صدر عن مكتب الزعيم، 4/8/1946
إلى الرفيق غسان تويني، كمبردج، ماستشوستس، أميركانية
أيها الرفيق العزيز،
تسلمت رسالتك الأخيرة المؤرخة في 23 يوليو/تموز الماضي، وسررت بها
وبالصورة المرفقة بها التي عرّفت إليّ الرفيقين العاملين جورج شاهين وميشال أبو رجيلي
وبخاطبيك بالراديو في إذاعة الرفيق أبو رجيلي.
كنت أود أن أكتب إليك كثيراً وأسهب لك في ما تفيدك معرفته من نشوء الحزب وشؤون مرحلة تأسيسه، ولكن ليس في مقدوري المادي أن أقوم بكل ما أوده نحو عدد من الرفقاء غير قليل، ولم أعد اليوم بعد الطوارئ التي طرأت على صحتي في مثل النشاط الفيزيائي الذي كنت عليه في الماضي، فبعد كل وقعة طعام احتاج إلى لا أقل من ساعة راحة تامة بأمر الطبيب. وكنت في الماضي أكتب على الطعام وبعد الطعام وأفكر في كل وقت وكل حالة. مع ذلك فقد اعتنيت بإعطائك معلومات وشروحاً رأيتها كافية لإنارة طريق تفكيرك في بعض قضايانا الفكرية والادارية والسياسية. وأعتقد أنه يفيد أن تراجع بين الفينةوالفينة ما كتبته وأكتبه إليك في هذا الصدد.
ما كتبته في رسالتك الأخيرة شارحاً المقصود من "سياسة" عمدة الثقافة ينطبق على المقصود التقني من النص القانونى فيما يتعلق بسياسات العمد، وليس في كتابي السابق إليك ما يحتمل أن يستنتج منه أني أنكر ما شرّعته فى هذا الصدد من ضرورة تخطيط كل عميد سياسة عمدته العملية في تطبيق ما يخص عمدته من غاية الحزب وخطته الأساسية.
وقد رمت سياستي دائماً إلى تقوية الأشخاص المؤهلين وجعل المضطلعين منهم بالأعباء يشعرون أنهم يتمتعون لقاء مسؤولياتهم الكبيرة، بصلاحيات واسعة على نسبة كبر المسؤولية. وحصول الوضوح التام لهذه النقطة لا يدخل ولا يوجب إدخال أي تعديل على ملاحظاتي في كتابي السابق، فالمسألة ليست مسألة هل يجب أن يكون لعمدة الثقافة سياسة يضعها عميدها، وهل يجوز أن تصطبع سياسة العمدة بصيغة شخصية العميد؟ فمجرّد القول إنّ العميد مسؤول عن سياسة عمدته ينفي كل جدل اساسي حول هذه النقطة، وإنما المسألة، كما حددتها في رسالتي السابقة، تنحصر، من جهة المبدأ الأساسي، في هل يجوز أن تتقدم "سياسة العميد الأساسية" في المنزلة والأساس، على أهداف الحزب العليا وغايته الأخيرة وتعاليمه الأساسية التي أوجدت عمدة الثقافة لتطبيق ما يختص بناحيتها منها؟ وهل يجوز أيضاً أن تقدّم عمدة الثقافة، كائناً من كان عميدها حتى ولو كان عميدها الزعيم نفسه، مسؤوليتها المطلقة تجاه القيم العليا وحرصها على مصلحة الأمة التي تخدمها، على مسؤوليتها الواضحة نحو المنظمة التي أوجدتها لتحقيق غايتها ونحو تعاليم هذه المنظمة الممتازة بصفتها الثقافية، ونحو وحدة إدارة المنظمة ووحدة إرادتها فى الحرص على مصلحة الأمة بحيث لا يكون لأية عمدة من العمدات حرص مستقل على مصلحة الامة غير مندمج في حرص المرجع الأخير للمنظمة مهما كان شكل هذا المرجع: الزعيم أو المجلس الأعلى أو المبادىء والتعاليم أو الدستور.
إنّ المسؤولية المطلقة تجاه القيم العليا لا يمكن، دستوريًّا، أن تكون من صلاحية أية عمدة أو إدارة جزئية من إدارات الحزب يفترض أنها عاملة بتعاليم الحزب، وليس بتعاليمها الخاصة، وأنها مسؤولة عن أعمالها وسياستها وإجراءاتها تجاه المصدر الذي تستمد منه مشروعية وعودها وصلاحية عملها. المسؤولية المطلقة تجاه القيم العليا لا يمكن، ولا بوجه من الوجوه، أن تكون سياسة من سياسات العمد ولا مبدأ أساسيًّا من مبادىء وجودها وأغراضها. فالقاعدة الأساسية المنطقية يجب أن تكون: إنّ المسؤوليات الكلية لا يمكن أن تكون صلاحية من صلاحيات أية مؤسسة جزئية وإنّ المسؤوليات المطلقة ليست من شأن إدارة مقيدة، مهما كانت عامة الصفة ضمن دائرتها المحدودة. وإنه لمن الصعب قبول مثل هذا التعبير حتى من مجلس العمد كله. فكون مجلس العمد مؤسسة صادرة عن سلطة تشريعية عامة لتحقيق أغراض تعاليم معيّنة، فمرجعه هذه السلطة وهذه الأغراض والتعاليم المقيد بها والمسؤول تجاهها في كل ما يخطط وينهج، ويجب عليه أن لا يتعدى هذه الحدود الا إذا أراد تعريض النظام الدستوري كله للانهيار.
إنّ عمدة الثقافة، ككل عمدة أخرى من عمدات إدارة الحزب السوري القومي الاجتماعي، لم تنشأ دستوريًّا "لخدرة الأمة" بإرادتها وأمرها، بل لتحقيق بعض غايات المنظمة التي صدرت عنها، ويجب عليها أن تتقيد بهذه الروحية حتى في حالة كون هذا الشكل إسميًّا، فكم بالحري والشكل فعلي. ومثل بسيط قد يزيد الفائدة: لا تزال حكومة بريطانية تستعمل هذا التعبير: "تريد حكومة جلالة الملك أن..." ونحن نعلم أنّ حكومة بريطانية هي حكومة الشعب البريطاني بالفعل وليست "حكومة جلالة الملك" إلا بالإسم.
إن مسؤولية عميد الثقافة تجاه مراجع الحزب العليا لا تجرده من شخصيته ولا من تخطيط سياسته العملية في الاضطلاع بأعباء ما ألقي عليه من الأغراض والمهمات، ولكن الدستور لا يجيز له أن يغفل أنّ كل ما يجري باسمه إنما هو على مسؤولية الدستور الأخيرة لا على مسؤوليته المطلقة.
