إلى غسان تويني

 صدر عن مكتب الزعيم، 9/7/1946
إلى الرفيق غسان تويني، كمبردج، ماستشوستس،
أميركانية


أيها الرفيق العزير،
سررت سروراً بكتابك الأخير المؤرخ في 20 يونيو/حزيران الماضي الذي عرّفك تعريفاً أوليًّا جليًّا ضروريًّا لتكوين فكرة واضحة عنك وعن إمكانياتك الفكرية والعملية في النهج والسياق المقبلين.
أعود إلى ملاحظاتي في كتابي السابق إليك وجوابك في كتابك الأخير عليها، عملاً بقاعدة التدقيق الشديد في المسائل العقائدية والفكرية مع الرفقاء المؤهلين لتناول شؤون الفكر العليا وتقوية التمازج الفكري ووحدة الفكر والقصد وزيادة في توافق الآراء والمناهج في الخطة الأساسية وفروعها، أي بجميع هذه الأمور الجوهرية التي يتوقف كل نجاح، في ما يعنيها، على مبلغ حصولها.
مما لا شك فيه أنّ حداثة عهدك باعتناق العقيدة السورية القومية الاجتماعية وانضمامك إلى الحزب لم تسمح لك بالاطلاع المباشر والمعرفة الشخصية في نشر العقيدة وعمل الحزب في عهده التأسيسي الذي استمر إلى الآن. مع ذلك فقد ساعدتك مواهبك الفكرية ونباهتك وتحصيلك العلمي على إدراك أمور كان يقتضي لغيرك أضعاف المدة التي قضيتها لإدراك ما أدركت من قضايا النهضة القومية الاجتماعية وعوامل سيرها. ولكن مهما كان هذا الادراك عالياً فإنّ قصر المدة ومحدودية الاختبارات يوجبان اتباع قاعدة التحفظ المعقول في الآراء الأخيرة أو النهائية أو الجازمة في قضايا لم تنكشف كل نواحيها ولم تحصل كل عواملها الخفية والمعلنة وأسباب الحكم فيها. وإنّ من القواعد الضرورية لتفكيرنا القومي الاجتماعي الحرص على إعطاء القضايا حقها من الرصانة والتقدير والتحفظ وأعمال الفكر الواقية من خطر الزلل والمقلّلة له. وإني أقول هذا القول في معرض كتابي إليك، ليس لاني أستشف فيك ميلاً إلى عكس ذلك، بل لأني أرى فيك الاستعداد لوعي هذه القواعد والقضايا الهامة، ولأني أحب أن أنشّط فيك هذه الناحية الضرورية للعمل السياسي العالي.
إن الوثائق والمنشورات الحزبية التي تيسّر لك الاطلاع عليها ليست كل ما يجب أن يقف عليه طالب معرفة نشوء حزبنا ومشاكل تاريخه. فإنّ أموراً كثيرة بقيت غير منشورة كما أنّ أموراً كثيراً لم تدون. ومن هذه الأمور ما هو حوادث هامة من الوجهة التفصيلية، ومنها ما هو أفكار وآراء وقواعد حرمت من حظ أخذ محلها بين المدونات. ولا ننسى أن مدونات الزعيم هي قليلة بالنسبة إلى تعاليمه وأقواله وشروحه الشفوية في الخطب العديدة، التي لم تدوّن، والمحادثات الإفرادية والمجموعية، وفي القضايا والأحكام التي تناولها أو أصدرها، وفي أعماله وتفاصيل سيرته. وإذا كان جزء من هذا النقص يكمل بمرويات ومستندات المقربين إلى الزعيم ورفقائه الأول وأعوانه ومعاونيه فإن قسماً كبيراً هامًّا يبقى ناقصاً. ولا ننسى أيضاً أنّ رفقاء الزعيم الأول ومعاونه متغاوتون في المعرفة والإدراك والمؤهلات. فبعضهم تفوتهم تفاصيل هامة لا يدركون قيمتها التاريخية، وبعضهم بميلون إلى الناحية الشعرية من الأمور، وبعضهم لم يتسن لهم عرفان أمور سابقة لعهد دخولهم، وغير ذلك. ومع ذلك فإن مجموعة مرويات هؤلاء الرفقاء ومذكراتهم، إذا كانت لأحد منهم مذكرات، تكون مستنداً هامًّا من مستندات تاريخ حركتنا القومية الاجتماعية. خذ مثلاً الرفيق رجا خولي، فهو من أوائل الذين حدّثتهم في فكرتي ووجهت إليهم