال فؤاد إنه سيبدي ملاحظة على إحدى مقالات الزعيم وهو متأكد من ورود جواب من الزعيم يشرح ما أغلق عليه[...] أما أن يقول لشخص ثالث غير الزعيم «لماذا العود على الأموات والاهتمام بالجيف؟» فهو لوم صادر عن حكم جازم بفساد مقالة صادرة عن قلم الزعيم. وهو يعني أنّ كل فرد له الحق بانتقاد الزعيم تجاه الآخرين على هواه فكأنه يدل الآخرين على انتقاد الزعيم فيما بينهم بدون التروي والرجوع إليه أولاً. وهو لو كان وجّه كلامه لي وحدي لما كان للهجته هذا الشكل من الضرر العام. وكنت أنا أفهمه حسبما أعرفه. ولكن ليس جميع الأعضاء قادرين على فهم المسائل كما يفهمها الزعيم.
والآن أريد أن أعلّق على نقاط أخرى وردت في كتابك الأخير. فأنت تقول: «قرأت الكتاب أولاً وثانياً فتصورت حضرة الزعيم من خلاله عاملاً معتنياً برفقائه معطياً لكل منهم ما يلزمه من الدروس والنصائح، الخ». ثم تقول: «لأني أعلم أنّ معاليكم تفضّلون رجلاً يفتش عن الحقيقة ويجادل في سبيلها حتى يجدها. وعندما يجدها يرضى بها ويتقبلها كما هي أكثر من ألف ألف رجل، الخ». ثم تقول: «كان فؤاد صارحني مثلاً بعدم استحسان الكلمة الأخيرة وهذا نقلته إلى حضرة الزعيم. لكنه كان دائماً يقول لي أيضاً: إنّ حضرة الزعيم يرى ما لا نراه في هذه الأمور، ولا بد أنه سيشرح لنا نظريته، الخ». فمجمل هذه الأقوال يدل على أنّ التفكير عندكم لا يحاول أن يرتقي من البسائط إلى المركّبات. ففؤاد يفتكر وأنت تقبل أن «يشرح لنا الزعيم نظريته». كأنّ لا همّ للزعيم غير شرح نظريته لكل رجل «يفتش عن الحقيقة ويجادل في سبيلها حتى يجدها». ولو كان في ذلك حرمان الخطة العامة المرسومة عند الزعيم والجماعات الكبيرة التي يعالجها الزعيم، من ساعات ثمينة من وقته ليتمتع أي واحد من هؤلاء الرجال بالاطلاع على الحقيقة من الزعيم رأساً بدون أن يتكلف هو الانتظار ليفهم أهميتها من نتائجها التي قد تحتاج بعض الوقت لتظهر.
وهذه الفائدة المحدودة التي تحصل بهذه السرعة لفرد كثيراً ما تضر الزعيم بتكليفه مجهوداً فوق منهاجه وساعات عمله، وتضر القضية نفسها بأخذ وقت من عمل الزعيم وقسم من قوة تفكيره. الثقة أساس نظامنا وهذه الطريقة لا تدل على فهم النظام ولا على احترام له. ففي نظامنا كما في كل نظام اجتماعي سياسي راقٍ، الثقة ركن من الأركان الأولية. وهذه الثقة يجب أن تكون تامّة متبادلة بين الجميع بالنسبة إلى الصلاحية والاختصاص. فالمختصون بالإذاعة مثلاً، يجب أن يثقوا من جهة المختصين بالسياسة بأنهم يدركون مهمتهم ويعرفون الأصلح ويغارون على المصلحة مثل الأولين. وهكذا جميع أهل الاختصاص والحائزون ثقة الزعيم والأعضاء يجب أن تكون ثقتهم قوية بالذين يحملون المسؤوليات، وثقتهم بالزعيم يجب أن تكون تامّة بقدر ما هي مطلقة. لأنها أساس الإيمان والثقة بالفوز. والذين يحبون الاستفادة الفردية يجب أن لا يعرقلوا الخطط ويثيروا الشكوك حولهم وحول المراجع العليا لكي يستفيدوا. ويجب أن يكون عندهم شعور حي بمسؤولية العاملين ووجوب التخفيف عنهم. والرجال الذين يحبون البحث لولع خاص بهم أو ليشبعوا جوعهم إلى الحقائق، يجب أن لا يكونوا كالأطفال لا يقدرون أن يدرسوا شيئاً بالبحث والتأمل، ولا يتعلمون شيئاً إلا بالسؤال ما هذا، ولماذا ذلك، ومن أين ذلك، وبطلب الجواب من أحد العاملين ليل نهار للقيام بواجبات مسؤولياتهم.