إنّ هذه النقاط الحقوقية والدستورية والإدارية والروحية تدخل في جملة ما قلت إني سأتناوله في خطابي أو رسالتي إلى المجلس الأعلى، وفي خطاب أو خطب موجهة إلى هيئات الحزب المسؤولة لتكون درساً للجميع. وقد أدليت بها إليك خصوصاً من أجل ما قلت في كتابي السابق من اهتمامي ببناء نفسك العقائدي والنظامي وزيادة وعيك القومي الاجتماعي، خصوصاً وأنك قد عرضت لها بحماس في شرحك التبريري لاتجاهات عميد الثقافة في قيامه بمسؤولية عمدته في كتابك الأخير، وقبل أن أنتقل إلى النقطة التالية التي يهمني نقل وجهة نظري فيها إليك عملاً بقاعدة: بناء النفوس المؤهلة في العقيدة والنظام، أريد أن أقول إن غرض ملاحظاتي هو غرض تعليمي إصلاحي عملاً بالقاعدة المذكورة، وإني أزيد على ما تقدّم أنه لمّا كان الأمر متعلقاً بمن هو مثلك، ومثل الرفيق فايز صايغ من تلامذة العقيدة القومية الاجتماعية وحملة أفكارها وممثلي روحيتها، فلن أترك التثقيف لألجأ إلى السياسة. بهذه الطريقة بنيت شخصيات أعضاء المجلس الأعلى وإدارة الحزب العليا، وبهذه الطريقة أريد تقوية وحدة الفكر والقصد فى دائرة جميع اصحاب الفكر والعلم من العاملين والمشتغلين بقضايا الحزب الفكرية. وفي هذا السياق، وقبل تناول التحفظ للحق والخير والجمال، أريد أن اقول إنه مهما يكن من أمر كون الرفيق فايز صايغ أول محقق لمؤسسة عمدة الثقافة فلا يجوز القول إنّ هذه التحقيق العملي هو "تأسيس يكاد يكون كليًّا"، أي بالغرض والغاية الفكرية أيضاً، فهذا أمر حاصل في تعاليم الحركة القومية الاجتماعية التي هي جد ثقافية وفي تأسيس العمدة دستوريًّا، الدال على قصد واضح من هذا التأسيس ثم في التمهيدات الثقافية بإنشاء "الندوة الثقافية" التي تعهدها الزعيم بنفسه في عهدها الأول. وإذا كان يحق للرفيق فايز صايغ أن يفتخر بأنه أول من نظّم عمدة الثقافة وخطط لها سياسة فيجب أن يترك لمراجع الحزب العليا الشهادة له بمبلغ خدمته من الجلال وهي لا تبخسه حقه، وأن يتجنب إغفال كون عمدة الثقافة منبثقة من فكرة ثقافية وغرض ثقافي واضحين، وأنه مهما وسّع هو في هذه الفكرة وهذا الغرض فالأمر توسيع لا إنشاء كلي ولا شبه إنشاء كلي. وإذا لم تتوضح هذه المسألة كما يجب صارت سابقة لتشجيع النزعات الفردية ونشوء "سلسلة الاستنباطات" التي حدّثتك عنها في رسالة سابقة ولإهمال الأصول العقائدية، والدستورية، خصوصاً إذا أخذ العمد الآخرون أو بعضهم يفكرون متأثرين "بالمبادئ الأساسية لبيان عميد الثقافة الأساسي" وينظرون إلى عمداتهم كمؤسسات حرة مستقلة، مسؤوليتها هي تجاه "القيم العليا" رأساً لا تجاه المنظمة ووضعها الدستوري. وغرضها "خدمة مصلحة الأمة" لا تحقيق غاية المنظمة وفاقاً لدستورها وتشريعها ونظامها. وليست هذه المرة الأولى التي يغفل فيها أعضاء المجلس الأعلى التدقيق، في غيابي، في مثل هذه القضايا الأشد خطورة مما يدل عليها ظاهرها، أو لا ينتبهون إلى ذلك.
وقفت على شرحك لتحفّظك في قوميتك "الحق والخير والجمال" المشترك في المعنى مع احتياطات عمدة الثقافة في هذا الصدد. والذي أراه بعد النظر في الأسباب الباعثة على التحفظات والاحتياطات المذكورة، أنّ هذه التحفظات والاحتياطات العامة غير موفقة من الوجهة العقائدية. وموضع عدم التوفيق هو في تعميم إطلاق قيم الحق والخير والجمال الذاتية، وهذا التعميم يتجاوز كثيراً حدود رفض "الشوفنة" الذي أعلنه الزعيم ويكوّن في الأخير خطراً نفسياً (سيكولوجيًّا) على العقيدة القومية الاجتماعية في نفوس الكثيرين. فالحق والخير والجمال من حيث هي قيم مطلقة لا وجود لها، في الواقع في العالم الانساني إلا حيث ينتفي تنوع للنظر أو تنوع المصالح وتصادمها، ولمّا لم تكن هذه القيم مادية فلا يمكن أن يكون لها تحديد واحد في العالم، فهي إذاً، حتى في أوسع إطلاقها، نسبية لتنوع الجماعات البشرية وتنوع مراتب ثقافتها وأمزجتها، فالحق المطلق للإنكليزي هو ما يراه بنظرته الإنكليزية، والحق المطلق للسوري هو ما يراه بنظرته السورية، وكذلك الخير والجمال. اما ما يختص بمقدرتنا النفسية على فهم مختلف أنواع الحق والخير والجمال عند الأمم الأخرى، فلا يوجب أن نتخلى عن الحق والخير والجمال كما نراها نحن لنقبل القيم المطلقة كما تصورها نظرات الأمم الأخرى.
كل حق وكل خير وكل جمال، لكي يصح أن تكون قيماً عليا حقيقية، مطلقة عندنا، يجب أن تخضع لشروط رؤيتنا إياها كذلك أو لاشتراكنا في رؤيتها كذلك، وإلا تعرّضنا لفقدان نظرتنا الشخصية الخاصة. فإذا كانت هذه القاعدة صحيحة فلم تكن أو لم تبقَ حاجة إلى التحفظات والاحتياطات التي هي موضوع هذا الشرح، بل إنّ القاعدة التحفظية المشار إليها تضعف الثقة بصحة نظرتنا الشخصية إلى الحق والخير والجمال واعتبارها كافية، مع نموها وتطورها، لتعيين الحق المطلق والخير الكلي والجمال الكلي. ومعناها في الأخير، بالاستناد إلى تعميمها وإطلاقها، قد لا يختلف عن هذه العبارة: إننا نقدر أن نكون قوميين، في معترك الحياة والتفوق بين الأمم، في كل شيء إلا في النظر إلى الحق والخير والجمال، أي في أهم مزايا الشخصية القومية.
يوجد فرق كبير بين هذا التعميم العقائدي أو الفلسفي وتحديد الزعيم للظاهرة المعروفة "بالشوفنية". ولا يستدعي تقبيحنا لإحراق الكتب الفرنسية في الساحات العمومية، الذي هو من الوجهة العملية شيء رمزي فقط، تقرير مثل هذه القاعدة التحفظية المطاطة التي ستبقى، بعد زوال إحراق الكتب، قاعدة فكرية تضعف الثقة بالنظرة القومية وتخضع الأمة "لقيم مطلقة" تضحّي نظرتها على مذبح نظرات سواها المبثوثة في آدابها.