تعاليمي. ولكن وعيه كان ضعيفاً ومؤهلاته العلمية بعيدة عن صلب القضية، وكانت قوّته في حسن إدراكه الشخصي وفي استعداده الروحي الجيد. وكان دائماً يكرر قوله لي في بدء عملنا: "إني مؤمن بهذه التعاليم ومعتقد بصحة القضية. ولكني لا أرى كيف يمكننا التقدم في مجموعنا المستولية عليه نزعات وعوامل مختلفة، وأنا شخصيًّا لست أرى في نفسي كفاءة ومقدرة على مجادلة من يأتون بمعتقدات أخرى كالعروبيين وإقناعهم، ولست أرى غيري من المنضمين أقدر مني في هذا الصدد"، فكنت أشجعه وأوصيه بالصبر وأبيّن له فضائل الثبات والمثابرة، وكان ذا أخلاق تؤهله لذلك. وقوي وعيه القومي فيما بعد وظهر ذلك في رسائله وهو في طريقه إلى انكلترة حين ذهب ليكمل دروسه واختصاصه في الهندسة وفي أول عهد وجوده في انكلترة. وهو أول من استعمل في رسائله: لتحيى سورية ورأيت تعميمها. ولكنه بعد مدة على وجوده في إنكلترة وحصول الاعتقالات الأولى وانقطاع اتصالاته بي وبدائرة الأعوان حصل له فتور وبرودة إنكليزية جعلاه يعود القهقري إلى معظم حالات الموقف الشخصي الفردي السابق للموقف القومي الاجتماعي. وبعد عودته من انكلترة ظل متجنباً العمل الحزبي وكل شأن من شؤون الجهاد القومي الاجتماعي مع احتفاظه بمودته لي وبصحة القضية. واضطررت لبذل جهود كبيرة لإقناعه وإقناع ابن عمته الرفيق (نديم) المقدسي للعمل في فرع حزبي غير معلن ومكتوم عن فروع الحزب التي أصبحت معلنة. وبعد لأي جمعته هو والرفيق المقدسي والرفيق جورج صليبا ورفيقاً دخل حديثاً في أواخر سنة 1937 أو أوائل سنة 1938 ويعمل معاوناً في معمل الدكتور رئيف أبي اللمع ورفيقاً آخر هو ابن "الشيخ حسن" التاجر في مكان قرب ساحة البرج، وأظن أنّ اسمه محسن، وغيرهم من غير الراغبين في العمل العلني وإحراق مراكب الإنقاذ، وتمكنت من أن أعقد لهم عدة اجتماعات وأعيّن لهم أعمالاً تحضّهم على تحقيق الغاية الكبرى وتحيي العقيدة والقضية في نفوسهم.
والأمين الجزيل الاحترام عبدالله قبرصي دخل في الحزب في أواخر سنة 1934، وعلى الرغم من دروسه الحقوقية بقي ذا ميل شعري ظاهر في نظره في الأمور، ولكنه اتقد بروح النهضة وجاهد واختبر اختبارات عديدة. والرفيق موسى سليمان كان ضعيفاً جدًّا في إدراكه الأول لقيمة التعاليم وحقيقة القضية، وظهرت منه في بادئ الأمر تصرفات المشككين الذين لا قيم عليا ولا إيمان راسخ في نفوسهم. فلما فرضت أول جباية شهرية على الأعضاء للقيام ببعض النفقات الضرورية امتنع عن الدفع وأظهر شكوكاً في مصير المال، وبقي مدة طويلة لا يدفع ولا يواظب على الاجتماعات حتى قارب أن يسقط بالمرّة من الحركة كما سقط الأستاذ كنعان الخطيب. وعندما ذهب مع طلبته في سياحة إلى أوروبة أرسل مقالات أظن أنها نشرت في النهار أو صوت الأحرار مدح فيها النهضة الألمانية وغيرها، ولم يشر إلى شيء من ابتداء نهضة في وطنه قد تكون أفضل في تعاليمها ومراميها من النهضة التي رآها في ألمانية. ويمكن القول إنّ تلك السياحة أفادته وجعلته يرى أخذ الأمور بجد ويقين.
الأمين الجزيل الاحترام نعمة ثابت والرفيق الموقّف فخري معلوف كانا أكثر الرفقاء اطلاعاً على خطط الزعيم وافكاره، ويأتي بعدهما الأمناء الجزيلو الاحترام جورج عبدالمسيح، مأمون أياس، عبدالله قبرصي، والرفقاء رجا خولي، ويوسف صايغ، وجبران جريج، ورشدي معلوف، وغيرهم.
