30/10/1948
أخي العزيز إدوار،
بينما أنا أهمّ بالإجابة على كتابك الأول المؤرخ في 28 سبتمبر/أيلول الذي تسلمته من نحو عشرة أيام، إذا بأوراق البريد تردني لتسلّم كتبي المسجلة فذهبت بنفسي وتسلمتها وفي عدادها كتابان منك الواحد تاريخه 4 والثاني تاريخه 7 أكتوبر/تشرين الأول الحاضر.
قد فعلت حسناً هذه المرة بإطلاعي على تطورات أفكارك واتجاهاتك الجديدة، فلعلي أسدي إليك نصيحة تنفعك، ولعلك تقبل نصحي.
من كتابيك الأخيرين فهمت وعرفت أنك بعد إرسالك كتابك الأول مررت "بمكتبة الولاية" في سان باولو وأخذت منها كتباً وتواريخ وخرائط، وأنك بناء على هذه المطالعات الجديدة تفكر في وضع كتاب بعنوان "تاريخ شبه الجزيرة العربية" تقول فيه بامة واحدة هي الأمة العربية، وبلاد واحدة هي شبه الجزيرة العربية، وتدخل في شبه الجزيرة هذه سورية كلها.
أعتقد، يا أخي، وأوقن أنك لست في إقدامك على مشروعك الجديد بعد صدفة اطلاعك على بعض الكتب أقلّ تسرعاً في الاستنتاجات والعمل الاستبدادي Arbitratio منك في إقدامك على مشروعك التأليفي الأول الذي انتهى بأنك أحرقت النسخ التي بقيت عندك من مؤلفك الأول في أوائل هذه السنة، أي بعد مضي سنة على إخراجه.
إنك، يا اخي، تتسرع في الأحكام والعمل واننقاداتك في الشؤون التاريخية والاجتماعية بواسطة التأليف، يعني تريد درس المواضيع التاريخية والاجتماعية بواسطة إصدار مؤلفات فيها تلخص فيها ما يتفق لك الاطلاع عليه فيكون كل كتاب تلخيصا لبعض الكتب التي تقع بين يديك استناجات مستعجلة منك. وفي هذا العمل عناءً كبير وإنفاق وقت ومال للخروج بفوضى وبلبلة في المعرفة تضرّان المؤلف والقراء على السواء.
أذكّرك عند هذا الحد بنصيحتي الأولى لك عندما أطلعتني على رغبتك في تأليف "تاريخ سورية" بالاستناد إلى تاريخ "كيسبر كنتو" الذي مدحت لي كثيراً وجعلته أهم مؤلف تاريخي في العالم. فقد نبّهتك إلى وجود مصادر رئيسية لا يمكن كتابة تاريخ سورية دون العودة إليها. ولكنك لم تشأ قبول نصيحتي وكنت مستعجلاً في إخراج مؤلفك الذي آسف لأنك أحرقت نسخه الباقية لأنّ أغلاطه كبيرة تشوّه الحقيقة.
وأتعجب الآن أنك بعد أن رأيت غلطك وأحرقت مؤلفك تعود إلى ارتكاب الغلط عينه بمحاولتك إصلاح غلط مؤلفك الأول بإصدار مؤلف جديد يرجّح أن تكون أغلاطه أعظم من أغلاط الكتاب الأول.
إنّ نصيحتي لك هي:
1 ـ أن تعلم أنك لم تدرس علم التاريخ وتواريخ العصور والأمم وعلم الاجتماع Socioligia والثقافة الإنسانية.
2 ـ أن تعلم أنّ الاطلاع في بعض الكتب من غير سابق درس وعلم صحيح واسع شامل القضايا التي يقصد درسها هو دائماً علم ناقص وغير ممتحن.
3 ـ إنّ الموضوع التاريخي والموضوع الاجتماعي لسورية وللعربة هما شيئان جديدان لك واطّلاعك فيهما ناقص، وليس حولك من يقدر أن يرشدك في دراستك إرشاد معلم أو خبير.