وفي هذه الحقيقة يكمن سر اهتمام الأمم الاستعمارية بحمل آدابها إلى الشعوب الواقعة ضمن نطاق إمبراطوريتها ناقلة إلى هذه الشعوب الحق والخير والجمال في الصور المطلقة الخاصة بكل أمة من الأمم التي قدرت على تكوين نظرتها العليا إلى الحق والخير والجمال.
إنّ تقبيح إحراق الكتب في تظاهرات "شوفنية" صحيح،، ولكن القاعدة التي وضعت لتقبيحه ليست موفقة. وأعود فأقول إننا لسنا قي حاجة إليها فى هذا الطور الذي هو طور إيجاد وجداننا القومي وإرادتنا القومية في كل ما هو من معاني الحق والخير والجمال. وإحراق الكتب في الساحات في تظاهرات شعبية عمل مألوف جرى ويجري في أرقى الأمم تمدّناً وثقافة، ولا موجب للخوف الكبير منه على الحق والخير والجمال، وانتم الذين ترغبون في التشديد على الوجهة العملية والسياسة العملية من عملنا القومي الاجتماعي كان يجب أن تتجنبوا إثارة مثل هذه القضايا النظرية التي لا فائدة عملية منها.
وعمدة الإذاعة وبعض مفكري الحزب الحريصين على عدم إضاعة الحق والخير والجمال في التظاهرات الشعبية غير المسؤولة كان يمكنهم الاكتفاء ببعض مقالات وإذاعات تحليلية لهذه الأمور من غير حاجة إلى مثل هذه التعميمات الخطرة من الوجهة النفسية التي قد تؤدي في الأخير إلى غير المقصود منها الذي لم تقتصر عليه، بل الأوْلى عدم الخوف من إحراق الكتب الذي ليس هو سوى عمل رمزي ضد أدب الدولة التي رمت إلى استعباد السوريين ووضعهم في قالب نظرتها. ويوجد وسائل عملية كثيرة لمنع تحوّل هذه التظاهرات إلى "شوفنية" متفشية من غير التعرض لهذه المطلقات الخطرة خصوصاً في الكيفية والقرائن التي وضع عميد الثقافة عبارته فيها حتى قد يبدو أنها تحفظية ضد عوامل من داخل الحزب في قرائن عبارتك. وفي رأيي أنّ ما هو أهم من إحراق جمهور من الطلاب غير المسؤولين الكتب الفرنسية هو تصريح رئيس جمهورية الشام السيد شكري القوتلي أنه لا يمكن أن يؤمّن أحد من الفرنسيين، على الإطلاق، على حياته وماله ضمن نطاق الجمهورية. فهذه شوفنية مسؤولة لا تعبّر عن حقيقة نفسيتنا ونظرنا إلى الأمور يجب تقبيحها وانتقاد صدورها عن المسؤول الأول في تلك الدولة السورية بشدة. أكتفي بهذا الشرح في هذا الصدد وأعتقد أنّ ميلك إلى الدرس والتدقيق ومقدرتك على القياس لا يحوجان إلى أكثر منه.
بعد كتابة ما تقدم خطر لي أن أعود إلى النقطة السابقة المتعلقة بعمدة الثقافة والاعتقاد بتأسيسها القريب من الكلي، لأعطيك صورة ومعلومات توضح لك نواحي كثيرة وتجلو لك فهماً أوسع للحقيقة والواقع: إنّ الرفيق فايز صايغ حضر، كما يترجح في ذاكرتي، مع أخيه الرفيق يوسف ومع الرفقاء فخري ورشدي وحلمي معلوف، وفخري يحمل آنئذٍ رتبة الأمانة، بعض اجتماعات "الندوة الثقافية" الأولى وأصغى إلى أبحاثها ومناقشاتها واطلع على توجيهات ثقافية كثيرة للزعيم، وهو فوق ذلك، أحد الذين كان من نصيبهم سماع أحاديث كثيرة للزعيم ولوجوده مدة من الزمن في دائرة المقربين إليه وهي مدة كثرت فيها الأبحاث والأعمال ونشطت فيها الحركة الثقافية بإيجاد "الندوة الثقافية" التي قصد منها إيجاد تأسيس أولي للثقافة والعمل الثقافي، فهو حين قدم، طالباً في سنته الأولى فى الجامعة الأميركانية سكن برفقة شقيقه يوسف وتوفيق (أرجّح أنّ هذا إسم أخيه الآخر) في بيت الرفيق الموقّف فخري معلوف ووالدته واخوته، فكان احترامي لوالدة فخري ومحبتي لأفراد هذه العائلة، كما لا يزالان الآن، كبيرين وكنت أتردد كثيراً على بيتهم، نظراً لتوثيق العلاقات الروحية بيني وبينهم ولكثرة الأعمال من ثقافية وغيرها، التي كان يعاونني فيها فخري باجتهاد كثير. وبعض اجتماعات مجلس العمد، فى تلك الآونة، جرى في بيتهم (أواخر 1937 – أوائل 1938) وفي بيتهم جرى الشروع بوضع قواعد التدريب الجندي بمعاونة الجنديين الرفيقين جمال باشا الغزي الذي كان أول من أخذ يعلّم الرفقاء معنى الزعامة وقدر شخصية الزعيم ومنزلته في الحركة والنظام، ومنبر الملاذي، وفي بيتهم تألفت لجان وضع قواعد التريبة القومية للنظام العام والنظام الجندى وابتدأ العمل باشتراك جميع هذه القوى تحت إشراف الزعيم وإدارته وتوجيهاته، وأخذ في تحديد المعاني والقيم الأساسية الآتية: ما هو الوطن، ما هي الأمة، ما هو الزعيم ومن هو، ما هو العلم، ما هي الجندية، ما الجيش، الخ. وكثيراً ما كنت أتغذى وأتعشى في بيت هذه العائلة الجيدة الصفات، ويجتمع على المائدة أيضاً الرفقاء صايغ فنطرق مواضيع متعددة وكثيرة منها ثقافي. وأحياناً كنت أتحدث إلى الصغار خاصة وأجيب على الأسئلة التي يلقونها عليّ، وكان حلمي أكثر السائلين، وكان يريني بعض مقاطع إنشائية له، منها قطعة يخاطب بها طيارته. وكانت اجتماعات "الندوة الثقافية" لذاك العهد تجري في بيت الأمين عبدالله قبرصي الذي كان قريباً جدًّا من بيت معلوف في رأس بيروت. وكان يحضر هذه الاجتماعات، بصورة دائمة، فحري ورشدي معلوف ويوسف صايغ، وبصورة استثنائية صار يسمح للأحداث حلمي وفوزي معلوف وفايز صايغ بالحضور والاستماع. وكان الزعيم يحضر جميع هذه الاجتماعات، حتى حين يكون مريضاً ومرهقاً، نظراً لاهتمامه الخاص الكبير بالناحية الثقافية ولأن الثقافة من أقوى أعماله وأغراض رسالته وكان في آخر كل اجتماع يتناول محاضرة المحاضر فيحللها ويعرض لأسئلة الحضور وأجوبة المحاضر عليها. وينص مواضع النظر في كل ذلك ويصلح الأغلاط، ويصحح الاستنتاجات بموجب قواعد أساسية يشرحها ويعطي توجيهاته فيستغرق كلامه أحياناً ساعة، وأحياناً أكثر أو أقل، على نسبة أهمية الموضوع وطريقة عرض المحاضر له. وأكثر ذلك كان يدوّن في وقائع الاجتماعات. وكان الناموس المدوّن آنئذٍ الرفيق فؤاد سليمان شقيق موسى سليمان، وأحياناً كنت أملي عليه الأجزاء الهامّة من كلامي