إلى جميل شوحي

12/8/1942


أيها الرفيق العزيز،
تسلمت كتابك الأخير المؤرخ في 14 يوليو/تموز الماضي. وكان سروري كبيراً بالصراحة الصادقة التي وجدتها في جميع سطوره، وبما اشتمل عليه من الوصف الدقيق لحالتك وموقفك الخاصين، ولحالة الرفقاء الجدد في سانتياغو دي شيلي ونوعيتهم. وما دمت قد فتحت لي قلبك وبدأت بأمرك فسأتناول هذا الأمر، في جوابي. أولاً إني أشعر بمقدار ما يدفعك ضميرك الحي إلى الشعور به والاهتمام له من ظروفك وشؤونك العائلية والبيتية وأقدّره حق قدره، والبنون بهجة العائلة، والحركة القومية الاجتماعية مبدئياً، لا ترغب في تقليل نسل القوميين الاجتماعيين خاصة وبقية السوريين عموماً. وإذا كانت لك رغبة في زيادة البنين فأتمنى لك الهناء بهم. أما إذا كنت ستجد الزيادة موقرة ومانعة لك من الفوائد الاجتماعية والأدبية التي لك رغبة كبيرة في تأديتها، وأحببت الاكتفاء بما أعطيت فقد لا تعدم إمكانية الاكتفاء من غير إهمال الحياة الزوجية الحبية.
استوقف نظري في هذا الصدد، وبصرف النظر عن الشأن المخصوص المتقدم، ما ورد في وصف شؤون أخرى تحتاج لتدقيق وتمحيص. وقد جمعت العبارات التالية من كلامك: «وهذا التصور مصدره الملل نوعاً، وتراكم المسائل والواجبات الناتجة عن الوظائف العديدة التي أشغلها في جمعيات وأندية كثيرة، وأكثرها ذات مسؤولية عدا ما تقتضيه من العمل والمواظبة، فهذه الحالة وحدها تجعلني قاصراً عن القيام بأقل حركة سواها». «ولا أريد أن أكون المتدخل في الشؤون الداخلية لعدم مقدرتي على العمل والاهتمام». «ولسوء الحظ أنا لست بحالة أن أعمل أو أشغل مركزاً في الحزب للأسباب المشروحة». هذه العبارات، عدا أنها تمثّل حالة نفسية معيّنة، تكوّن مجرى فكرياً كاملاً فيما يختص بنظرتك إلى الحركة السورية القومية الاجتماعية التي صرت أحد أعضائها. ومن التدقيق في المجرى الفكري المذكور بالاستناد إلى العبارات المثبتة فوق، يتضح أنّ المنظمة القومية الاجتماعية ليست لك إلا جمعية جزئية أو نادياً آخر من الجمعيات والأندية التي أنت من أعضائها وتشغل وظائف عديدة فيها. وبما أنّ هذا هو السبب الرئيسي الذي حملك على التردد بادىء بدء في أمر دخول الحركة السورية القومية الاجتماعية، والذي يدفعك إلى تجنّب الدخول في المسائل الحزبية الداخلية والعمل فيها وشغل مركز إداري في الحزب، فلا بد لي من وضع التعليق الآتي: إنك لم تصب الحقيقة بنظرتك إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي كما لو كان واحدة أخرى من الجمعيات. فالحزب السوري القومي الاجتماعي هو حركة لها غاية كبرى يرى القوميون الاجتماعيون أنها تأتي قبل جميع الغايات، وأنّ قيمتها فوق القيم الأخرى، لها يهبون نفوسهم بإيمان كلي، وبها يصهرون مواهبهم، وبغيرها لا يجدون استقراراً لقلق وجدانهم.
إنه قوة وحركة تتناولان حياة أمّة بأسرها، إنه دولة السوريين القوميين الاجتماعيين المستقلة التي يحافظون عليها ويدافعون عنها صيانة لمثلهم العليا التي لا تقوم إلا بها. فهو مركز الثقل والجاذبية لشعورهم وفكرهم، وجميع الجمعيات والمؤسسات والأعمال الأخرى ليست سوى قطرات في بحر هذه المنظمة الكبرى ووسائط لغاياتها وأجزاء من حقيقتها.
هذا هو الحزب السوري القومي الاجتماعي بالنسبة إلى المؤسسات التي ذكرتها وإلى ما هو من نوعها، وما أنتظره منك بصفتك أديباً ومثقفاً وكاتباً مفكراً هو أن تنظر إلى فوق ـــ إلى سمو غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي التي تصغر دونها جميع الغايات الأخرى، وأن تفتح كل قلبك لموحيات هذه الحركة العظيمة التي تنشىء تاريخاً جديداً لأمة عظيمة. فإذا فعلت ذلك فإنك ستقول إني بكليّتي للحزب السوري القومي الاجتماعي، وإني أضع جميع مواهبي وجميع ما أملك رهن مشيئة سلطته العليا، وأتبع في كل ما أعمل التوجيهات الصادرة عنها لمصلحة القضية القومية الاجتماعية المقدسة.