ولماذا هذا الجمود والخمول والولع بانتقاد واستقصاء ما يقوم به المسؤولون، مع إهمال ما كان يجب أن يقوم به المنتقدون والمستقصون؟ أما كان الأفضل للحركة أن تنصرف أنت وفؤاد إلى توحيد جهودكما وتفكيركما في خطة عملية لربح مناصرة فريق من الذين أصبحوا مقتنعين بصحة النهضة وتحقيق مشروع إذاعي، من أن تجتمعا على الكلام على هذه المقالة وتلك المقالة، وصواب الواحدة وغلط الأخرى بالظن والتخمين، والاعتماد على ما يسمع من غير الفاهمين؟
تقول إنّ لفؤاد رأياً في الأغنياء وكيفية اكتسابهم، فهل تظن أنت وفؤاد أني لا أعرف بوجود الأغنياء ولم أفكر بأمرهم؟ وإذا كنتما تعتقدان أني فكرت في ذلك فهل تظنان أني لا أعرف كيف يعالجون على الوجه الأكمل؟ فإذا كنتما تظنان ذلك فلا مانع من أن يقدّم أحدكما رأيه، مع العلم أنه رأي أولي غير اختصاصي، يبدى لذي الرأي الأخير الاختصاصي من غير إنشاء مسألة جدلية حول الموضوع تقتل الوقت والجهد في الأخذ والرد من أجل أن يستفيد هو بعض الدروس النفسية والسياسية.
إنّ مسألة الأغنياء، ومسألة الجماعات، ومسألة الأفراد، ومسألة الطبقات، وغيرها، هي مسائل استغرقت قسماً كبيراً من تأملاتي ودروسي النفسية والسياسية والاقتصادية. ولا يغفل أن أكون فكرت في وجوه نظر مثل تلك التي يبديها فؤاد. وإذا رجع فؤاد إلى بعض ما كتبته ونشرته في سورية الجديدة كخطابي الموجه إلى جالية البرازيل (انظر ج 3 ص 373)، ومقالي، «شعب منقسم على ذاته» (انظر ج 4 ص 191) وغيرهما، وجد أني لم أهمل قط نظرية استعمال الحكمة، والإتيان بالحجة لقتل الأحقاد الماضية، ووضع بلسم على الجراح وإفهام الجميع، من أغنياء وغير أغنياء، أننا للجميع ونحترم جميع الذين يحترمون أنفسهم ويحافظون على شرفهم. وإذا كان يلزم الاهتمام أكثر بالأغنياء وكيفية معالجتهم فهذا أمر يتعلق بالنظريات بقدر ما يتعلق بالعمليات. والعمليات تتطلب زيادة الوسائل وزيادة عدد العاملين ليصير توزيع عمل الذي هو القاعدة الوحيدة لسد حاجات متعددة في وقت واحد. وبدون هذه الزيادة تكون جميع الآراء الجيدة والنظريات الصائبة عديمة الجدوى وقليلة القيمة. فكم من الآراء والمشاريع الجيدة يجول في ذهني ولا أجدني قادراً على الاهتمام إلا بجزء صغير جداً منها. وببعضها مدة، ثم ببعضها الآخر مدة أخرى، ويبقى معظمها جامداً حيث هو، إذ لا سبيل إلى تنفيذه. ثم تأتيني آراء فجة أرى أنها غير ناضجة مثل الآراء التي وردت في بعض كتبك وكتب فؤاد، كرأي عدم ذكر أسماء في المقالات وغير ذلك. وجميع هذه الآراء قد تواردت على ذهني من سنين عديدة[...] حق إبداء الرأي. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ بل يتعداه إلى مناقشتي وطلب إيضاح في كل أمر ومسألة مما يدل على إحاطتي بكل موضوع أتناوله وأجيزه. وهذه أمور مخالفة للنظام فليس معنى إبداء الرأي تخويل كل فرد حق الاستيضاح عن كل أمر والمناقشة في كل مسألة هي من اختصاص مراجعها. بل معناه أنّ كل من يرتأي رأياً حسناً يجوز له تقديمه والمراجع المختصة لها حق أن تفصل به ما تريد، لأنه إذا كانت هذه المراجع ستفتح أبوابها للأخذ والردّ مع كل سائل ومستوضح فلا يبقى لها وقت كافٍ لغير ذلك.