فترى، أيها الرفيق العزيز، كم هي شاقة مهمة جمع الملعومات الأولية الكافية لمعرفة حوادث تاريخ نشأة حزبنا والقضايا التي اكتنفت هذه النشأة. ونقص هذه المعرفة ينعكس على فهم "سياسة الحزب" وخططه السياسية الأولى. ومهما يكن من عناية بعض أوساط منفذية الطلبة بهذه الناحية من التراث الحزبي فإنّ نقصاً كبيراً في هذه العناية يبدو في المظاهر الفكرية الجديدة في أوساط الحزب العليا. ولذلك قلت في كتاب السابق، إنّ رأيك أو تعبيرك عن حالة الحزب في عهده الأول بالعبارة التي سببت ملاحظتي قد يكون مشتركاً مع رأي غيرك، على الأقل في توافق الاستناجات، كما هو الواقع الذي يجعل لعبارتك قيمة التعبير عن "آراء مشتركة بين عدد من أشخاص الإدارة المركزية الجدد" ويحتمل أن يكون منهم بعض أشخاص الإدارة الأولين الذين لم يتمكنوا من إدراك مراتب التخطيط السياسي في تفكير الزعيم وطريقته في معالجة الأمور.
قد تكون جرت، وقد لا تكون جرت لك محادثات مع مسؤولين وغيرهم من المطّلعين بشؤون القضية الفكرية ومن أصحاب الآراء، فيها في صدد "تحجر الحزب الأكاديمي" في نهجه السابق و"موقفه السلبي من السياسة القائمة". ولكن الواقع هو أنّ عدداً من المسؤولين جديداً ومن المفكرين في قضايا الحزب يستعمل تعابير متفقة في شكلها وأساسها مع عبارتك التي جعلتها موضوع ملاحظتي وكلها تريد أن ترى للحزب نهجاً جديداً أو أن يقوم أصحابها بوضع هذا النهج الجديد واستنباط أساليبه ووسائطه وتعيين أهدافه.
في رسالتي الماضية أشرت إلى ما لاحظته في فاتحة نشرة عمدة الثقافة وفي "بيان عميد الثقافة والفنون الجميلة الأساسي". وقد دافعت في كتابك الأخير عن عمدة الثقافة في صدد هذه الملاحظة، ومع أنّ ملاحظتي على بعض تصريحات هذه العمدة مع ملاحظتي على عبارتك الأولى ليست ناشئة عن "خشيتي" من نهج عميد الثقافة والفنون الجميلة ونهجك، فلا بد من ضبط هذا النهج بالملاحظات والتوجيهات، حرصاً على كمال الحقيقة واستقامة بنائها ورسوخ أساسها، وعلى شمول الفكر في أساس نهضتنا ووحدة حقيقتها ووحدة غايتها العظمى. وبعد فإني أعرف الرفيق فايز صايغ شخصيًّا، وقد وجّهته بنفسي لدرس العلوم السياسية والاجتماعية، وأعرف أمانته وإخلاصه، كما أنه لا شك عندي بأمانتك وإخلاصك. ولكي لا يبقى كلامي، عرضة لتأويلات غير متفقة تماماً مع ما يقصد به، أرى أن أعرض لما رأيت أن ألاحظ عليه في تصريحات حضرة عميد الثقافة والفنون الجميلة.
في الصفحة الأولى من العدد الأول من نشرة عمدة الثقافة والفنون الجميلة، وتحت عنوان " إلى القارئ" يقول حضرة العميد:
"بقي أن نشير إلى أنّ هذه النشرة – وهي مشروع من مشاريع عمدة الثقافة – تنطبق عليها سياسة العميد الأساسية، تلك السياسة المعبّر عنها في بيانه الأساسي المصدّر به هذا العدد: وبصورة خاصة فيما يتعلق بالمفكرين خارج الحزب... إنّ العمدة يسرّها أن ترحّب بكل مفكر مخلص يود أن يشترك في أداء رسالتها الثقافية، وتضمن له في نشرتها منبراً حرًّا للتعبيرعن فكره أو فنه".