التي كنت أخشى أن تغفل، وفي سياق هذه الاجتماعات عرضت عليّ فكرة السماح لأشخاص من خارج الحزب بحضور اجتماعات الندوة والاشتراك في حركتها وأعمالها، وذلك أنّ خبر الندوة وأبحاثها أخذ ينتشر في المجتمع في رأس بيروت، وأخذ بعض محبي الابحاث الثقافية من معارف الرفقاء يبدي رغبته في الحضور والاكتساب، فرحبت بالراغبين في ذلك بحسن نية وأعلنت أنّ غرضنا نشر الثقافة في جميع أوساط الأمة، وأننا نسمح لكل راغب في العمل الثقافي بالاقتراب منا والاشتراك في أعمالنا الثقافية بشرط أن لا ينتج من ذلك إفساد لخطتنا وتعويج لأهدافنا الثقافية. وبعد سفر الزعيم تابعت "الندوة" أعمالها وتعهّدها تعهداً جيداً فخري معلوف ودرّس فيها كتاب نشوء الأمم وغيره وأعتقد أن الرفيق صايغ، فايز، حضر اجتماعاتها. فالعمل الثقافي وتوضيح بعض غاياته الهامة ابتدأ فعلاً قبل تشكيل عمدة الثقافة إداريًّا. ولا يمكن القول إنّ عمدة الثقاقة لم يكن لها أساس فكري واضح إلا بعد أن تولى عمدتها الرفيق فايز صايغ أما ما قدّمه لها الرفيق صايغ من الإنتاح الفكري العالي القيمة والتنظيم الإداري وابتغاء المحافظة على سلامة غرضها وصحة اتجاهها فتقديره لن يكون أقلّ من حقيقته ولن يقلل من شأنه كون عمدته مسؤولة، قبل كل اعتبار وفوق كل اعتبار، تجاه المنظمة القومية الاجتماعية التي هي فرع من فروعها، عن تحقيق الغرض الثقافي الموكل إليها تحقيقه، خصوصاً وأنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي لم ينشأ حزباً سياسيًّا للأغراض السياسية فحسب، بل حزباً تعليميًّا ومدرسة عقائدية تثقيفية ظاهرة أسسها وخطوطها في تعاليمها الأساسية. فعمدة الثقافة لم تنشأ من تلقاء نفسها ويجب أن تشعر، مع تأثرها بشخصية عميدها وسياسته، بوجوب انطباق ذلك على الفكرة الأساسية التي صدرت عنها، مع عدم حرمان العميد حق إثبات أو إبراز شخصيته ومواهبه المفترض أنه معين بناءً على وجودها فيه، لأنها هي مؤهلاته، بإعطاء من يراه من تآويل وترجمات لغاية عمدته كما فهمها وبما تسلّمه من أصولها المكتوبة أو الملفوظة وبما تحسسه من عرض الشارع أو المنظمة من إنشائها، كما أظهر شيئاً من ذلك في غير البيان الأساسي الذي وضعه ووضع فيه المبادئ الأساسية المشار إليها، وكان من حقه إظهاره في البيان الأساسي ولزوم الظهور تجاه خارج الحزب بصفة الوكيل، كما هو حقيقة، لا بصفة الأصيل كما ظهر فى الفقرات التى أبديت ملاحظاتي بشأنها، إن لم يكن مبالغة في الحرص على مطلق الحق والخير والجمال، فعلى الأقل محافظة على وحده الحزب الأساسية والشكلية تجاه الأوساط والجماعات خارج نطاقه وعلى مبادىء النظام الدستوري. وارى هذا كفاية مع ما سبق فإذا أحببت التأمل فدقق وراجع.
قضية الرفيق الموقف فخري معلوف: بعد الاستعراض المتقدم الذي أثار فيّ ذكريات الجهاد الماضي وظروفه وقراءة تقريرك عن محاولتك إرجاع فخري معلوف عن تهوره في هوسه المذهبي. لا بد لي من إثبات حزني هنا على هذا الرفيق القديم وما صار إليه بعد ما كان يُتوقع منه من النشاط في متابعة الغرض القومي الاجتماعي بعد نهاية دروسه الفلسفية. وقد تألمت جدًّا لحالته حين قرأت عبارتك: "فأبدي رغبة في تدوين هذه الأمور ودرسها والاستشارة بشأنها قل إعطاء جواب نهائي"، فقد دلّ ذلك على استسلامه التامّ لمشيئة خارجة عنه بتحجر نفسي وتعطيل لمزايا حرية الفكر التي كان يمتاز بها في مدة وعيه القومي. وإني أسائل نفسي: ترى هل يمكن أن يستعيد شخصيته ونشاطه العقلي وحرية إرادته إذا انتقل إلى الوطن وتغيرت بيئته؟ ومما ورد في تقريرك فهمت أنه احتفظ بالمراسلات التي جرت بيني وبينه، ومنها ما هو ضروري وجوده في سجلات المنفذية، خصوصاً رسائل توجيهي السياسي له في ما يتعلق بالاتصال بالحكومة الأميركانية، وشرح عقيدة حزبنا وغايتنا لها، وقد فعل وزار واشنطن وأرسل إليّ تقريراً عن نتيجة رحلته. والأرجح انه لن يسلمها لو سئل ذلك.
منفذية أميركانية: أقبل اقتراحك تأجيل التعيينات القانونية لتشكيل هيئة المنفذية إلى أن تكون أتممت اتصالك بباقي الرفقاء واستوفيت استقصاءاتك. أما خطوط عمل المنفذية الأساسية فأريد أن أبدي في صددها ما يلي:
1 – إنّ الخطوط الأساسية لعمل أية منفذية أو فرع في أي مهجر من المهاجر يجب أن تماثل الخطوط الأساسية لعمل أية منفذية أو فرع آخر في ذات الوضعية وبالتالي: إنه يجب وضع قواعد عامة للعمل السوري القومي الاجتماعي عبر الحدود يكلّف مكتب عبر الحدود بالإشراف على تطبيقها. وهذا أمر لم يوضع قبل الآن، لأنّ المعارك والسجون ابتدأت قبل ابتداء العمل عبر الحدود بصورة مباشرة. وأثناء وجود الزعيم في هذا المغترب لم يحصل تقدّم واسع وبناء حزبي ثابت يدعو إلى وضع قواعد التنظيم والتصنيف فإنّ قضايا من ألف نوع كانت تتراكم في مكتب الزعيم وليست من طبيعة العمل التنظيمي البنائي. ولما كنت في المسائل العملية عمليًّا جدًّا لم أشأ الابتداء بتخطيطات ووضع قواعد مشكوك في وجود حالة تسمح بتطبيقها. ولمّا كانت قواعد عملنا القومي العقائدية وبعض خطوطنا السياسية موجودة كان ذلك مواد كافية لبدء العمل القومي الاجتماعي والاحتكاك بالمحيط لمعرفة مدى إمكانياتنا فيه ونوع المواد التي نعمل فيها. ولم أرَ بأساً أن بدأ العمل بأية طريقة كانت وبأبسط الخطط: بالاتصال بالسوريين المغتربين، وإيصال العقيدة إلى افهامهم جميعاً، وإيقاظ الشعور القومي في نفوسهم. وقبول من يعتنق منهم المبادىء ويرغب في العمل لها، ومن ثم ينظر في أنواع الجماعات وفي تعيين أشكال تسمح باكتساب فئات منها بأشكال متنوعة، إلا إذا حدث اتصال مباشر في الأول مع بعض الفئات الخصوصية الوضعية، كالمتجنسين بجنسية مهجرهم، وظهر حصول إمكانيات واسعة لإكتساب عناصر عديدة منها لها وزن عددي أو معنوي.
