1/11/1943
إلى السيد جميل شوحي المحترم
سانتياغو ـــ شيلي
أيها المواطن العزيز،
وقد كدت أقول أيها الرفيق، كما أحببت لك، ولكني رأيت لهجة كتابك الأخير لا تفسح المجال لهذا الاستعمال، مع أنّ ما ورد في مقال الزوبعة لا يمنعه. فأنت، قانونياً، لا تزال عضواً في الحزب، ولكنك اخترت اللهجة الحرة استناداً إلى ما ورد في الزوبعة، ولست أرى بأساً في مجاراتك في هذه اللهجة.
إن اللهجة الواردة في كتابك المذكور المؤرخ في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1943 تجيز الإهمال الكلي، ولكني اخترت الجواب لإصلاح بعض اعتقادات سوّلت لنفسك بناء أحكام عليها. وأبدأ من حيث بدأت أنت.
الأمانة في الرواية: تقول «حيث لا يوجد أمانة في الرواية ويكثر التحريف والمبالغة بقصد التزويف (أي التزييف) لا مجال للجدال مع نفس الكاتب العارف بالحقيقة. والحقيقة هي تحاريري الموجودة عندكم المسندون عليها المقال ويكفي أن تراجعوها حتى تروا أين فيها قولي إنني (أحتاج للمواظبة في سبعة محافل)». وأقول إني راجعت رسائلك ووجدت أنه يوجد غلط في عدد المحافل فهي ثلاثة بدلاً من سبعة. وهذا نص كلامك في كتابك إليّ المؤرخ في 5 أكتوبر/تشرين الأول 1942 «العَرْقُولَة الأولى التي صادفتني هي عدم تمكني من الانسحاب ولا من عمل من الأعمال العديدة التي هي على عاتقي في الجمعيات الأخرى. فأنا أمين صندوق جمعية أستر ثورز تشيلي، ومدير في الكولوكو نادٍ لكرة القدم، ورئيس حلقة أصدقاء الثقافة العربية، وعضو عامل وشرفي في الكوريو ده بومبيوس، وأخ مؤسس في ثلاثة محافل ماسونية كل منها يجتمع في يوم، الخ». وإذا رأيت أنّ الغلط في عدد المحافل يعتبر «عدم أمانة وتحريف بقصد التزويف» فلا يكلّف كثيراً تصحيح هذا الغلط في الزوبعة وإيراد نص كلامك وأخذ صورته بالزنكوغراف. ومع ذلك فإني أشك كثيراً في أنّ أهل النظر والإدراك الصحيح يوافقونك على أنّ هذا الغلط العددي البسيط يجيز لك استعمال هذه التّهم الضخمة، «عدم الأمانة في الرواية وتحريف بقصد التزييف» وشتّان بين مرارتي منك ومرارتك مني.
تذكيرك ببعض النقط: تورد في تذكيرك أشياء تناقضها عبارات في رسائلك السابقة إليّ. فأنت تقول في كتابك الأخير: «تمنعت (أي عن الدخول في الحزب) لا لعدم اقتناعي بجودة مبادئه بل لمعرفتي الحقيقية بانتهاك قواي وعجزي عن خدمته كما تقتضيه الأحوال والظروف».