هذه التصريحات مدعومة بما ورد في الفقرة الأولى من باب "مبادئ أساسية في سياسة هذه العمدة" من بيان العميد الأساسي:
"فالعمدة – إخلاصاً منها للمسؤولية المطلقة تجاه القيم العليا، وحرصاً منها على مصلحة الأمة التي تخدمها – لن تسمح باعتبارات خارجة عن نطاق قيم الحق والخير والجمال، أن تتدخل في شؤون انتاج ثقافي يتوخى التعبيرعن الحق والخير والجمال. وستترك هذه القيم تفرض نفسها، وتوجيهها بحرية".
في هذا الكلام وهذه التصريحات مواضع للنظر تدعو إلى التدقيق والملاحظة. وقد علّقت عليها فور قراءتي لها بما يأتي:
"في هذا الكلام صبغة شخصية فردية قوية لم تأخذ بعين الاعتبار نشأة العمدة ووجود الفكرة الثقافية الأساسية في العقيدة القومية الاجماعية وشرحها، وهذه النزعة الفردية البارزة تجعل العمدة مستندة، في الأساس، إلى "بيان العميد الأساسي وسياسته الأساسية" لا إلى الغاية الأساسية من انشاء "عمدة الثقافة" وإكسابها صفة مؤسسة من مؤسسات المنظمة، بموجب استنادها إلى "سياسة العميد الأساسية المعبّر عنها في بيانه الأساسي" عن اعتبار نفسها منفّذة لإرادة الحزب العليا العامة في الثقافة ومحققة الفكرة الثقافية الموجودة في تعاليم النهضة ومتكامنة باسم الحزب في الشؤون الثقافية، وعن الحاجة إلى ذكر ذلك وإظهار هذه الصفة، خصوصاً في ما يختص بما هو خارج نطاق الحزب ومن هم خارجه من مفكرين. بل نرى، علاوة على ذلك، أنّ العميد جعل مسؤولية العمدة الأساسية "المطلقة" تجاه "القيم العليا" وحرصها "على مصلحة الأمة التي تخدمها" بالاستناد إلى "المسؤولية المطلقة تجاه القيم العليا"، لا تجاه العقيدة القومية الاجتماعية ولا تجاه غاية الحزب من إنشاء عمدة الثقافة باعتبار أنّ العقيدة القومية وغاية المنظمة القومية الاجتماعية تشتملان تصريحاً أو تضميناً على "المسؤولية المطلقة"تجاه القيم العليا وباعتبار أنّ سياسة عمدة الثقافة وأهدافها منبثقة من سياسة المنظمة العليا وأهدافها الأساسية وجزء من هذه السياسة وهذه الأهداف. فلو أنّ العمدة قالت في فاتحة نشرتها: "إنّ العمدة يسرّها أن تعلن أنّ الغاية الثقافية للمنظمة القومية الاجتماعية تجعلها ترحّب باسم هذه المنظمة بكل مفكر مخلص يود أن يشترك في أداء رسالة النهضة القومية الاجتماعية، الثقافية، وتضمن له الخ". بدلاً من قولها "إنّ العمدة يسرّها أن ترحّب بكل مفكر مخلص يود أن يشترك في أداء رسالتها الثقافية، الخ". ولو أنّ العميد قال في "بيانه الأساسي": "فالعمدة – إخلاصاً منها للإرادة العليا التي أوجدتها، وللتعاليم السامية التي بعثت النهضة القومية الاجتماعية، ولغاية المنظمة القومية الاجتماعية من وجودها، وشعوراًمنها بالقيم العليا المتضمنة في تعاليم نهضتنا وبمصلحة الأمة التي تقوم المنظمة كلها بخدمتها، الخ". بدلاً من عباراته الأصلية، لكان أقرب إلى الحقيقة والصواب".