2 - إنّ لمهاجرينا أو مغتربينا حالة واحدة من حيث أسباب اغترابهم وأغراضه، وهذا عمل واحد لجمع نزالاتنا مع اعتبارات تفاوت بعضها في بعض عناصرها وفي مبلغ تأثير بيئاتها الجديدة فيها، ولكن العمل القومي الاجتماعي فيها كلها يجب أن يكون عملاً موحداً في خطوطه الأساسية.
3 - إنّ العمل في أوساط مغتربينا هو عمل قومي وطبيعته تختلف عن طبيعة العمل الإذاعي السياسي بين الشعوب لتوضيح قضيتنا القومية واكتساب ميلها وتحبيذها. وفي العمل القومي بين مغتربينا أحصر الكلام أولاً لأنه الغرض من إنشاء مكتب عبر الحدود وهدف من أهداف حركتنا القومية الاجتماعي ونظرتي الأساسية إلى مغتربينا أو مهاجرينا هي أنهم جزء من أمتنا فيجب أن نجعلهم جزءاً واعياً وأن نشركهم في نهضتنا، ومن حيث هم جزء له وضعية خاصة وظروفه خاصة يمكن أن ينتظر من شمول الوعي القومي لهم فوائد خاصة.
فهدفنا الأول للعمل بين مغتربينا هو: توليد الوجدان القومي في أوساطهم وإشراك العناصر الحية الصالحة منهم المعتنقة الولاء مبادئ النهضة القومية الاجتماعية في هذه النهضة بكل الحقوق والواجبات وبكامل الولاء والنظام.
4 – نرى من درسنا أحوال مهاجرينا أنهم في تعرّضهم لعوامل بيئاتهم تأثّروا بأنواع من هذه العوامل وحصل تغيير محسوس في الحالات الحقوقية ــ الجنسية لعدد منهم. ونتيجة ذلك حصول عدد من ومغتربينا في حالة التجنس بجنسيات أمم النازلين فيها. هذه الوضعية الحقوقية لي فيها نظر وتحليل فقد تبيّن لي أنه ليس لجميع أصحاب هذه الوضعية الحقوقية وضعية نفسية واحدة فيما يتعلق بوضعيتهم الحقوقية. ولا شك عندي في إن إقدام كثيرين منهم على التجنس لم يكن نتيجة اختيار منهم لجنسياتهم الجديدة بل نتيجة اضطرار أو لجنسياتهم الجديدة بل نتيجة اضطرار أو ما يشبهه. فقد وقفت على حادث تجنس شقيقين بالجنسية البرازيلية للسبب الآتي: قبل الحرب الأخيرة عاد أحد الأخوين لزيارة وطنه وعند بلوغ الباخرة مرفأ الإسكندرية أراد النزول إلى البر والتجول مثل بقية السياح فلم يسمح له بالنزول بسبب جنسيته السورية وجرى تحقيق دقيق معه عن أغراضه من النزول إلى البر، مع أنه مسافر درجة أولى أو ثانية، وبعد جهد جهيد سمح له بجولة قصيرة، بينما جميع الأوروبيين والأميركيين تمنتعوا بحقوق واسعة وتلبية سريعة. فلما عاد إلى البرازيل أجرى هو وأخوه معاملات التجنس بالجنسية البرازيلية كي لا يتعرضا للإهانة في مثل هذه الأحوال. وهنالك من تجنسوا لأسباب تجارية، ومن تجنسوا لأنهم لا يدرون لماذا تجنسوا، وغير ذلك، فإدراكنا الواقعي لوضعيتهم يجب أن يّبنى على معرفة أسباب تجنس كل واحد منهم ورغبته الخصوصية في هذا الصدد بعد إدراكه النظرة القومية التي كان يجهلها حين أقدم على تجنسه. ويجب أن لا نتخلى عن حقوقنا فيهم بسهولة. وفي عملنا بينهم يمكن ان نميّز بين من يريد منهم أن يكون سوريًّا قوميًّا ومن يريدون الجمع بين ولاءين لقوميتهم الأصلية ولجنسيتهم الجديدة كالذين أقسموا اليمين الحزبية مع تحفظهم أن لا يكون في عملهم لسورية ما يضاد أو ينقض ولاءهم لأميركانية. وطريقة عملنا معهم تتوقف على نوع انضمامهم إلينا ومبلغ عدد كل نوع من أنواعهم.
5 – أبناء السوريين عموماً وأبناء القوميين خصوصاً: يكوّنون نقطة نزاع شديد بين نظرتنا إليهم ونظرة دول الأقطار التي يولدون فيها. قبل حصول الوجدان القومي كان السوري المهاجر يعدّ مولوده في المهجر للأرض التي يولد فيها لعدم وجود شخصية قومية له يجب استبقاؤها في نسله، فلا يهمه أتعلّم ابنه لغته أم لم يتعلّم، ولا يهمه أعرف شيئاً عن تاريخ الشعب المتحدر منه أم لم يعرف. والسوري مشهور بسرعة فنائه في الشعوب التي يغترب بينها، ولكن هذا المشكل النظري صعب الحل نظراً لنوع ثقافة مغتربينا اللاقومي – إذا كانت لهم ثقافة - وصعوبته هي الأكثر في أبناء السورين اللاقوميين وتقلّ هذه الصعوبة في الأبناء المولودين لقوميين اجتماعيين، عليهم واجب تعهّدهم بالعقيدة القومية الاجتماعية حسب نص القسم. فعملنا بينهم يجب أن يتوخى إيقاظ وجدانهم القومي عن طريق آبائهم وعن طريق نشر أدب نهضتنا وثقافتنا بينهم، وهنالك حجة قوية في جانب نظرتنا صعب دحضها: إنّ الولد من أبوين سوريين هو نتاج سوري فينشأ بعناية والديه السوريين ورعايتهما ويحيا بنتاج تعبهما ويتثقف ويتعلم بهذا النتاج.