وفي كتابك إليّ عينه المذكور آنفاً تقول في غير موضع واحد: «إني لا أعرف القنوط ولا اليأس ما دمت لا أستند إلا على حقائق راهنة... وبهذا الاعتراف أسحب كل ما كتبت لك سابقاً عن انحراف صحتي ولم تكن تلك المعلومات إلا علامة الضعف المخجل الذي شعرت به في تلك الدقيقة. وأنا سوف أحاول بكل الوسائط أن لا يعود يتسلط عليّ ولا ثانية ما دمت حياً..»، وثق أيها الأخ المواطن أني صدّقتك حين أبديت عجزك الصحي، ثم عدت فصدّقتك حين سحبت كلامك السابق في هذا الصدد. ولكن لم يمضِ على كتابك الحامل هذه العبارات القوية، المبشرة بمستقبل حسن للعمل القومي من قِبلك، سوى ما يزيد أياماً قليلة عن الشهر الواحد حتى ورد كتاب استقالتك مؤرخاً في 18 نوفمبر/تشرين الثاني وفيه تقول في مستهله: «.. ومن الضروري أن أطلعك على هذه الحالة وهذا العجز رغماً عن محاولتي إقناع نفسي أولاً وظني الحصول على القوى اللازمة بجمع ما بقي في خبايا روحي وقلبي من الحماس الوطني والإيمان الحار في مواطني أيام الصبا. والآن أدركت أنّ كل هذا لم يكن إلا صدى اللاشيء. وإنني قد شعوذت على نفسي وبحسن قصد كذبت عليك». ثم تقول «قواي كلها مبعثرة، وإيماني ضعيف متراخٍ إلى اللانهاية، وروحي ومخيلتي مؤخذتان بنقاط وخيالات، بما أنها خيالات هي وهمية وأنا مؤخذ ومولع اليوم بالخيالات والأوهام البعيدة عن هذا العالم، الخ». هذا النقص الأخير غير المقتصر على الحالة الإرادية أو الجسدية والشامل الحالة الروحية عينها أزال الثقة، التي كانت آخذة في الازدياد بعد مظهر النشاط الروحي السابق، وذهب بكثير من التقدير لك، الذي أردت من كل قلبي أن يعلو يوماً بعد يوم، وأن لا ينحصر ضمن حدود تشيلي.
إني أفهم الآن من كتابك الأخير، حالة أنت مسؤول مناقبياً وقانونياً عن كتمان تفاصلها. وهذه المسؤولية تستحق الإحالة على المحاكمة بدعوى «كتمان معلومات» عن المراجع العليا يجلب كتمانها أضراراً غير قليلة.
لم أتوانَ قط في تنبيهك إلى ضعف بهجت [بنوت]، وخشيتي من عدم أمانته في المسائل المالية، ولكنني وضعت تنبيهي بصورة لطيفة، لأني لم أكن أعلم إلى أي حد يريد أن يتمادى في خروجه على الأصول. وأنا من هنا رفضت إعطاءه وكالة الزوبعة كما طلب لأنه مع أمانته للعقيدة والحزب لم يبرهن عن كفاءة عملية وأخلاقية في تصرفاته الخصوصية ومعاملاته. ولو أنك استشرتني أو أطلعتني على مساعدتك التجارية له أو عزمك عليها، لكنت أبديت لك رأيــي صراحة في أمره وفي هذه المسائل بصورة عامة، لكي تكون هنالك قاعدة تتّبع تصون الحقوق الفردية وتحفظ النظام الحزبي وتفصل بين قواعد العمل القومي الاجتماعي والأعمال الخصوصية. وكثيراً ما صرّحت في شروحي الكلامية لليمين الحزبية أن نص المساعدة فيها لا يشمل المساعي التجارية ومضارباتها. فالرفقاء غير مكلفين إلا بمساعدة الرفيق المحتاج المساعدة الممكنة في إطعامه إذا كان جائعاً وفي تدبير نفقة انتقال إذا كان ذلك لغاية تحسين الأحوال، وفي إيوائه بعض الوقت إذا لم يكن له مأوى وكانت حاجته إليه ماسّة.
أما من كان عالة على المجتمع فتنظر في أمره مؤسسات خاصة، ومن أراد المغامرة التجارية فليس أحد مكلفاً بدفع ثمنها عنه وحمل مسؤولياتها. وكنت أضرب مثلاً عقلية كثير من الماسونيين في هذا الصدد الذين يتخذون الماسونية وسيلة للحصول على مساعدات مالية للتجارة وعلى تأييد في المحاكم وغير ذلك. إني بصفة شخصية ألومك على عدم إطلاع الزعيم على حالة بعض الرفقاء. وكتمانك مهما كان سببه الشخصي، لا يبرر تجاه خير الحركة وسلامة العمل القومي. وهذا عيسى حلبي قد صار هنا في بوينس آيرس وعدم معرفة أمره يسهِّل له أن يلعب مثل الدور الذي لعبه معك في تشيلي. ولو أنك أطلعت الزعيم حالاً على هذه الأمور لكان دبّر وضع حد لهذه المسائل الشائنة الضارة بالقضية. ولا أوافقك على قولك: «وعندما أدركت أنّ وجودي بالإدارة يجلب أضراراً أدبية جمة على الحزب بقطع النظر عن الأضرار المادية لي، قدّمت لكم استقالتي».