هذا كان تعليقي الأول وهو ليس كل ما ألاحظه وأريد قوله في صدد هذا "البيان الأساسي" وأسلوبه ونسقه. فقد استوقفت نظري عدة عبارات في البيان المذكور منها هذه العبارة" "لن تسمح (العمدة) باعتبارات خارجة عن نطاق قيم الحق والخير والجمال، أن تتدخل في شؤون نتاج ثقافي يتوخى التعبير عن الحق والخير والجمال!" فما هو الداعي لهذه العبارة ومن أين ينتظر أن يأتي "التدخل في شؤون إنتاج ثقافي" وما هو "نطاق قيم الحق والخير والجمال" الذي تريد العمدة أن تحميه ببيانها الأساسي وسياسة عميدها، وما هي مقاييس هذه القيم وموازينها؟ هل هي شيء راجع إلى استبداد العميد أم هي مستمدة من تعاليم النهضة وغايتها؟ وإذا كان الوجه الأول هو الصواب، أي أنّ العميد هو مرجع مقاييس الحق والخير والجمال، فما يكون رأي الرفيق فايز صايغ حين يتولى هو مهمة أخرى ويعهد إلى رفيق آخر القيام على عمدة الثقافة ويضع بياناً آخر غير بيانه ويستعمل مقاييس وموازين للحق والخير والجمال غير مقاييسه وموازينه؟ وما هي "رسالة عمدة الثقافة" هل هي رسالة خاصة بها أم هي رسالة مقررة من قبل، أُوجدت لها وكلّفت بأدائها؟
إنّ الرفيق فايز صايغ يعود في باب "رسالة شخصية" وفي "مقدمة الرسائل" المنشورة في فاتحة هذا الباب إلى الطريقة الصحيحة التي كان يجب، وبالأوْلى، أن يلزمها في "بيانه الأساسي" الذي يعتبر حجر الزاوية في عمله. وقد وجدت تشابهاً كثيراً، إذا لم أقل متابعة تامة، بين ما أورده الرفيق فايز صايغ في باب "مبادئ أساسية في سياسة عمدة الثقافة، وعبارتك التحفظية أو الاحتياطية في ختام كتابك الأخير، إذ تقول في مقال الطالب القومي الذي نذر نفسه لخدمة قضية بلاده وخدمة الانسانية من خلالها: "على أن لا يعني هذا تعصباً على الحق والخير والجمال أينما وجدت، لأسباب تخرج عن نطاقها، ولا قياس للحق والخير والجمال بغير قيمها المجردة" فما هو الداعي لهذه الاحتياطات والشروط، وكم تنطبق هذه التحفظات على تعليم المبدأ السابع من مبادئ نهضتنا القومية الأساسية القائل بتأسيس الاستقلال الروحي للسوريين واكتشاف عامل النفسية السورية الأصلية المستقلة، والداوي بهذه العبارة: "إننا نستمد مثلنا العليا من نفسيتنا ونعلن أنّ في النفسية السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم". أيمكن أو يجوز أن نعتقد أنّ تأسيس استقلالنا الروحي وإيجاد مثلنا العليا في نظرتنا القومية الاجتماعية إلى الحق والخير والجمال سيعمياننا عن معرفة الحق والخير والجمال أينما وجدت؟ أيجوز أن نشك في نفسيتنا السورية الأصلية إلى هذا الحد؟ أيمكن أن يكون إيماننا بتعليم نهضتنا بهذا المقدار، أيجوز أن نعتقد أنّ الحق والخير والجمال تحتاج إلى تجرّدنا من نفسيتنا الأصلية ومن نظرتنا إلى الحياة والكون ومن مثلنا العليا الراسخة في نفوسنا لندركها؟ وأية فائدة لنا من ربح العالم كله وخسارة نفسنا؟ وماذا يبقى من قوميتنا حين نجرّدها من عناصرها النفسية؟ وماذا تعني بالحقيقة هذه التعميمات والمطلقات؟ وأي حق او خير أو جمال يخشى أن "نتعصب عليه"؟ أهو حق الأرنب في رعاية الكلأ والبقول، أم حق الأسد في افتراس الغزال؟ وإذا وُجدنا، أنا وأنت، في قفر أو برية بعيدة وكنا نتضور جوعاً ومر بنا غزال نافر يتبعه نمر أو بير خاطف وكانت معنا بندقية فأي حق هو الحق المطلق، هل حق الغزال في السلامة أم حق السبع في الفريسة أم حقنا نحن في السبع والفريسة معاً؟
إنّ مثل العبارات الاحتياطية التي عرضت لها آنفاً يصح في الشعوب التي رمت بنظرتها إلى الانعزال عن العالم وعن الاشتارك في الاجتهاد والانتاج والإبداع الإنسانية العامة، وفي الأمم التي أغرقت في قوميتها وسلاليتها إلى حد الجنون. أما نحن فإننا في بداءة وعينا القومي وفي أشد الحاجة لإدراك شخصيتنا وجمال نفسيتنا الأصلية ولتوليد ثقتنا بنفسنا ولمعرفة حقنا وفهم خيرنا، ولا خوف علينا من الانعزال لأن خطط نفسيتنا الأصلية ليست في هذا الاتجاه.