نحن في عملنا القومي مسؤولون عن قوميتنا ونموها وتقويتها لا عن قوميات الأمم الأخرى ونموها وتقويتها. وكما أن الأميركاني والانكليزي يرمي إلى الاحتفاظ بقوميته لنفسه ولأولاده، في سورية كذلك يجب أن نرمي نحن إلى الاحتفاظ بقوميتنا لأنفسنا ولأولادنا في أميركة وإنكلترة وحيثما وجدنا، مهما نقضنا بذلك مبدأ الحق والخير والجمال لمجرد الحق والخير والجمال. وإذا كان الاميركان والانكليز يعزون لليهودي المولود في بلادهم في الجيل الرابع حسبان نفسه قوميًّا يهوديًّا فلا نرى سبباً حقوقيًّا أو غيره لإنكارهم حق حسبان الجيل الأول السوري المولود في بلادهم سوريًّا قوميًّا.
هذه هي مواضيع العمل القومي في المهاجر والأهداف الأولى التي يجب على هذا العمل بلوغها أو بلوغ معظمها أو ما أمكن منها. وفي توخي بلوغ هذه الأهداف ينشأ الاحتكاك بالواقع وامتحان هذا الواقع والنظر في ما يمكن استخلاصه من هذه الامتحانات التي قد تختلف نتائجها بعض الاختلاف بالنسبة إلى مختلف الأمم والأقطار ودرجات ثقافاتها وحيوية قومياتها وبالنظر أيضا إلى اختلاف نوعية مجاميعنا من الوجهة الثقافية، ولذلك لا نرمي إلى إقرار أية وضعية غير وضعية حقيقتنا واهدافنا، بالتسليم Apriori بحقيقة وضعيات غير ممتحنة عمليًّا وغير مختبرة حقيقتها.
أما ما خرج عن هذه المواضيع "كالتوجه إلى الرأي العام الأميركاني وربما الحكومة الأميركانية" فمن الأغراض الاذاعية - السياسية التي ليست من خصائص العمل القومي عبر الحدود بل من خصائص الخطط والأهداف السياسية والإذاعية التي يمكن جعل الفروع عبر الحدود واسطة من وسائطها، فهي مواضيع ثنوية من وجهة توخي العمل القومي البحت عبر الحدود ولا يحسن النظر في ما يمكن أن تفعله في هذا الصدد الفروع عبر الحدود إلا بعد نشوئها وتنظيمها. أما ما يمكن أن يقوم به أفراد قوميون اجتماعيون أو يكلفّوا القيام به من هذا القبيل فأمر خاص متميز عن امتداد النهضة السورية القومية الاجتماعية بين السوريين عبر الحدود.
فالأهداف العملية المباشرة، التي يجب أن يتوخاها العاملون عبر الحدود، والتي سيعطى مكتب عبر الحدود توجيهات الاشراف على تطبيقها تمهيداً للتصنيف الفني التالي الذي يمكن تعيين مداه بعد حصول الاختبارات الواسعة والنتائج الأولى والإحصاءات الضرورية، والتي يجب العكف عليها عمليًّا بدون تراكم كثير للقواعد والتصانيف النظرية والتضخم البيروقراطي، هي:
1 – إيجاد الوجدان السوري القومي الاجتماعي في مغتربينا بوجه عام وإقناعهم بمبادئ نهضتنا الأساسية والإصلاحية، ودعوتهم بطرق متنوعة إلى اعتناق هذه المبادئ باعتبارها الوحيدة المعبّرة عن شخصيتنا القومية وحقوقنا ومصالحنا والتى لا نهضة لأمتنا إلا بها كما هو الواقع. والاتجاه إلى هذا الهدف يجب أن يكون تامًّا، صريحاً، غير معرقل باعتبارات ثنوية لوضعية بعض مغتربينا الذين حازوا عضوية دول غير سورية. ويترك للقائمين بالعمل القومي الاجتماعي عبر الحدود، بمسؤولية، حرية التصرف في الإذاعة وتكييفها في ابتغاء هذا الغرض.
2 – تنظيم المقبلين على الدعوة إقبالاً تامًّا معتنقين المبادئ بلا تحفظ حقوقي أو سياسي وبولاء تام للدولة السورية القومية الاجتماعية وللأمة المنبثقة منها.
3 – النظر في المقبلين عمليًّا على الدعوة بتحفظات متنوعة وتصنيفهم حسب تحفظاتهم مع تعيين النسبة العددية والنسبة النوعية لكل فئة منهم في إحصاء صحيح مرفوق بتقديرات تقريبية للإمكانيات وغيرها، وبينما القائمون بالعمل أو المنفذيات، ينتظرون التدابير والقرارات والمراسيم النهائية في صدد المصنفين حسب وضعياتهم وتحفظاتهم الخصوصية يمكنهم إيجاد صنف عام لجميعهم متميز عن القوميين الاجتماعيين كليًّا فيكون من مقتنعين بالمبادىء ومتعهدين لها ومتعهدين بتأييدها بتحديد لمسؤولياتهم وحقوقهم ضمن المنظمة، ولا يكون لهم حق الاشتراك الفعلي في الإدارة الحزبية ومؤسساتها السياسية.
هذه الأهداف المباشرة لعملنا السوري القومي الاجتماعى عبر الحدود وبه يجب أن تتقيد منفذية أميركانية كغيرها. أما الأعمال السياسية والإذاعية الشاسعة بين الشعوب التي فيها مجاميع مغتربة فناحية أخرى منفصلة نوعاً عن الأهداف المتقدمة ويجب أن تبحث وتوجه تحت باب أهداف عمدة الخارجية السياسية والإذاعية. وبانتظار حصول شيء نهائي من هذا القبيل يمكن القائمين بدعوة الحزب في المهاجر اغتنام الفرص لتعريف قضيتهم حسب حقيقتها ومثلها العليا إلى الرأي العام في الشعوب النازلين بينها، ويمكن المنفذين العامين ومن في مقامهم استيحاء صلاحيات المنفذين العامين في بيئاتهم في الوطن. وأما العاملون الذين لهم امتياز خاص في عملنا القومي الاجتماعي ويمكنهم القيام بمهمات سياسية وإذاعية فيمكن إمدادهم بصلاحيات خصوصيه تكسبهم الصفة اللازمة للقيام بهذه المهمات.
ومن الأهداف العملية الأولى بعد التوجيه بالدعوة هو تغذية خزانة الحركة بالمال. فجميع فروع المغترب كانت، ما عدا منفذية أفريقية الغربية، مشلولة الفكر والعمل من هذه الناحية الهامّة. وكنت أنا شخصيًّا أتجنب الدعوة إلى شيء من ذلك اتقاء تأويلات التفكير المنحط المتفشي في جماعاتنا المؤيد بسوابق مؤسفة من أفراد كثيرين توخوا أهدافاً مالية خصوصية من "وطنيتهم". والاهتمام بهذه الناحية أصبح الآن ملحًّا نظراً للمعارك السياسية المقبلة فى الوطن، التي تحتاج إلى نفقات إذاعية وغيرها كبيرة فيمكنك هناك بالتعاون مع أعضاء مديرية الإسكندرونة وغيرهم مباشرة حملة إذاعية مالية غرضها تعزيز صندوق الحركة ويمكن درس عدد من المشاريع الموصلة إلى هذه الغاية كتأليف "لجنة لمساعدة منكوبي الحوادث في الوطن" أو "لتحقيق مشروع المدرسة القومية" أو لأي أمر من الأمور التى تجد قبولاً عند الرأي العام السوري هناك وله حقيقة عندنا "كمشروع مقاومة الصهيونية" وما شاكل. ويمكن الاهتمام بتمثيل روايات وبحفلات غنائية يخصص ريعها لمقاومة الصهيونية أو لإنعاش التربية ويدعى إليها أميركان أيضاً.
