إلى جبران مسوح

14/2/1944


رفيقي العزيز جبران،
كتاباك المؤرخان في 11 و12 فبراير/شباط الحاضر تسلمتهما معاً اليوم قبل الظهر.
أدهشني كثيراً الأسلوب الذي لا يزال يستعمله الرفيق [إبراهيم] كردي في مخابرتي. فهو قد اكتفى بإطلاعي على أنّ «شخصين» مجهولين جاءا إليه وحدّثاه بإقامة المصنع على شرط كذا وكذا. ولم يذكر لي من هما هذان الشخصان المكتومان ولا شيئاً من المعلومات عنهما، ثم يعود فيكرر أنّ في توكومان أشخاصاً يقدرون أن يصنعوا كل شيء وأن يجهّزوا المصنع، الخ. وإنّ عودتي إلى توكومان هي أفضل شيء لأنّ كل شيء يتم فوق. وكل هذا كلام لا يعني شيئاً أكيداً ولا يضمن شيئاً. وسابقاً قال لي الرفيق إبراهيم إنّ التصميمات جاهزة وإنّ أصحاب المصانع في توكومان يعرفون الموضوع وينتظرون أن نوصيهم بصنع الآلات. ثم تبيّن أنّ مصنع هوفر هو الوحيد الذي فهم عن الآلة الضاغطة التي نريدها، وأنّ هذا المصنع لا يعرف اختصاصيوه شيئاً أكيداً عن تفاصيل صناعتنا وما نحتاج إليه من أدوات، كما تأكد لي من محادثاتي معهم فوق ومن مقابلتي للسيد هوفر هنا، على ما أخبرتك في كتابي الأخير.
إنّ طريقتنا القومية الاجتماعية وتنظيم العمل يقضيان بالوضوح والتخصيص. وهذا يعني أنه لا يجوز أن يخابرني الرفيق كردي بقوله «إنّ أشخاصاً يقولون أو يعرضون». هذه الطريقة لا يمكن أنْ أقبلها. والطريقة الوحيدة التي يمكن قبولها هي هكذا: «جاء إليّ يوم كذا فلان وفلان، وهما صاحبا محلات كذا أو عاملان لكذا، وطلبا أو عرضا ما هو كذا وعلاقتهما هي مع فلان وفلان ويتعاملان مع... ورأيــي فيهما هو كذا، فأعرض هذا الأمر لكم لكي تنظروا فيه وتقرروا ما يلزم في صدده».
أما مسألة الشراء هل يكون في بوينس آيرس أم في توكومان فهذه مسألة اقتصادية بحتة ولا مجال للذوق أو الاستحسان فيها. وإني أتعجب جداً كيف يعتقد الرفيق كردي أنه يمكن صنع آلات أدق وأضبط في توكومان مما يصنع في بوينس آيرس، والعكس هو الصحيح فما يصنع في بوينس آيرس، إذا كان في مصادره، فهو أفضل الموجود. وأما أن أترك دروسي واستخباراتي التي بدأتها وأسافر إلى توكومان، لأنّ «أشخاصاً» يقولون ويعرضون فأمر لا يليق سؤالي فعله.
