23/9/1945
إلى الرفيق الهمّام نعمان ضو
كوساته ـــ سان خوان
رفيقي العزيز،
تسلمت كتابك المؤرخ في 17 سبتمبر/أيلول الحاضر، وعلى الأثر وردني كتاب من الرفيق نسيب مطر من فريس يسألني الإبراق إليه ليحضر إذا كان الرفيق عبدالله دروج، ناموس منفذية بوينس آيرس، باقياً في توكومان إلى الأحد. ولما كان الرفيق دروج قدم إلى توكومان ليبقى إلى مساء الأحد، أبرقت إلى الرفيق نسيب أن يحضر. ومساء أمس السبت ذهبت والرفيق دروج إلى المحطة واستقبلناه، وحضر إليّ في المساء وكان حاضراً الرفيق دروج فسهرنا سهرة قومية الصبغة، وطلبنا الراحة نحو الساعة الواحدة أو أكثر بعد نصف الليل. وعند الافتراق، كلّفت الرفيق نسيب الحضور صباحاً نحو الساعة التاسعة أو التاسعة والنصف.
في هذا الوقت من الصباح نهضت وذهبت إلى الحمام فحلقت وغسلت، على عادتي، وتروقت نحو الساعة العاشرة إلا قليلاً، وجلست في مكتبي وصارت الساعة نحو الحادية عشرة ولم يقدم أحد، فخرجت إلى المحل قليلاً فرأيت الرفيق دروج يخرج من قهوة في شارع كوردبة فرآني بباب المحل فجاء وسألني هل لم يأتِ نسيب، فقلت لا، فقال إنه افتقده في القهوة فلم يجده هناك وظن أنه يكون عندي حسب تعليمات أمس.
نحو الساعة الثانية عشرة ونصف قدم الرفيق نسيب وقال إنه مرّ باكراً نحو الساعة التاسعة بداري فوجد الباب مقفلاً، فلم يشأ الطرق لعلنا لا نزال نياماً، ثم ذهب في نحو «عشرين مهمة» وهي تتعلق بالبحث عن مصير اتفاق عقد باسم لجنة أو جمعية السيدات السوريةت في فريّس مع جوق تمثيل أرجنتيني لإحياء حفلة لفائدة الجمعية النسائية المذكورة، التي قال لي إنه سعى بإنشائها بعد إنشاء فرع الحزب لتكون مساعدة في الأعمال العائدة بالنفع على القومية السورية.
حضر مع الرفيق أحد المنضمين حديثاً في فريّس إلى حزبنا. فقلت للرفيق دروج والرفيق الآخر الجديد أن يبقيا يقرآن ويتحدثان بانتظار الغداء، وطلبت من الرفيق نسيب أن يخرج معي لنتمشى على رصيف الشارع ونتحدث اغتناماً للوقت. وفيما أنا أفعل ذلك كنت أتذكر كتابك السابق المسهب، وكتابك الأخير الذي تخبرني فيه عن الاتفاق الذي تمّ بينك وبين الرفيق نسيب بمناسبة سفره إليك ودرس المشروع الذي اقترحته أنت عليّ وعلى الرفيق نسيب، وخصوصاً عبارتك «وهذا سوف يحدّثك عنه الرفيق نسيب بشوق وأهمية أكثر من الكتابة».
كان الرفيق نسيب قد حدّثنا شيئاً عن جولته في سان خوان ومندوسة برفقتك، وعمن التقى بهم من الناس ومنهم رجل يخرج كميات كبيرة من العنب والنبيذ، وأنّ هذا الرجل قال له إنه بما أنه هو سيعمل الآن بالاتفاق معك في هذه الأصناف فهو بكل سرور يقدّم نتاجه لكما. وذكر لنا عن المواطن الذي رآه في منتزه «قارب الأعجوبة» وغير ذلك. حالما صرنا خارج المنزل قلت للرفيق نسيب: أخبرني الآن عن سفرتك ونتيجة درسك ورأيك. فقال: ذهبت إلى كوساته ووجدت الرفيق نعمان ضو وعائلته بخير، إنما طرأ على قرينتك شيء، قالت جولييت عنه فيما بعد إنه التهاب غدد إفراز اللبن، وإنه تجوّل معك هناك ووجد أنّ مدينة سان خوان جيدة، وأنّ العمل هناك يكون بضمان الكروم وقطف العنب وشحنه إلى حيث يباع، وأنّ الأرباح تكون حسب حالة السوق، وأنه إذا أصاب العنب «ضربة» برد أو شيء فيقع ضرر وخسائر، وأنه يمكن الاشتغال بالفاكهة المجففة، الأمر الذي قد أهتم به أنا من تصدير أو غيره إذا أحببت العمل، وإذا أحببت البقاء في توكومان والعمل فيها في الورق فالأمر عائد إليّ. ووقف كلامه عند هذا الحد، فتعجبت من الفرق بين كلامك وقولك إنه سيحدّثني «بشوق»، وهذا العجز عن الإفصاح في حديث الرفيق نسيب.