إنني أحب فؤاد وأقدّر ذكاءه. ولكنه ليس من أهل الاختصاص في مسائل النفس والاجتماع والسياسة. وإذا كان يريد أن يدرس أحد هذه العلوم فيجب أن لا يطلب أن يجعل من الزعيم معلماً خاصاً له، خصوصاً ونحن الآن في ساحة جهاد. وكل منا يجب أن يجاهد بما يعلم ويحسن وما يقدر. وله بعد ذلك أن يدرس ويتعلم ما يشاء. أما في الحزب فالعلم للعموم وليس للأفراد، إلا نادراً وفي ظروف معيّنة ولأسباب دولية وليس لأسباب فردية.
إنّ خطة عملي واضحة في فكري. وما أحتاج إليه هو العمل وإمكانيات توزيعه ووجود المستعدين للتنفيذ وليس للآراء. وقد كتب مرة الرفيق مسوح مقالة1 بناها على درس ألقيته على الأعضاء في بعض الاجتماعات في الآراء وأنواعها وقيمتها. ومن الرجوع إلى هذه المقالة لمعرفة نوع الآراء المرحّب بها دائماً وهي الآراء التي تقترح أعمالاً تبيّن لنا إمكانيات تنفيذها العملية وكيف تحصل لنا هذه الإمكانيات عملياً، بدون عرقلة سير الخطة وبدون توقيف أعمال أخرى. ولو أنك وفؤاد تنصرفان إلى درس إمكانيات دعم مكتب الزعيم، وتأمين وسائل الإذاعة وإيجاد عدد من المتعاونين، لكان ذلك أفضل لبلوغ ما يتمناه فؤاد وما تتمناه أنت وما يتمناه سواكما من المخلصين، لأني حينئذٍ أتمكن من توزيع الأعمال المتعددة والقيام بعملة كبيرة واسعة في آنٍ واحد، تكفل مقداراً غير يسير من النجاح. أما إذا كنتما تعتقدان أني أحتاج إلى آرائكما قبل كل شيء، وإلى نظرياتكما في بعض أجزاء المجتمع كالأغنياء وغيرهم، وأنّ هذا ما يلزم للنجاح فأنتما في ضلال كبير. ولا يعني ذلك أنكما خاليان من كل رأي مفيد أو أنه ليست لكما آراء يمكن الاستفادة منها، بل يعني أنه يجب أن تهتما بالأكثر بما هو ضمن حدود معرفتكما ودائرة عملكما. فرأي فؤاد في استحسان إصدار بلاغ لمنع التقولات والتأويلات، وإن يكن قابل الاصطباغ بصبغة عامة، كان رأياً مبنياً على سبب في المحل عينه. وقد تبنيته وأصدرت بلاغاً في هذا الصدد2. وهذا دليل على فهم الزعيم الواجب من الآراء وغير الواجب منها. فلو لزم كل واحد حدوده لما حصل تصادم. على أنّ المعلومات هي دائماً ضرورية وجميع الأعضاء، الموظفين وغير الموظفين، مكلفون بنقل المعلومات إلى مراجعهم أو إلى من يهمه الأمر. وصاحب الشأن يبني على المعلومات ما يشاء من الآراء. هذا هو النظام وبدونه لا يقوم عمل عام ناجح، بل تصير الأمور والخطط فوضى آراء ومنازعات فردية.
وكم كنت وددت وأود أن تكون أنت وفؤاد إلى جانبي. فقربكما إليّ يمكّني من إفادتكما من غير تعطيل الأوقات وعرقلة الأعمال. ولو أمكنكما أن تخصصا للعمل معي ضمن الخطة الكبرى لكان ذلك من أحسن ما أتمنى، وحينئذٍ كنت أدربكما على القضايا والأعمال. ولكن أن تلزما حدوداً ضيقة من العمل القومي الاجتماعي ثم تقفزا فوق تلك الحدود كلما عنّ لكما أو لأحدكما وتطلبا الإحاطة بحدود جميع الأعمال، فأمر لا يمكن تحقيقه عملياً بدون إلحاق الضرر بأعمال المنظمة وخطتها. إنه قد يخطر في بالك وفي بال فؤاد أنّ ما أقوله هو بعيد عما تقصدان. وقد يكون ذلك صواباً. ومع ذلك فقولي يعبّر عن حقيقة الواقع التي قد لا تكونان فكرتما فيها.