إنّ وعينا لقوميتنا ونفسيتنا الأصلية وتولّد نظرتنا إلى الحياة والكون والفن وحصول مثلنا العليا السامية الجميلة هي خير ضامن لقيم الحق والخير والجمال المطلقة والمقيدة والمجردة والمصاحبة.
إني رأيت متابعة بحث هذه النقطة خلافاً لقولك في كتابك الأخير: "كما أنّ بحث هذه النقطة الآن لم يعد له أهمية أولى بعد تمام الاتصال المباشر وانتهاء مهمتي كمفوض اتصال"، لأني أرى علاقة هذه النقطة ببناء نفسك وزيادة وعيك القومي الاجتماعي أكثر مما هي بالمهمة التي كنت منتدباً لها. وهذه كانت طريقتي في تأسيس النهضة: بناء النفوس المؤهلة في العقيدة والنظام. ولما كان العمل في بدئه إفراديًّا ولا يزال قسم كبير منه إفراديًّا حتى الآن، فإني كنت أعني كل العناية بتثقيف الأفراد المؤهلين لكي تحصل وحدة النظر والاتجاه وكمال الوعي والفهم اللذين هما أساس كل تعاون مفلح.
أقف عند هذا الحد في التعليق على ملاحظاتي وجوابك لأتناول بكملة موجزة رأياً آخر من آراء إخراج الحزب من "تحجره الأكاديمي" ووضع نهج جديد له:
وردني مؤخراً كتاب من الرفيق أسد الأشقر من مصر يخبرني فيه عن أغلاط العمل التي وجدها في الحزب وسعيه لإصلاحها، وأنه قال للمجلس الأعلى: "إن القومية السورية تكاد تمسي عند القوميين وثناً يعبدونه ونحن لسنا عبّاد أوثان بل رجال إصلاح". وفيه يقول تحت باب الحزب السوري القومي والعالم العربي":
"عندما أرجع بفكري أدراج المراحل التي قطعها الحزب وأفترض: لو كان الزعيم أسس في لبنان سنة 1932 "حزب الاصلاح اللبناني" وفي سورية "حزب الإصلاح السوري" وسيّر الحزبين في انسجام واتجاه متوافقين ماذاكان حدث؟ أجيب نفسي: كان الزعيم اليوم زعيم لبنان بدون منازع، وكان الزعيم اليوم موجّه السياسة العربية العامة في "جامعة الدول العربية". إنّ الزعيم كان على صواب علميًّا وعقائديًّا وفلسفيًّا ولكنه لم يكن ناجحاً سياسيًّا وإذاعيًّا".
سوف لا أجيب الرفيق الأشقر في آرائه لأني لا أريد صرف أوقات طويلة في مجادلة آرء كثيرة، ولولا ما قصدته من كلامي إليك لم كنت توسعت كل هذا التوسع.
وختاماً لهذا البحث المختصر أقول إن رأيك في الانتقال من التشديد العقائدي إلى التشديد السياسي هو صحيح إلى حد ويقرب هذا الرأي من كمال الصحة إذ تقول: "... ومنها ما هو داخلي يرجع أنّ بعض الأعضاء قد أساء تقدير التشديد على العقيدة" فتحجر "في تفكيره السياسي"، ورأيي في هذه المسألة هو:
إنّ خطط الحزب السوري القومي الاجتماعي، كما هي في فكر الزعيم وتخطيطه وتوجيهه وعمله، لم ترمِ قط إلى إنشاء كتلة عقائدية متحجرة، بل إلى منظمة عقائدية تفعل إدارة وسياسة وحرباً لتحقيق غايته. ودستور الحزب وتشكيلاته كلها تدل على اتجاهه العملي مع تأمين أساسه العقائدي. ولكن تطبيق هذا التخطيط لم يكن ممكناً بمجرّد إرادة المؤسس المخطط، بل كان متوقفاً على تطور الحركة نحو تهيئة أسباب التطبيق. وهذه التهيئة كانت تقتضي عدة شروط:
1 – إكتمال مرحلة التأسيس والنمو التي هي مرحلة إرساخ العقيدة واكتساب العناصر الفاعلة على أساسها، وهو أمر لا يمكن تعيينه بمرسوم أو قانون من حيث مدته وعدّته.
2 – حصول عدد كاف من الأعضاء المتنوعي المواهب للقيام بالأعمال المتنوعة التي يقتضيها التخطيط المذكور.
3 – حصول ظروف سياسية مؤاتية.