يظهر من قضية «الأشخاص» المذكورين أنّ مرجعهم في بوينس آيرس. فإذا كان الأمر كذلك فالأفضل أن يوصيهم الرفيق كردي بمخابرة مراجعهم لإرسال مندوب من قِبلهم لمخابرتي في ما يشاؤون. وهذا يسهّل لي معرفة أشياء كثيرة هنا ويجعل الاتصال مباشرة وليس بالواسطة. وهذه أمور يجب أن يترك الرفيق كردي تقديرها لي أنا، لأني أدرى بها، ولست أدري لماذا يريد الرفيق كردي أن يرفض، كل ما ليس من مصنع هوفر وأن يقبل كل ما يعرضه هذا المصنع. فهو قد قبل أن أشتري الآلة الضاغطة هنا على أن يصلحها مصنع هوفر، ثم بعد أن قدّم مصنع هوفر تقديره للآلة التي يريد صنعها هو صار الرفيق كردي يرى أنه لا لزوم لسوى آلة مصنع هوفر. إنّ هذه المسألة اقتصادية في الدرجة الأولى. وسؤالي ليس هل من لزوم لهذه الآلة أم لا، بل سؤالي هو: هل العمل بالضغط الصعودي يختلف كثيراً عن العمل بالضغط النزولي؟ أي هل يفرق كثيراً في سرعة الإنتاج أن يكون الضغط بالارتفاع إلى فوق وأن يكون بالهبوط إلى تحت؟ متى عرفت ذلك بالضبط أقدر أن أقرر ما هو الأنسب حسب الأسعار، لأنّ الفرق في الثمن يمكن أن يبلغ نحو ثلاثة آلاف فاس، وهذا شيء يجب أن أحسبه وأن لا أضع المصنع تحت رحمة أسعار مصنع هوفر أو غيره. الخبراء هنا يقولون إنّ الفرق قليل جداً في السرعة، لأنه بعد حدوث الضغط فوق تهبط اللوحة الضاغطة بسرعة ثوانٍ معدودة. فإذا كان هنالك فرق آخر فليخبرني عنه بالتفصيل.
بخصوص سمك اللوحة المموجة يختلف رأي الرفيق كردي عن اختبارات التقنيين. فهؤلاء يقولون باستحالة أو صعوبة جعل الكثافة واحدة بالضغط على العجين، مهما كان القالب مضبوطاً. واختبارات الرفيق كردي ليست شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى اختباراتهم وتجاربهم الطويلة التي أوصلتهم إلى إيجاد الطريقة التقنية التي يصنعون بها الفيبروشمنتو اليوم. فاختبارات الرفيق كردي كانت أولية وليست بضغط السائل بقوة نحو تسعين طناً وكانت في قوالب خشبية. وهو يظن أنّ اختلال الكثافة في ألواحه الأولى ناشىء عن ضعف الخشب وعدم ضبطه، وأنّ القوالب الحديدية المصبوبة أو الفولاذية تعطي الضبط الكلي في الكثافة. وأهل الخبرة، ومنهم السيد هوفر، لا يسلّمون بهذه النظرية التي هي نظرية ميكانيكية علمية، لا مسألة تركيب مواد. والخبير الذي رأيته قبل مقابلتي لهوفر يقول إنه يمكن ضغط الألواح الملساء فقط بهذه الطريقة. أما الألواح المموجة فتحتاج إلى طريقة خاصة. فهنالك آلة خاصة لالتقاط المزيج حتى الكثافة اللازمة، ثم تضغط الكثافة ألواحاً وتذهب هذه الألواح إلى الآلة الضاغطة التي تحدث فيها الأقنية، ثم تذهب إلى الماء لتقسو وتتصلب فيه. وهذه هي طريقة الأسطوانات (A cilendro) التي يعنيها «أشخاص» توكومان، على ما يظهر، وهي الطريقة الوحيدة، على ما يبدو، لجعل الإنتاج في حالته المثلى. وبما أنّ الرفيق كردي لم يكمل اختباراته الصناعية، والأصح أنه لمّا يبتدئها، فآراؤه نظرية بحتة لا يمكن التعويل عليها. وإني أرى الأفضل درس المسألة من جميع نواحيها قبل المغامرة في تجارب لا لزوم لها على هذه الدرجة العالية من العلم. فالرفيق كردي يجب أن يعلم أنّ مسألة الصناعة قد جازت، منذ زمان بعيد، التجارب الأولية التي يفكر فيها هو، ولو كان ضغط الألواح يتم بإتقان بواسطة القوالب فقط لما كان احتاج أهل الصناعة إلى تركيب تلك الآلات واستحداث الطريقة التي يعملون بها الآن.