تقول إنّ فؤاد يبدي رغبته في كتابة مقالات للزوبعة وإنك شجعته. وأنا أود تشجيع فؤاد في ما يرغب فيه ويميل إليه. ولكن على فؤاد واجبات هو مسؤول عنها أكثر مما هو مسؤول عن التمرن على الكتابة وتعلّم السياسة الاجتماعية ـــ الاقتصادية بواسطة كتابة المقالات للزوبعة. فهو قبل كل شيء رجل صناعي عملي مالي. ومعظم اجتهاده يجب أن يكون في هذه النواحي التي تخصص فيها ونجح. ولكن فؤاد قد استخف كثيراً بهذا الرأي الذي قاله الرفيق غالب [صفدي] بتعبير أعوج، ومع ذلك فالرأي في أساسه وجوهره وجيه. فإذا كان المالي العملي يريد أن يصير أديباً وكاتباً سياسياً، مهملاً للأمور التي يحسنها ليجرب حظه في أمور لا خبرة ولا علم له فيها، والأديب والسياسي يريدان أن يصيرا صناعياً الواحد ومالياً الآخر، فما هي النتيجة التي تحصل للعمل القومي الاجتماعي؟ فوضى في فوضى. إنّ مبدأ توزيع العمل يقوم بإسناد العمل إلى الذين يحسنون ولهم خبرة فيه. وهو يقول أيضاً بعدم انتقال عاملين من جبهة إلى جبهة أخرى إلا بأمر أعلى مبني على إلغاء تلك الجبهة أو على وجود من يحلّ محل العاملين المنتقلين. وإذا كان فؤاد يريد أن ينتقل من واجب درس قضايانا المالية وتسهيل أمورها بمقدرته العملية إلى الاهتمام بالشؤون الأدبية البحتة أو الفكرية الاجتماعية التي لم يسبق له درس شيء من خصائصها العلمية والفنية، فهذا لا يعني للحركة شيئاً غير مجاراة الميول الفردية البحتة، لأنه لو كان الأمر على غير هذا الاتجاه لكان يكتفي بإبداء الآراء الفكرية أو العملية التي يراها مناسبة. فإذا وجدتها صالحة تبنيتها وكتبت أنا فيها أو كلفت من يكتب فيها، ويكون فؤاد كفى نفسه مؤونة ترك ما يحسنه من الأعمال المفيدة ضمن دائرة اختصاصه والانتقال إلى ما لا خبرة له فيه. وأقول لك إنّ اهتمام فؤاد بإصدار بلاغ عن موقف القوميين في أميركة ليس فكرة ما كان يمكن أن يتنبه لها غيره أو تغفل عنها الإدارة العليا. خصوصاً إذا وردتها معلومات بما يجري في بعض البيئات. وقد يخطر في بال فؤاد أن يصير مثل الذي حاول أن يصير سياسياً كبيراً ومتزعماً بالاستناد إلى مكانته المالية وكونه قد درس التجارة في الجامعة الأميركانية حين كانت لا تزال تدعى «الكلية السورية الإنجيلية». وإلا فما هو السبب النظري أو العملي الذي يدفع فؤاد إلى الاهتمام بكتابة المقالات؟ وهل نحن في كل هذه الحاجة لتعدد أساليب الكتّاب وزيادة عددهم؟
لا بأس أن يكتب فؤاد مقالة كلما عنّ له ولم يكن ذلك معترضاً مع مجهوده ضمن اختصاصه. فيوجد مجال لكتّاب يتناولون الموضوع بدراسات متفاوتة الرتبة والمدى. أراك كاتباً ويوجد مجال لتكتب بدرس بين المدة والمدة وأن ترسل رسائل إلى الزوبعة تتحدث فيها عن حالة المستعمرة السورية في البرازيل وعن آراء الناس في الجريدة ومقالاتها في النهضة القومية الاجتماعية ومصيرها، وهذا يفتح الباب لمعالجة ما يقال.