كنت قبل الخروج معه قد سألته هل عزم على الانتقال إلى سان خوان، وكان معنا دروج، فتجنب إعطاء جواب صريح، وقال إنّ الأمر لمّا يبلغ هذا الحد ولكنه سيدرس وينظر. وعلى أثر تقريره الشفوي أثناء تمشينا خارجاً، أخذت أسأله كيف أقدر أنا أن أبتّ في شيء لم تعرض عليّ تفاصيل منه وأسباب صالحة لإعطاء رأيــي وإصدار حكمي؟ وأفهمته أنّ ما سمعته منه هو كلام عمومي إجمالي لا محصّل عملي له فيما نحن في صدده، وأنه لا جواب في ما قاله عن أي سؤال من الأسئلة التي ضمّنتها كتابي إليه. وأخذت أستدرجه فقال إنه وجد عندك إمكانيات لضمان ما يقدَّر بنحو أربعين أو خمسين ألفاً، وإنه يمكن زيادة ذلك على نسبة زيادة الرأسمال، وإنّ عصر العنب لبيع نبيذه إلى أصحاب المخمرات هو عمل جيد. وبالجهد استخرجت منه بعض ما عرضتما له من التقديرات. ولم يقل شيئاً يدل على مبلغ استحسانه العمل وما يرجى منه. ولكنه قال إنك أنت وهو تنتظران ما أقرره أنا، هل أعزم على العمل أم أقرر البقاء في توكومان؟ وبجهد أعترف نصف اعتراف بأنه قد تقرر أو درست وجهة العمل بينكما في حالة تأجيلي أو عزمي على البقاء.
عند هذا الحد دخلت معه المنزل، وعلى الأثر استأذن الرفيق الجديد من فريّس، وهو من عائلة غنام، وانصرف وبقي الرفيق دروج والرفيق نسيب للغداء. فاستأنفت الحديث بحضور الرفيق دروج وألقيت شبه محاضرة في قواعد العمل التعاوني والفرق بينه وبين العمل الفردي، وأوضحت له كيف أنّ ما أدلى به إليّ لم يشتمل على الأسس والتفاصيل والأسباب الكافية لإبداء حكمي، وأنه إذا كان يُقصد الوصول إلى اتفاق معي فيجب تعيين الأسس وترتيب الأمور المحسوسة وتقرير خطة العمل، وأنه في هذه الحالة يحسن أن نجتمع نحن الثلاثة كما ذكرت في كتابي إليه. وقلت له إنّ نضج الدرس والتخطيط لا يؤخر العمل، بل يقدّمه على نسبة الوضوح الناتج عن الدرس وتبادل الرأي. ورأى الرفيق دروج صحة هذا الرأي فوافق وقال كلاماً مؤيداً في هذا الصدد.
بعد الغداء ودّع الرفيق دروج لأنه مسافر هذا المساء إلى بلد له فيه أقرباء، ومنه إلى فريّس التي سيقيم فيها بضعة أيام بين الرفقاء، فيحدّثهم في الحزب والنظام ويوضح لهم من الدستور والمبادىء والقوانين ما أمكن، ثم يسافر إلى بوينس آيرس حيث أكون أنا هناك لأني مسافر الخميس القادم في 27 الجاري. وودّع الرفيق نسيب مطر على أمل اللقاء، إذ كررت عليه أنه يحسن أن يأتي مساءً لمتابعة الحديث، فوعد وذهب.
فيا رفيق العزيز، إني لست في حاجة إلى زيادة اختباراتي في الناس فلم تزدني اختباراتي الأخيرة علماً بهم. وكنت أفضّل أن يصير أي تفاهم بيني وبينك مباشرة أولاً على أن أدخل على تفاهم جرى مع غيري أولاً. ولست، مع ذلك، أريد أن أظلم نسيباً في شيء، وأني أود أن ألوم نفسي في ما أثاره حديثه الأخير وتصرّفه. ومع ذلك أيضاً فإني أجد صعوبة في التوفيق بين عرضه عليّ ملازمتي، وأن لا يكون إلا حيث أكون أنا وسفره إلى سان خوان والاتفاق معك على العمل والانتقال إلى قربك سواء أكنت أنا أم لم أكن، ثم كتمانه حصول الاتفاق الواضح بينك وبينه حسب كتابك المؤرخ في 12 سبتمبر/أيلول الحاضر. ولست أريد أن أعزو ذلك إلى قصد خفي أو مصلحة خاصة مفضلة. وقد يكون السبب أنّ نسيباً عمل كثيراً في السياسة، وقليلاً في المثال الأعلى، وأنّ صفة السياسة صارت، بطبيعة الحال ومن غير قصد منه، تغلب كل صفة أخرى.
كتبت ما تقدم في فترة العصر، وسأبقي الكتاب مفتوحاً لعل نسيباً يأتي هذا المساء حسب وعده ويحصل استنتاج جديد أضيفه.