وكانت مرحلة التأسيس صعبة جدًّا. فيجب أن لا نرى المدة التي مرت في هذه المرحلة أطول مما هي في الحقيقة. فإنّ أحزاباً عقائدية نشأت في أمم كبيرة، لها وعي قومي سابق، وثقافة حية، استغرقت مثل مدة حزبنا وأطول منها. وما اعترض عمل حزبنا من اصطدامات مع القوة الأجنبية المحتلة وفزاعاتها وتماثيلها وألاعيبها من المواطنين – تلك الاصطدامات المتكررة – قطعت على الحزب تطوره الطبيعي وتطبيق تخطيطه. وقد أقصت هذه الاصطدامات الزعيم عن الحزب في أشد أوقات الحاجة إلى وجوده، وبعد انتهاء الاعتقالات الثالثة ببضعة أشهر احتاج الزعيم إلى السفر إلى المغترب، ويبلغ بعده الآن من أعمال الحزب الرئيسية مدة نحو ثمان سنوات. وفيما يختص بالشرط الثاني نجد أنّ الحزب كان يفتقر إلى عدد من الأشخاص مؤهلين ومخلصين، وقد تعرّض بسبب افتقاره هذا إلى اختبارات مرة ومحزنة. وكان السبب في غالب هذه الاختبارات: ضعف العقيدة، وعدم رسوخ التعاليم المناقبية، وضعف الأخلاق، ويمكننا أن نذكر حوادث مؤامرة الخائن شارل سعد الذي كان منفّذاً عامًّا لمنفذية بيروت، وإساءة تصرّف فؤاد يعقوب مفرج بمشروع إنشاء "الشركة السورية التجارية" وتلاعبه بالأموال المجيبة لها، وإساءة تصرّف صلاح لبكي في المهمات والوظائف التي انتدب لها حتى أنه حين كان يشغل وظيفة "رئيس المكتب السياسي" كان "يلعب على الحبلين" لأنه كانت له مآرب نفعية خصوصية. وتبعه في هذا السبيل إميل خوري الذي عيّن مدة لعمدة الإذاعة، وتآمر ودسائس جورج حداد الذي شغل الحزب في عدة قضايا من دسائسه.
وتأخر بعض العناصر المخلصة المثالثة عن التعاون في المسؤوليات منهم الرفقاء جورج حكيم، رجا خولي، عفيف فاخوري، (نديم) مقدسي وغيرهم. فلم يكن بد من انتظار حصول الجهاز الشخصي لتوزيعه على الأعمال المختلفة ليسير العمل باستمرار. ومما وصفته لي من حالة الإدارة المركزية والتحقيق في المجلس الأعلى في أعمال الرئيس ثابت هو مثال من حالة الحزب الشخصية في الدوائر الرئيسية. وكانت الظروف الماضية دائماً غير مؤاتية فالملاحقات والسجون والمحاكمات والإشاعات والأراجيف في هذا الطور لم تسمح للإدارة الحزبية العليا من القبض على أعنّة الأمور.
ولا تزال مشكلة الجهاز الشخصي لإدارة الحزب وسياسته غير محلولة، وفي هذا الظرف يسقط شخص كان مفيد جدًّا بإخلاصه وإدراكه هو فخري معلوف. وأنت بعد أن عملت مدة أتيت أميركانية للتخصص العلمي، والرفيق أسد الأشقر سيعمل أعمالاً خصوصية في مصر، والرفيق كريم عزقول ابتعد بداعي السفر. وقد كنت مسروراً جدًّا بظهور الرفيق عزقول وظهورك وظهور الرفيق فايز صايغ وحلمي وفوزي معلوف ويوسف صايغ في ميدان العمل.
بعد انتهاء مرحلة التأسيس – إذا كانت قد انتهت – تصبح المسألة مسألة أشخاص وظروف وتحول في التشديد أو تطبيق الخطط السياسية العملية بأوسع شكل ممكن. فتطبيق الخطط السياسية العملية يحتاج ليس فقط إلى "تحويل التشديد" بل إلى أشخاص مؤهلين للأعمال السياسية. والمواهب السياسية لا يمكن احداثها بالمراسيم أو بتقرير تحويل النهج من جهة إلى أخرى، وقد رأينا نتيجة قيام العقائديين بأعمال سياسية في مثال وفد الحزب لمقابلة المرحوم الدكتور عبد الرحمن شهبندر، فمع أنّ المهمة كانت سياسية بحتة فإن أعضاء الوفد حوّلوها إلى جدل عقائدي لا طائل تحته، مع أن محادثة الزعيم الأولى مع الشهبندر في المقابلة السرية في الجرجانية كانت على أساس سياسي بحت.