الأفعال قبل الأقوال: الحقيقة مع ذلك هي في أننا نحتاج إلى رجال أفعال ومحققي مشاريع أكثر كثيراً مما نحتاج إلى رجال أقوال ومقترحي مشاريع. الذي أراه أنك وفؤاد قد أهملتما الاهتمام بما هو مطلوب منكما في بيئتكما فتهتمان بما هو مطلوب من إدارة الحزب العليا ومن إدارة الزوبعة. فأمام أعينكما تلوح الإمكانيات العملية المتنوعة ولكنكما لا تبديان حراكاً.
إنك قد كتبت إليّ عما قاله السيد نديم عبود عن عظم تقدير الشاعر شفيق معلوف وقرينته للزعيم وحركته، وكتبت إليّ عن استعدادات الرفيق جورج سابا. ولا شك، أنه يوجد استعداد في عدة أوساط وعائلات كبيرة كالراسي وغيرهم، فإذا تنظمت خطة لاستغلال هذه الإمكانيات لمصلحة القضية فأعتقد أنّ النتيجة تكون كبيرة، خصوصاً إذا بذل فؤاد جهده وانضم إلى الجهود مثل غالب [صفدي] الذي يجب أن لا يغفل ولا يهمل وكذلك الرفيق جورج بندقي. وماذا يمنعك أنت وفؤاد من درس خطة للاتصال بالشاعر معلوف ومصارحته، بدون مقدمات وبدون تطويل، إنكما سمعتما عن إطرائه الحركة القومية الاجتماعية التي أنتما مقتنعان من صحتها ومقتنعان بمبادئها وإنكما لذلك، أتيتما لإطلاعه على رأيكما بوجوب إيجاد طريقة عامة لمناصرة هذه الحركة ليساهم بالرأي والعمل، ومن الاتصال بأشخاص آخرين يمكن أن تجدوا عندهم قبولاً وترحيباً. إني أقول لك إنك مسؤول عن الاهتمام بمثل هذه الأمور وتهيئة أفكار الرفقاء لها أكثر كثيراً مما أنت مسؤول عما يصدر عن المراجع العليا ودوائرها الإذاعية من المستحسن وغير المستحسن. وأقول إنّ فؤاداً مسؤول بالأكثر في هذه النواحي العملية وليس مسؤولاً في النواحي النظرية. فليقم كل منكما بواجبه النظامي أولاً وليقع اللوم من الناس على الإدارة العليا أو على بعض دوائرها الإذاعية فهي تعرف الآن وفي المستقبل، كما عرفت في الماضي، كيف تحوّل الرأي العام، خصوصاً متى كان بالها مرتاحاً من جهة الأمور العملية ومن وجود متعاونين يخففون فيها بعض الأعباء الدورية وإهمال الشؤون الصغرى. الاختصاص وقيام كل واحد بواجبه المفروض عليه أولاً هو الطريق الوحيدة المضمونة إلى إتمام كل دائرة مهمتها. فليشتغل بالكيمياء من عمله الكيمياء. وليعمل في الاقتصاد من عمله الاقتصاد. وليهتم في السياسة من اختصاصه في السياسة. وليتعرف إلى الإدارة من مهمته الإدارة وليثق كل من هؤلاء بالآخر. ولكلٍّ الحق والواجب القاضي بإرسال جميع المعلومات والملاحظات التي يراها مفيدة إلى دوائرها المختصة من غير ترك أعمال دائرته للتدخل في شؤون الدوائر الأخرى.
يكفيك دليلاً على صحة هذا المبدأ هذه الكتب الأخيرة الطويلة، التي أضطر إلى كتابتها وإلى فؤاد في أمور أخرجتني عن واجب العناية بمسائل أخرى ضرورية. وكم من الأمور التي من هذا النوع يرد عليّ أسبوعياً إذا لم يكن يومياً وشهرياً، فأضطر لإهمال مواضيع هامّة من اختصاص عملي وأعمال خطتي من أجل الاهتمام به. وهذا من جملة أهم أسباب وجود النقص في كثير من الأعمال الظاهرة وغير الظاهرة. وفي هذا كفاية.