إني أحب أن يبدي الرفيق كردي رأيه، ولكني أوصيه أن يتشبث بمسائل تقنية آلية لم تدخل في علمه ولا وصل إليها اختباره. إنه عمل طويلاً إلى أن وصل إلى المركّب. وفي أثناء عمله الطويل ظهرت له أغلاط كثيرة في ما كان يظن. وإذا أراد أن يسير على الطريقة عينها في الصناعة فسيمر وقت أطول، ويرى أغلاطاً أكثر قبل أن يصل إلى الخطة المثلى. وما دام العلم أمامنا فيجب أن لا نعود إلى الظلمة. ويجب أن لا ندفع من جديد ثمن اختبارات دفع ثمنها غيرنا وأوضحها العلم. يجب أن نسير إلى النور ما دام لنا النور.
يحتمل أن أعود إلى توكومان في مدة عشرة أو خمسة عشر يوماً. ولكن الأفضل أن أصل إلى ما أمكن من الدروس هنا، والأفضل الأفضل أن يقول الرفيق الكردي «للأشخاص» الذين يخابرونه إنّ عنواني في بوينس آيرس هو في شارع N. alem 639 Leondro في الدور السادس والشقة Alto, P...‚ وإنه يمكن الاتصال بي تلفونياً إما على عدد 4849.31 وإما على عدد 0309.31، وليكن ذلك سريعاً لأعرف ما هي مقاصد هذه الجماعة قبل السفر من [هنا].
سيأتي جماعة «إكسفرسو أرخنتينو» غداً لوضع هياكل خشبية لأثاث البيت ويكون الشحن الأربعاء أو الخميس، ويمكن أن نوصيهم بإيصال الأثاث إلى مايفو أو بإبقائه عندهم هناك إلى أن نكون وجدنا منزلاً صالحاً فنتسلمه منهم، ولا نكلّفك والرفيق كردي غير هذه الأمور. ويتوقف سفري أنا مع جولييت على سير قضية الصناعة هنا. فإذا لم أفرغ من الدرس سريعاً فقد أرسل جولييت مع الصغيرة قبلي لتصرف بضعة أيام في بيليا نوقاس. إنّ في بوينس آيرس أبواباً كثيرة وخبراء كثيرين، فإذا لم يتفاهم المرء مع واحد وجد غيره. أما في توكومان فإذا أقفل باب فلا نجد غيره. و«الأشخاص» الذين يذكرهم إبراهيم يقولون إنّ خبراءهم موجودون في بوينس آيرس. وكلامهم ليس فيه أي إيضاح تقني. فليخابروا جماعتهم هنا ليخابروني قبل سفري فلعله يكون في هذه المسألة خير. وليعتمد الرفيق كردي اعتماداً كلياً على تدبيري وليرجع دائماً إليّ. ولا يقل «تعال» «ورح» وأقوالاً غامضة لا يمكن أن أسلّم نفسي إليها.
أظن أني قلت الآن أهم ما يجب. إني متابع درسي وسأرى غداً الخبير الذي تكلّمت عنه، وقد أقابل هوفر ثانية قبل سفره. ثم لا أزال أنتطر خبيراً آخر هو الذي خطط معملاً جديداً للفيبروشمنتو وآلاته ويمكن أن يأتي بعد نحو يومين. إنّ هذه الدروس والمقابلات لازمة للوقوف على متعدد الآراء واستخلاص الأوفق والأحسن منها. وهذا أفضل من الاتكال على رأي واحد ومصنع واحد ومورد واحد.
تأسفت كثيراً لاستعجال الرفيقة نبيهة [أنطكلي الشيخ] بتعيين محام غير موثوق منه. والرفيق كردي أبدى رأيه فيه. وفي هذه المسائل يجب اعتماد الرفيق كردي قبل كل أحد لأنه خبير فيها. كل شيء يصلح.
سلامي إلى الجميع. ولتحيى سورية .

المزيد في هذا القسم: « إلى جبران مسوح إلى جبران مسوح »

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.