وأغتنم الآن هذه الفرصة لأقول لك إني سأكتب بالبريد الجوي إلى أخي في سان باولو البرازيل في صدد المسائل التجارية. فقد بلغني أنّ [جبرائيل] يافث لا يعود قريباً إلا حين يعزم على التنزه لأنّ برقية وردت إليه من أخيه تفيده بأنّ الأسعار ارتفعت، وأنهم عقدوا اتفاقاً مع تجار في الولايات المتحدة لمدة سنتين. ويمكن أن أكتب إلى رفقاء آخرين في هذه الشؤون. ثم إني سأهتم بأمر المستودع في بوينس آيرس ودرس طريقة التصريف، ولكن على أساس أن يكون تفاهمي معك وحدك وليس مع شركة ضو ومطر.
أما ما أنا عازم عليه في الوقت الحاضر فلا اختيار لي فيه. إنّ محلي قد تقدّم هذه السنة. وفي أثناء وجودي في خوخوي اتفقت مع أحد المتجولين المعروف عند الرفقاء والأصدقاء بالاستقامة وحسن السيرة على بيع محلي في ولايتي سلته وخوخوي. وإني أُقدّر أنه ابتداءً من السنة القادمة يصير معدل بيع المحل، إذا لم يحدث ما ليس في الحسبان، نحو 8 ــ 10 آلاف فاس في الشهر، أي نحو ألف فاس ربحاً شهرياً يذهب منها نفقات نحو خمس مئة. ولا يحسن انتقالي إلى عمل آخر إلا بتخطيط ثابت بعد تقليب الأمور على وجوهها وإحصاء الإمكانيات. وإذا انتقلت إلى بوينس آيرس فيمكني متابعة العمل في الورق مع الداخلية، وكما قلت لنسيب أمام دروج إنه يمكني حينئذٍ تحويل التجارة إلى استيراد من الخارج مع الإتجار بالمصنوعات البلدية، وهذا يمكن تحويله إلى الشركة التي يمكن أن تعقد. وإني أعتقد أنّ عملي بالاقتصاد والتجارة واللغات والشعوب وآدابها تؤهلني لجعل علاقاتي التجارية على أوسع ما يمكن إذا حصلت أسباب مادية مساعدة.
وأعود فأقول إني أثق بك وأفهم روحك وأرى أنه يمكنني أن أتفق معك مباشرة وأولاً على خطط متعددة يمكن تقريرها، بعد المراسلة، وفي مقابلة بيني وبينك. وإني أشعر أني أصطفيك في ما لا أصطفي به غيرك. ولو كانت إمكانية اتفاقنا العملي في التجارة عرضت قبل هذا الوقت الضيق، ولولا أنّ قدومك إلى توكومان كان سريعاً وتخللته حوادث سريعة، وأنّ إقامتك كانت سريعة، لأمكن أن تكون محادثاتنا قدّمت كثيراً المشروع الذي تحدثنا فيه كثيراً. ولكن هذا لا يمنع من متابعة الدرس والتهيئة إلى أن تنضج الأمور. وإنّ الأمور مرهونة بأوقاتها.
وأحب أن لا تفهم من كلامي هذا أني أشير عليك بترك ما اتفقت عليه مع الرفيق نسيب مطر، بل إني أتمنى أن يكون تفاهمكما جيداً وفيه كل الخير لكما، وأن تجدا فيه ما يسهّل زيادة خدمة قضيتنا القومية التي أمامها تنتفي كل مصلحة شخصية وتزول جميع الفوارق الفردية. أطلب أن تحفظ كتابي هذا وتبقي فحواه لك وحدك. وليت الصعوبات تزول قريباً، ويمكن اجتماعنا في وحدة عملية كما نحن مجتمعون في وحدة فكرية نظامية.
ها قد مرّ العصر وقرب انتصاف الليل والرفيق نسيب لم يعد كما وعد أنه يفعل، والأرجح أنه مسافر غداً صباحاً كما كان عزمه منذ البدء. وإني أختم هذا الكتاب متمنياً أن يكون تصرّف الرفيق نسيب وأقواله أو فهمي لها هو من تأثير إقليم توكومان على أعصابه أو على أعصابي، وأرجو أن تكون الحالة أحسن كثيراً مما تبدو لي.
أكرر سلامي وتشاركني جولييت في السؤال عن صحة قرينتك الكريمة، والرجاء أن تكون قد تحسنت، وأن يكون مظفر في حالة صحية حسنة. ولتحيى سورية .
إذا أحببت الكتابة إليّ إلى بوينس آيرس فليكن إلى Paraguay 402، وإني سأبقى في بوينس آيرس نحو عشرة أو خمسة عشر يوماً. ويا ليت يمكن قدومك إلى هناك لنتحدّث ونتفاهم إذا كان بقي مجال للتفاهم الخصوصي فيما بيننا، وإذا كان هناك مجال باقياً ولست مقيداً باتفاق تام مع نسيب مطر فسأفكر بإمكان القيام بزيارة إلى كوساته لدرس الإمكانيات معك.