وقد تقول بعد قراءة كتابي الماضي إليك: إذا كانت هذه حالة مكتب الزعيم، فلماذا يدعوني الزعيم إليه؟ والجواب أنه بسبب هذه الحالة دعوتك ولو كنت أنت أو غيرك ممن يصح اعتمادهم موجوداً في مكتب الزعيم لأمكن اتقاء وتجنب اصطدامات كثيرة حصلت هنا. وكان يمكن غير الزعيم التساهل فيها من غير تعريض كرامة المنظمة القومية الاجتماعية كلها، ولأمكن إتمام واجبات كتابية كثيرة مع الفروع بقيت غير متممة لضيق الوقت. وكانت النتيجة فَقْد نتائج عملية كبيرة. فإنّ جباية المكسيك انقطعت بسبب عدم تمكني الإجابة على عدة رسائل وردت من هناك في قضايا إدارية وشخصية، وقس على ذلك. والبرازيل نفسها تتخبط بسبب قلّة توجيهات مكتب الزعيم. وما سبب ذلك إلا قلّة الوقت وانعدام الوسائل. ثم لو كانت تأسست مطبعتنا لأمكن اكتساب أرباح كثيرة في هذه الظروف. فإنّ إحدى الجرائد الأرجنتينية قد اضطرت إلى الالتجاء إلى مطبعة الزمان السورية لطبع عشرة آلاف نسخة كل يوم وأجرة الطبع للماكينة وحدها بدون طابع، إذ هذا تقدّمه الجريدة، وبدون أحرف من نحو خمسين فاس أرجنتينياً كل يوم. وهذا سبب تحسّن طبع الزوبعة التي تطبع الآن في الزمان. فبهذه الواسطة صار أصحاب الزمان في بحبوحة وجلبوا بعض أسطوانات جديدة للمحابر وصار الطبع أوضح. وقس على ذلك.
وطباعة الزوبعة ليست مضمونة الآن، وقد يحدث قريباً بعض المشاكل التي كان يجب أن يهتم بها سواي. ولكن سواي يريد أن يهتم بشؤون اختصاصي في القيادة لأتولى أنا شؤون اختصاصه في بعض المسائل العملية. وهذا يكون النظام المقلوب الذي يؤدي إلى الفشل والخيبة.
أرى أنكم قد تركتم الاجتماعات النظامية وغير النظامية وأضحت رابطتكم منحلة. فلقد قتلكم الخوف ولم يقتل غيركم. فألّفوا مأتماً أو جنازة أو عرساً تجتمعون. فلعلكم تجتمعون، وأخشى أن لا تتمكنوا من الاجتماع لا لهذا السبب ولا لغيره. ولتحيى سورية .
حواشي
تأمل كم يجب أن يقتضي مثل هذه المراسلات الأخيرة من الوقت، وخمِّن كم أقوم بمثلها وكم يبقى لي من الوقت.
في الحرب التي قامت بين الزوبعة وزمرة «الرابطة القلمية» لم يكن من المفيد ترك الردّ على ترّهات [عبد المسيح] الحداد، والزوبعة لا تتسع لكل ما أريد دفعة واحدة وهي صغيرة وتصدر مرتين في الشهر. ولو كانت تصدر أسبوعية أو نصف أسبوعية لما كانت الردود استغرقت كل هذا الوقت.
لو كنت حاصلاً على المعاونة العملية اللازمة من المعاونين، لكان الأرجح عدم حصول أي تصادم بين فؤاد وجبران. فإني كنت أريد الاهتمام بنفسي بموضوع الهدايا السورية إلى حكومات أجنبية.
في العدد 49 يصدر مقال بعنوان «النزعة الفردية» (انظر ج 6 ص 156) وهو موضوع هامٌ مما عاينته بنفسي. فعسى أن لا يرى فيه فؤاد أو غيره «ما يمسّ إحساسه» بل يجب أن يدرسه.
بعد: لقد اجتزأت وقرّبت الخطوط ما أمكن لكي لا تكثر الأوراق. وبعد أن ختمت الكتاب لم أجد بداً من زيادة بعض الأفكار والتعليمات.