وإذا قلت ذلك بكل اليقين والإيمان فأنت قد صرت قوة فاعلة في هذا العمل الإنشائي العظيم، وحينئذٍ تدرك أنه لا يمكن لأية مؤسسة من المؤسسات التي أشرت إليها أن تحول بينك وبين أي عمل يعهد به إليك، ولا بينك وبين تحويل قواك ومواهبك إلى خدمة قضيتك القومية الاجتماعية التي جعلتها، بمطلق اختيارك، إيماناً لك ولعائلتك، بهذا الإيمان وبهذه العزيمة الصادقة ندكّ حصون الصعوبات وننتصر. أما الصعوبات التقنية فتذلل بالحلول وبالتوجيهات التقنية وبالدرس وبالاختبار في نور الحلول والتوجيهات والأعمال الممارسة.
من هذه الصعوبات الأخيرة ما شرحته لي من حالة معظم الذين انضموا إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في سانتياغو دي شيلي. فقد ذكرت لي أنه من الخمسين عضواً لم يحضر الاجتماع الأول الذي حضرته أنت، وقد يكون أول اجتماع على الإطلاق، غير عشرة أعضاء فقط. ومن سياق كلامك يظهر أنك تجعل السبب كله في بساطة الأعضاء وأميّة معظمهم. والذي أراه أنّ هذا القول يفتقر إلى تدقيق أكثر قبل إعطاء حكم نهائي. كيف جرى تبليغ الدعوة إلى الاجتماع، وفي أية مدة جرى، وما هي الأسباب التي حالت دون حضور كل عضو من الغائبين بمفرده؟ هذه الأسئلة وغيرها تفتح دائرة جديدة للدرس. وهنالك أسئلة أخرى أو افتراضات لا بد منها في كل عمل تأسيسي، وهي وجوب إعطاء فرصة للأفراد لينتقلوا من حالة تعوّدوها إلى حالة سيتعودونها. فكثير من الذين دخلوا، ويدخلون الحزب، يظنونه مثل ما عرفوا من الجمعيات، ويأتون بالمقاييس التي اعتادوا القياس بها. والذين ليس ذنبهم وصلاحهم، أو عدم صلاحهم، يتبيّن من الدروس التي تلقى عليهم وامتحاناتهم العملية فيها.
ولا تنسَ أنّ معظم الشعوب، مع جميع الفوارق الثقافية بين شعب وشعب، تجد عامتها تصح أن تسمّى بالنسبة إلى قضاياها الكبرى وإلى غاياتها الأخيرة، عمياناً، فلا بأس أن يكون هنالك عميان كثار، أو قلائل، بشرط أن يوجد لهم قواد مبصرون في القضية وفي شؤون العميان، وبشرط أن يكون لهؤلاء حسن النيّة. وأغلب الجهلة يمكن أن يصيروا جنوداً جيدين إذا وجد لهم قواد صالحون. فيجب ألا يرفض منهم إلا من كان سيىء الخلق فاسد الطوية متمرداً على النظام. ولما كنت تعترف في كتابك، بأنّ أكثرية الذين انضموا إلى الحزب هي من ذوي الخصائل الحسنة الأولية فهو يدل على إمكان التأثير على هذه الجماعات وقيادتها. والحقيقة أنّ هذا النوع من الناس أسهل معاملة وأسلس قيادة من المتنورين والمثقفين ثقافة ناقصة. فمعظم هؤلاء كثيرو المجادلة شديدو الادعاء وصعوباتهم كثيرة ومعقدة، إلا الذين أصابوا من الفهم قسطاً كبيراً وعرفوا قيم الأمور.
ومعظم البسطاء يعرفون سذاجتهم، وإذا استأنسوا من قادتهم بالإخلاص والنزاهة والغيرة على مصالحهم القومية الاجتماعية انقادوا إليهم بكليتهم. وهذه ليست نظرية غير مختبرة، بل جرى عليها الاختبار في أوساط واسعة. يبقى صحيحاً سهولة تعرّض السذّج للانخداع. ولكن ذلك يكون في مثل علمنا، بالأكثر من إهمال القادة أو ضعفهم وسوء فهمهم الحالة وسوء تدبير الأمور. وفي الأخير هؤلاء معظم شعبنا، وبينهم يجب أن نعمل، ولا مفر لنا من ذلك. فعسى أن لا تجوروا على الضعفاء وأن تترفقوا بهم وأن يكونوا معنا أفضل دائماً، من أن يكونوا أو يتعرضوا ليكونوا في يد غيرنا.