إن من الأشخاص من هم مؤهلون للمسائل العقائدية فقط، وتحوّلهم إلى السياسة يصيّرهم سياسيين ولا ينتج أعمالاً سياسية ودبلوماسية باهرة أو مجدية، وإنّ منهم من لا يصلح لغير الإدارة أوالنظام أو الجندية فيجب أن لا نحمّلهم أعباء قضايا لا يحسنون معالجتها ويمكن أن يرتكبوا فيها أغلاطاً كبيرة كما حدث في الماضي. ويجب أن يكون هنالك رجال مؤهلون للمسائل السياسية يكلفون القيام بها، وهؤلاء كانوا قلائل في الماضي ولا يزالون قلائل الآن. وإكساب الحزب كله مرونة سياسية من غير تهور في عقائده يحتاج إلى وقت وجهاز شخصي ضابط. وأكتفي الآن بما تقدم في هذا الصدد.
منفذية أميركية العامة: فيما يختص بإعادة تنظيم هذه المنفذية أطلب أن يكون مرجع ذلك إليّ نظراً لقربي واطلاعي السابق. وبعد إتمام التنظيم تصبح المنفذية، بصورة ذاتية، تابعة لمكتب عبر الحدود حسب التنظيم القانوني في جميع ما يختص بأعمالها النظامية العادية والقانونية، لذلك أنتظر نتيجة درسك واقتراحك لإصدار المراسيم اللازمة.
عودة الزعيم: حتى الآن لمّا أباشر تصفية أعمالي التجارية بانتظار المعلومات أخيرة الوثيقة عن إمكانيات عودتي إلى الوطن. فقد طلب الحزب من الحكومة إصدار جواز سفر لي للتنقل بحرية وللعودة إلى الوطن إذا شئت. وقد يكون تغيير الوزارة في لبنان أحدث تأخراً في حصول النتيجة. وبعد رسالة صادرة عن المركز في 12 مايو/أيار الماضي لم أعد أتسلم شيئاً جديداً، وكان يجب اطلاعي على بعض ما يجري.
يجب وصول المعلومات النهائية لأجزم بالخطة. فقد لا ترغب الحكومة اللبنانية أو ما فوقها بعودتي وتختلق الأعذار، وقد تريد أن لا أعود إلا بعد انتهاء المعركة الانتخابية المقبلة في السنة القادمة. فهل يحسن تصفية أعمالي التجارية في هذه الحالة والحزب لا يقدر أن يقوم بنفقتي وحفظ كرامتي في هذا المهجر الغريب؟
إذا وردتني أخبار ايجابية موافقة فسأبدأ التصفية التي قد تكون سريعة وقد تكون بطيئة بسبب حالة الأرجنتين الداخلية الحاضرة، واقدّر أنه يمكن أن تنتهي في آخر السنة الحاضرة، وطريقة سفري تتقرر حينئذٍ حسب الضرورات الحزبية، فإما أن أعود رأساً إلى الوطن من أجل المعركة الانتخابية المقبلة في لبنان، وإما أن أزور الفروع الحزبية في الأميركتين زيارة قصيرة فأبدأ بالبرازيل، ثم بأميركانية والمكسيك، ومن ثم إلى الشاطئ الذهبي إذا سمح الوقت. والسفر يمكن أن يكون بالطيارة اذا توفرت النفقة واشتركت فيها الفروع أو البحر، وهو بطيء، وعلى نسبة مبلغ مساهمة الفروع المادية تتقرر طريقة السفر.
ولست أبغي في تصفية أعمالي التجارية غير تأمين الأمور التالية:
1 – تسديد حسابات الدائنين من التجار.
2 – وفاء قرض ابن حمي.
3 – تحصيل ما أمكن من ديون لتأمين الأمرين الأولين.
فإذا تعرضت في التصفية لخسائر كثيرة يبقى عليّ دين صغير لابن حمي يكون عليّ إيفاؤه. وفي حالة زيارتي الفروع يكون سفري وحدي وتبقى عائلتي عند بيت حماتي إلى أن أشير عليها بموافاتي إلى الوطن، وفي المراسلة التالية نبحث هذه الأمور.
لم تعطني خلاصة الجلسة الأخيرة مع الرفيق الموقف فخري معلوف قبل تنفيذ المرسوم بإيقافه، فأحب أن أعرف ذلك.
إقبل سلامي القومي ولتحيى سورية.

 

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.