قلت إنه يوجد لفؤاد ناحية يفيد فيها اهتمامه أكثر مما يفيد في ناحية الكتابة التي سوف لا يكون من ورائها غير فائدته هو، خاصة في الأول وفائدة كلية من حيث الفكر الذي لم يتخصص له وأكثر أفكاره مطروقة من قبل. ولكن الناحية الأولى في مسيس الحاجة لمن يهتم بها. ويدخل فيها عدا عن تقوية ناحية الإذاعة الخاصة، تنظيم خطة مالية واقتصادية لاستخدام وسائل إذاعية أخرى، كالصحف التي يستخدمها أعداؤنا. فأكثر هذه الصحف في الأرجنتين والولايات المتحدة وفي البرازيل والمكسيك وكل مكان آخر صحف تعيُّش لا صحف مبادىء. وبدرات قليلة من المال تكفي لاستمالة أكثر معظمها، وهو أفضل سياسياً من محاربتها والجدل معها تجاه مجموع غير مثقف الثقافة الكاملة. وأنا قد اضطررت لهذا الأمر الأخير، لأني لم أجد اهتماماً وتعاوناً في الوجه الأول. وصاحب السمير نفسه لم يتهجم عليّ وعلى الحركة القومية الاجتماعية إلا لأنّ جماعة «العروبيين» ضمنت له بعض المنافع، بينما الحزب لم يضمن له شيئاً. وتوجد أدلة كثيرة على أن [إيليا] أبي ماضي مال إلى الحزب وحبّذه ونشر عنه أشياء حسنة. ولكن أعداءنا استمالوه بالدولار وهو عبده المطيع. وفي الأرجنتين توجد صحف تفتح صفحاتها لمنشورات الحزب، ويوجد كتّاب في الصحف تكفي العشرون أو الثلاثون فاس في الشهر للواحد لينشىء عدداً من المقالات عن محاسن الحزب منهم كاتب في السلام اسمه جورج عساف. ويمكن تكليف أحد منا الاتصال به ومخابرته ليكتب مع الحزب لقاء شيء معيّن.
حتى السمير نفسه يمكن أن يكلف أحد بلومه على فعله السابق ويأخذ على نفسه التوسط لإعادة الأمور إلى مجاريها، إذا عدّل موقفه وعاد إلى تأييد الحزب. وهناك جريدة النسر العروبية فهذه تنقلب لما تريد بنفحات قليلة. فؤاد يقول من هم أبو ماضي وغره. هذا صحيح، من جهة الأدب الراقي والتفكير السليم. ولكنه ليس صحيحاً من الوجهة السياسية، فهؤلاء الأشخاص لهم صحف يقرأها يومياً مئات بل آلاف الناس. ولا يمكن الاستهانة بهذا الأمر.
في مثل هذه الأمور العملية، يجدي تفكير فؤاد وتفكيرك لا في محاولة توجيهي أنا إلى ما يجب كتابته أو عمله. فيكفي أن تؤديا معلوماتكما كما هي وأنا أتخذ ما يلزم من التدابير حسب المستطاع وكما أرى الأفضل.
مسألة الكتب: يمكنك إرسال الكتب كما وصفت، وكذلك مجموعة الجريدة.
مرني أطع: ترى من هذا الكتاب، والكتاب السابق أني متأثر جداً وهو الصحيح. فإني أكاد أضيق ذرعاً بهذه الفوضى والآراء الغريبة غير النظامية وغير المنظمة. ومع كل ما هو مشهور عن طول بالي وكثرة صبري، فإنّ أعصابي تعبة جداً، ولا وقت عندي في هذه الظروف وتحت ضغط الجهاد، لإعطاء كل مستفيد ما يحتاج إليه من الدروس التي لبعضها شروح فكرية وتقنية كثيرة. هذا الوقت هو وقت جهاد، مطلوب من كل قومي اجتماعي أن يقول لزعيمه: ماذا أقدر أن أفعل أنا للقضية؟ مرني أطع. وليس مطلوباً أن يشير على زعيمه ما يحسن أو ما يجب أن يفعله الزعيم.
وأعود فأقول إنّ الزوبعة يجب أن تعالج الأمور الجارية كما تعالج الأمور الثابتة، لأنها الوحيدة والزعيم الذي هو منشئها الوحيد لا يمكنه وحده الكتابة في جميع الأمور التي يرى الكتابة فيها واجبة في آنٍ واحد، ولو وجد من يقوم بنصيب من الأعمال والكتابة الجارية لانفسح الوقت للزعيم في التفرغ للشؤون العليا فقط. فعسى أن تجد في كتابي هذا إليك ما يعينك على توجيه الرفقاء إلى النواحي الأكثر فائدة لخطة الزعيم.