قد تأخرت بإرسال هديتي إليك بسبب وعكة اضطرتني للبقاء ما يزيد على أسبوع في الفراش. ولكني أرسلتها مؤخراً من نحو أسبوع. وأرسلت مع الكتاب المهدى بعض مطبوعات حزبية هامّة، وبينها نسخة من دستور الحزب، فأحب أن تقرأ الدستور والقوانين وتتمعن فيها جيداً، وستجد فيها الحل التقني لمسألة البسطاء. فنظام المديريات التي تضم عامة الأفراد، لا يسمح بحصول التشويش والفوضى. ليس هنالك انتخابات تقسم الأعضاء إلى فرق متزاحمة متخاصمة، والأعمال الهامّة تقرر من قِبل المدير وحده بعد سماع الآراء من أعضاء هيئة المديرية الذين هم معاونوه في الإدارة وهم عدد محدود جداً، أربعة عدا عن المدير، والاجتماعات العمومية مقصورة على تعليم النظام، وتوضيح القضية ومسائلها وقراءة أهم المقالات التي تصدر في الزوبعة وسماع كلمة المدير أو المذيع حول المسائل المحلية، وكيفية مقاومة الأعداء والدفاع عن الحزب، وسماع آراء الأعضاء التي يحبون إبداءها، فتجيب الإدارة في الحال أو بعد حين على ما هو من صلاحيتها الإجابة عليه، وتحوّل ما ليس من صلاحيتها إلى مرجع أعلى، وتهمل ما لا ترى فائدة من النظر فيه ومن هذا ينتج أنه يمكن إيجاد جسم قومي اجتماعي من جماعة بسيطة بتعليمها الأوليات الضرورية من النظام والطاعة والاتحاد مع شرح بسيط عما يهم هذه الجماعة.
أعود إلى ما بقي لأنّ الشؤون التي تظن أنها تعترض إقدامك على حمل مسؤولية إدارية، أو على العمل المجدي في كل ما تتطلبه الحركة السورية القومية الاجتماعية، أعني ولعك بالتفكير والكتابة، فأنا أرى هذا الولع صالحاً جداً لما تتطلبه الحركة، وصلاحه في تحويله من تفسيخ الروحية وتجزئة النفس في مطالعات تتعلق بأفكار صادرة عن نفسيات أجناس متعددة وغايات كثيرة ومتباينة، إلى التئام الروحية وتوحيد النفسية في جمع الشعور والفكر ضمن قضايا الحركة السورية القومية الاجتماعية التي تفتح آفاقاً جديدة للمفكرين والفنانين.
تقول إنه لا يكفيك أقل من عشرين كتاباً في الشهر. وهذا يعني، من وجهة نظري أنّ أكثر الكتب التي تطالعها هي من الأدب الجاري. وأستصوب لك أن توطد نفسك على حقيقة أساسية تعدّها ثابتة وتطبّق الأدب الجاري عليها، ولا تطلب منه إلا ما يبنى عليها، فتصبح أحد تلامذة مدرسة فكرية واضحة لها طابعها الخاص في عالم الثقافة والأدب. وإني أعدّ اختيارك العقيدة السورية القومية الاجتماعية اهتداءً منك إلى هذه الحقيقة الأساسية التي ستحاول أن تمزج شخصيتك بها بجعلها مدار شعورك وتفكيرك وغاية درسك ومرمى إنتاجك. وقضيتنا تحتاج لدرس واسع وإنتاج كثير وأدب غزير يتناول جميع نواحيها الروحية والمادية. ولا أتوقع أن تكون دخلت هذه الحركة القومية الاجتماعية الباهرة وتركت نفسك خارجاً. ونحن نطلب وجدانك نفسك قبل كل شيء ويمكنك أن تبدأ بالعمل منذ الآن. فقد ذكرت لك أنه يمكنك المساهمة في أعمال كتابية كثيرة من ترجمة وإنشاء. فهنالك مسألة ترجمة مبادىء الحزب إلى الإسبانية. وترجمة بعض الأبحاث والخطب التي لها قيمة دراسية أو توجيهية. وقد صدر في عدد الزوبعة الأخير، التاسع والأربعين، بتاريخ أمس، مقال في موضوع هامّ أيضاً لأبنائنا الذين لا يقرأون لغتنا. عنوان المقال «النزعة الفردية في شعبنا» الذي يصح أن يترجم. فإذا راقك أن تترجم هذا المقال لينشر في الزوبعة فعلت حسناً.
يمكن التحدّث إليك كثيراً عن العمل القومي الاجتماعي. وإذا كانت الظروف مؤاتية لزيارة تشيلي فيمكن أن ينتج عن مقابلاتنا واجتماعاتنا تفاهم أهم وأوسع. وسأنتظر تقرير اللجنة التي عهدت إليك تأليفها لدرس الموضوع.
بقي أن ألاحظ على تلقيبك إياي «دكتور»، وهو لقب أجراه عليّ بعض المحبين، قد يكون سببه أني كنت أستاذاً في الجامعة الأميركانية في بيروت، ولكني لست حائزاً على دكتوراه. وأخشى أن يؤدي الاستعمال إلى التباس.
اقبل سلامي القومي. ولتحيى سورية .

 

المزيد في هذا القسم: « إلى يعقوب ناصيف إلى وليم بحليس »

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.