إذاعتاك بالراديو. قبل تعليقي عليهما أريد الملاحظة على عبارتك "وقد أتمكن من نشر هذه الأحاديث في جريدة من الجرائد العربية هنا» وملاحظتي هي على النسبة العربية للجرائد السورية. هو غلط شائع يجب تصحيحه. فجرائدنا التى تصدر باللغة العربية هي جرائد سورية. والنسبة يجب أن تكون إلى الأمة لا إلى اللغة، فأنت تنسب الجرائد التى تصدر باللغة الإنكليزية في أميركانية إلى أمتها لا إلى لغتها فتقول جرائد أميركانية لا جرائد إنكليزية.
تعليقي التوجيهي على إذاعتيك سيكون وجيزاً. فإن الخطوط الأساسية والنهج التدرجي نحو غاية مركزية واضحة: النهضة القومية الاجتماعية، هي جيدة وأسلوبها واضح جميل فاهنئك بذلك وأرجو لك كل النجاح.
إنّ قبول الأمر الواقع السياسي في لبنان (الكيان اللبناني) كان قبولاً سياسيًّا لا عقائديًّا. وظهورنا في لبنان كفئة أو حزب سياسي محلي بمنهاج موضعي، سياسي الصبغة لم يغيّر وضعيتنا العقائدية ولا حوّر ولا بدل ولا عدّل ولاءنا للأساس القومي الاجتماعي وللغاية الأخيرة التي نرمي إليها. وكنت قد مهدت لأي مظهر من هذه المظاهر بشرح غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي وبتصريح لي نشر في النهضة سنة 1937 وبالتعاليم والتوجيهات التي كنت أدليها في مجلس العمد والمجلس الأعلى. وجمعنا بين المظهر السياسي في لبنان والعقيدة السورية القومية الاجتماعية بلا تناقض يتحقق بشرحي وتعليمي أن الأمة واقع اجتماعي و كما أنه يمكن أن تتحد أمتان أو أكثر في دولة واحدة. فالدولة البريطانية هي في الحقيقة متحد أمم كما كانت إمبراطورية النمسة والمجر كياناً سياسيًّا لأمتين مختلفتين في العنصر واللغة. ونرى في الوقت الحاضر أنه يوجد مشروع أميركاني لإيجاد كيانات سياسية لبعض مجموعات ولاياتها، تكتسب صفة الاستقلال السياسي والتمثيل الخارجي لتقابل مشروع روسية في إيجاد "دول مستقلة" ضمن نطاقها القومي والسياسي لأغراض سياسية بحتة، غايتها زيادة الأصوات الموالية فى اجتماعات مجالس ولجان جامعة الأمم المتحدة، ولا يعني ذلك نشوء قوميات جديدة في أميركانية. فنحن في الحزب القومي في لينان فئة سياسية تعمل بممارسة حقوقها المدنية بعقيدة قومية صحيحة لتحقيق الغاية الأخيرة لعقيدتها وحركتها القومية الاجتماعيةالأساسية الشاملة كل سورية.
بناءً عليه، يجب على مفكرينا ومذيعينا وضع هذه الحقيقة دائماً أمام أعينهم في كل إذاعة أو بحث أو درس يقومون به وينشرونه، خصوصاً مفكرينا ومذيعينا غير المسؤولين رسميًّا، وجميعهم حين يتكلمون أو يكتبون مجرّدين من الصفة الرسمية فيتكلمون بحرّية أوسع بصفتهم الشخصية غير المسؤولة عن سياسة الحزب وإدارته، فيجب أن يغتنموا هذه الفرص لإظهار خطوط العقيدة وصحتها، ويجب أن لا ننسى أنّ إدارة الحزب السوري القومي الاجتماعي كله متمركزة في العناصر اللبنانية إلى حد الآن وأنه لا يمكن إغفال احتياجات الفروع في جميع المناطق السورية غير لبنان.
ولا بد من القول إني أحتاج إلى معلومات أوسع وباستمرار عن تطور الحركة في مختلف المناطق، وفي المنطقة اللبنانية بنوع خاص، لأتمكن من تعيين الخطوط الأساسية لعملنا الاذاعي السياسي فإذا كانت الانتخابات اللبنانية قريبة وكان أمل الحزب بفوز كبير يقوى بنمو الفروع في جميع الجهات اللبنانية وحصول ملاك من المرشحين الحزبيين الصحيحي العقيدة والنظام، فيجب إذاً سلوك خطة إذاعية خاصة في لبنان تستهدف الانتصار السياسي السريع وبلوغ النيابة ومنصات الحكم بأكثر قوة ممكنة، وتختلف الضرورة نوعاً فيما لو كانت الانتخابات وحالة الحزب غير صالحة لدخول الانتخابات بلائحة خصوصية. والرسائل من المركز مقطوعة عني منذ أواسط مايو/أيار الماضي وقد بتّ في حيرة من هذا الأمر ولست أعلم ما جرى بطلب جواز سفر لي لانتقل حيث أشاء ولأعود إلى الوطن إذا أردت.
بصرف النطر عن هذه الحالة أارى تدقيق الاذاعة القومية الاجتماعية
للاعتبارات الآتية:
1 - الضرورة اللفظية للعقيدة فلا نقول سورية إلا حين نعني سورية القومية المحددة بمبادئنا، ولا نقول سوريين إلا بهذا المعنى الشامل الذي يجب أن يحل نهائيًّا محل "أولاد عرب" وما شاكل من هذه التعابير اللاقومية. وحين نعني ما يسمونه "الجمهورية السورية" نقول "الجمهورية الشامية والشاميين إلا حين توجب المخاطبة الرسمية استعمال الأشكال الرسمية المستعملة، أما في الكتابات والتآليف الثقافية والأدبية فنستعمل إصطلاحاتنا باستمرار وكذلك في الإذاعات، وكذلك لا نقول الأمة إلا بمعنى السورية.
بناءً عليه كان يمكن في إذاعتك في 7 يوليو/تموز الماضي أن نقول " إلى جمع من المواطنين المهاجرين من لبنان والشام وأنحاء أخرى من سورية أو من الشاميين واللبنانيين" بدلاً من السوريين - اللبنانيين. أو السوريين واللبنانيين ولعل استعمالك "السوريين اللبنانيين" بلا واو العطف، يقلل الخطر السيكولوجي.
2- إعتبار حالة البلاد الحاضرة حالة وقتية غير قابلة الاستمرار لأنها حالة وضعية منافية لعوامل للاستقرار الأخير سياسياً وقوميًّا واقتصاديًّا الخ.