فاستقالتك لا تضع حداً لأضرار أصحاب الضرر بالحزب، وكتمانك الأسباب الحقيقية يزيد الضرر وإمكانياته ويضاعفه والزعيم أحق أن يطّلع على هذه الأمور قبل «كثيرين هنا» أي في تشيلي، لا بل كان الأوْلى كتمانها عن الرفقاء وباقي الناس ريثما يكون اطّلع عليها الزعيم وأعطى تدابيره في صددها. ويغلط من يظن أنه يجب «أن لا يعكّر خاطر الزعيم» بمثل هذه المسائل لأنها خطرة في حالة جيل كجيلنا وفي فرع ينشأ حديثاً ويحتاج إلى أساس متين. والزعيم أوْلى من أي موظف كان بمعرفة هل الاستقالة خير دواء لمعالجة داء. وكان الإخلاص والنزاهة يقضيان بوضع المسألة في يد الزعيم فتكون درساً وقاعدة.
إذا كنت ضعفت وقلّ إيمانك، أو زال، تجاه هذه الحوادث، فماذا كنت تفعل لو كان حلّ بك جزء يسير مما أعانيه باستمرار. أتعلم أنّ «رفقاء» هنا أرادوا أن يمنعوا الزعيم من الزواج، وأعلنوا الخروج عليه لأنه تزوج؟ أبلغ سمعك وقاحة وإهانة للصفات الإنسانية أعظم من هذه؟ وهنا أيضاً حدثت حوادث كالتي ذكرتها وتضرر منها بعض الرفقاء والأصدقاء، ولكننا لم نتخلّ وعالجنا الحالة وتغلبنا عليها. والضرر كان معظمه ناتجاً عن عدم إطلاع الإدارة على الحوادث الجارية. وكنت أتوقع أن لا يترك رجل مثلك مسؤولياته الجديدة ويدع الفوضى تتفشى، خصوصاً وأنت تقول إنك خبرت الشعب وفهمته.
وأعود فأقول إني كنت أتوقع منك، وأنت كاتب، وقد أدركت خطورة القضية وقيمة مبادئها، أن تعمل للإيمان الجديد كما كتبت إليك، ولكنك فضّلت متابعة كتاباتك في مسائل أخرى. إنّ «مذكراتك» قد تكون المؤلَّف الوحيد الذي يستحق أن تخصص له عناية أولية في مشاريعك الكتابية. ولكن بعد اعتناقك المبادىء القومية الاجتماعية، صار ينتظر أن يصير تفكيرك منطبقاً على جوهرها ومثلها وغاياتها وأن تظهر روحها في كتاباتك.
أما ما يقوله الناس في سبب مقال الزوبعة1، فهو من طبيعة الأقاويل التي يمكن بسهولة تمحيصها وإظهار صحيحها من مفاسدها. وفي كتابك إليّ يوجد قول يغنيني عن الإسهاب في هذا الموضوع وهو: «لا يوجد عمل ولا كتابة ولا قول في العالم مهما كان نبيلاً لا يقبل التحويل من حسن إلى سيّىء باستعمال التحريف والمبالغة. النيّات تقدر على كل شيء عندما تخلو من النزاهة والأمانة والجرأة». فأنا أوافق على القسم الأساسي من هذا التعبير، ولكني أقول إن تشويه الحقائق لا يغلب الحقائق نفسها. خصوصاً متى وجدت نفوس ترغب في الحقيقة وتصمم على رفع الحق وخفض الباطل. ولا أظن أنّ رجلاً واحداً صحيح الإدراك يعتقد أنّ زعامة الحزب السوري القومي الاجتماعي قامت «بحرق البخور والمديح والإطراء على مذبح الزعيم» لا بالإنشاء والجهاد والتضحية والمقدرة. أما الأموال فكان يمكن أن تتدفق على الزعيم تدفقاً لو شاء الزعيم أن يكون من نوع المتزعمين الذين خبرتهم الأمة. وأما السفر إلى تشيلي فليس رغبة خاصة بأنطون سعاده في هذه الظروف، ولا طلباً لمنفعة خصوصية. فالمنافع الخصوصية موجودة لأنطون سعاده هنا وفي كل مكان، ولا تحتاج إلا إلى تنازل أنطون سعاده لقبولها. ولتحيى سورية .