3 - عدم تضخيم الحكم الذاتي الذي نلناه ومظهر الاستقلال الحاضر الذي هو ممنوح وشبه مربوح وضرورة إبراز صورة وجود استقلال غير هذا الاستقلال – إستقلال كلي - نرمي إليه هو الاستقلال الذي سيعبّر حقيقة عن إرادتنا القومية الصحيحة ويكون ذا حقوق أوسع وفوائد أعمق فنمنع تضخم الأشخاص الذين لعبوا الدور الرسمي في حصول هذه الاستقلالات، ونمنع أن يستقر في الذهن أن ما حصل هو ما تريده الأمة وتطمئن إليه ونحفّز النفوس إلى التطلع معنا إلى استقلال صحيح، قومي ، شامل.
4 - إظهار فضل عامل النهضة السورية القومية الاجتماعية في السير بالأمة خطوة خطوة. نحو غايتها الكبرى، والأسباب الداعية لتعليق كل الأمل على هذه النهضة والثقة التامة، المطلقة بها.
5 – عملاً بما تقدم من التوجيهات في بحث خطوط العمل عبر الحدود نتجنب كل التجنب تذكير مغتربينا "بإخلاصهم لوطنهم الجديد". خصوصاً حيث لا موجب لذكر ذلك بوضوح وحين مخاطبة مجموع بعضه اكتسب عضوية الدولة التي يقطن وطنها وبعضه لا يزال محافظاً على كامل قوميته وحقوق عضوية الدولة في وطنه.
6 - متابعة لما ورد في مقطع 5 عدم الموافقة، وعدم تشجيع فكرة "الوطنين" خصوصاً للسوريين المحافظين على جنسيتهم، ذلك التشجيع الذي يقول به أمثال إيليا أبي ماضي وعبد المسيح حداد وغيرهم وحاربته في الزوبعة حرباً شديداً.
إني مسرور جدًّا لكونك سرت في إذاعتيك على معظم هذه الخطوط وخصوصاً السياسية منها، وإني أوافق بجذل أسلوبك التدرجي خصوصاً كما يتضح في إذاعتك الثانية في 14 يوليو/تموز الأخير. فعرضك فيه "لجزئية الاستقلال" وإدخالك جمهوريتي الشام ولبنان ومملكة شرق الأردن في "وضع البلاد الإنترناسيونى" الذي يوجه الأنظار بطريقة دبلوماسية لبقة إلى وحدة هذه الأجزاء وجزئية استقلالها، هي نقاط إذاعية تقنية موفقة جدًّا فأكرر تهنئتي. مع ذلك يجب التقليل من طلب "استقلال" فلسطين كدولة مستقلة واستحسان هذه الاستقلالات الجزئية وإبراز وحدة حياتها ووحده مصيرها.
إسم الحزب في أوساط المغتربين: يحسن المحافظة على الاسم الأصلي، الحزب السوري القومي الاجتماعي وعلى وحدة العمل الظاهرة والباطنة، وفي حياة مغتربينا في غربتهم أسباب كثيرة نتذرع بها ضد ما قد يوجه إلينا من أسئلة أو تدخّل رسمي، ولست أدري تماماً ما هو موقف الدكتور شارل مالك من العقيدة اليوم بعد أن كان أكد لى شخصيًّا انه معنا ومنا. ولكنه يؤجل الارتباط الفعلي إلى أن تكون استقرت وضعيته، وكان ذلك في مقابلة أخيرة بيني وبينه قبل سفري من الوطن.
الرفيق أسد الأشقر: رأيت أخيراً أن أكتب إليه وأعطيه جواباً مقتضباً بقدر الإمكان على ما سأل وأبدى من آراء. وفي جوابي على افتراضه: لو كان الزعيم أسّس في لبنان "حزب الإصلاح اللبناني" وفي الشام "حزب الإصلاح السوري" في الشام، كان يكون غير ما هو وكان واحداً مثل كثيرين غيره يفكرون هذا التفكير المختص بالسياسات الصغرى ويحاولون كل يوم هذه المحاولات ويبعدون بعداً سحيقاً عن إنشاء نهضة أمة بأسرها مهما بلغوا من مراكز الحكم ومهما أطالوا الجلوس والكلام في "جامعة الدول العربية".
المخابرة مع المركز: في أول رسالة منك إلى مكتب عبر الحدود أخبر المركز عن انقطاع أخباره عني من آخر كتاب تسلمته من مكتب عبر للحدود مؤرخاً في 6 مايو/أيار الماضي. وإني أنتظر الأخبار الوثيقة عن إمكان عودتي لأعوّل على تصفية أعمالي بسرعة.
هذا الكتاب إليك: استمرَّ تحت الكتابة نحو ثلاثة أيام وقد قطعته أعمال وأشغال متنوعة وعملت فيه في ليلتين متواليتين بعد تعب في النهار ساهراً إلى ما بعد الساعة الثانية بعد منتصف الليل. ونتيجة إجهادي في مختلف الأعمال: ألم في القلب لازمني الأيام الأربعة الأخيرة وسأرى أن أقوم بسفرة قريبة لزيارة مديرية خوخوي التي أرسلت جباية أعضائها لبضعة أشهر إلى الخازن العام بإشارتي وإليها تشير رسالة مكتب عبر الحدود إليك.
أخبار صغيرة: بعد الإخفاق في تحويل أنظار المواطنين في الأرجنتين إلى وجوب تحويل مساعداتهم المالية للوطن إلى لجنة قومية عيّناها وذلك لأغلاط من قبل منفذية بوينس
آيرس ولدخول عناصر استئثارية قوية رمت إلى جهة معاكسة، إهتممت بتحريك الفروع هنا للتبرع لخزانة الحزب العامة، ومع أنّ حالتي المادية لم تكن حسنة لتسمح بمجهود مالي من قبلى، فقد افتتحت التبرعات في مديرية خوخوي بسند مالي على المصرف مني وفي منفذية بوينس آيرس بسند آخر مماثل للأول فأعطى ذلك نتيجة أولية حسنة لمديرية خوخوي ساعية لإبلاغ تبرعاتها إلى الحد الأدنى الذي عيّنته لها، أي ألف ريال أرجنتينية غير جباية العضوية التى أرسلتها. ومنفذية بوينس آيرس جمعت ما يزيد على ألف ريال أرجنتيني، وقد أطلقت على هذه الحركة عنوان "حملة هادئة لجمع عشرة آلاف فاس (ريال أرجنتيني) لخزانة الحزب" وأخيراً صدرت الزوبعة تحمل طائفة من أخبار النهضة قي الوطن والمقالات
وسيساعد ظهورها على تنشيط حركة التبرعات. وقد وردتني أخبار من البرازيل أنّ صدى النهضة وصلت إليهم وسأكتب إليهم ليجمعوا مالاً لخزانة الحزب.
سلامي القومي لك وللرفقاء، خصوصاً نديم مقدسي و(ميشال) أبو رجيلي و(جورج) شاهين, ولتحيى سورية.