4 ـ إنك في دراستك المستعجلة الفوضوية تهمل النظر في قواعد جوهرية مرت أمامك كالقواعد العلمية الاجتماعية الواردة في كتابي الأول العلمي نشوء الأمم ولا تناقش استنتاجاتك العجلى بها.
5 ـ إنك تهمل الرجوع إلى كتابات ذات قيمة علمية تصدر في النظام الجديد.
6 ـ إنك لا تطلب الكتب اللازمة لمعرفتك في الموضوع الذي تريد معالجته بل تكتفي بما هو موجود في "مكتبة الولاية" في سان باولو Biblioteca do Estado وهو قليل جداً ولا يفي بالغرض فيجب أن تعلم هذه الأمور.
7 ـ إذا كنت تريد الاهتمام بدراسة تركيب الأمة التي تنتمي إليها يجب عليك أن تقوم بدراسة علمية واسعة مرتبة Sistematica تتناول علم الاجتماع وعلم التاريخ، ثم تدرس المؤلفات الاختصاصية في المجتمع السوري وتاريخ سورية وشعوبها وفي مجموع العرب أي سكان الصحراء أو العربة، Arabia والعُربة تعني الصحراء، والعرب، بصرف النظر عن حقبة فتحهم الديني وعن وجود دولتين أوليتين فيهم، يدخلون في الأبحاث الإتنولوجية أكثر مما يدخلون في الأبحاث التاريخية والثقافية.
8 ـ تقول في كتابك المؤرخ في 4 أكتوبر/تشرين الأول إنك أردت "وضع حل للمشكل السوري العربي". فالصحيح أنه لا يوجود مشكل سوري عربي، بل مشكلة نفسية في أذهان السوريين نشأت بعد مدة من الفتح العربي المحمدي بسبب الدين المحمدي واللغة العربية التي فرضت على البلاد بأمر من عبد الملك بن مروان ثالث الخلفاء الأمويين، ولم تتغلب على السريانية التي كانت لغة البلاد الأصلية إلا بعد مدة طويلة وبعامل الدين.
9 ـ أما قولك إنك وجدت أنّ التاريخ السوري والتاريخ العربي تاريخاً واحداً و"أنّ الاسم السوري وجد فقط في أيام السلوقيين" فهو يشبه القول إنك تجد تاريخ ألمانية وفرنسة وبريطانية تاريخاً واحداً، وكذلك تاريخ إسبانية والبرتغال، وتاريخ أوروبة وآسية. وأما كون اسم سورية عرف بشموله البلاد السورية بحدودها الطبيعية في العهد السلوقي أولاً فلا يضير وجود الأمة السورية، كما أنه لا يضير إيطالية أنّ اسمها الحاضر قد عرف في مدة متأخرة من العصر الروماني. ولا يضير فرنسة أنّ اسمها ابتدأ يأخذ شكله النهائي بعد مدة من الفتح الفرنكي الجرماني، وبريطانية العظمى كانت أيضاً مدة من الزمان في حالة بروفنسية ــ ولاية ـ وهذه الدولة يحكمها الآن ملوك من بيت ساكس كوربورغ غوته ألماني. وقولك إنك شعرت "أننا عرب وأنّ تاريخنا واحد واللغة واحدة والعادات واحدة، إلخ." هو كلام خصوصي خال من الصفة العلمية. فليست سورية والعربة بلاداً واحدة والخريطة التي رسمتها أنت لسورية وشبه الجزيرة العربية تظهر لك الفرق العظيم بين سورية ـ أنهرها وجبالها وسهولها من جهة ــ والعُربة الصحراوية القاحلة من جهة أخرى، وليست العادات والتقاليد السورية والعادات والتقاليد العربية واحدة. أما شأن اللغة فليس كما تتصور فقد غيّر الفتح النورماندي لغة الإنكليز الجرمانية وبقيت إنكلترة سكسكونية وإنكليزية في قوميتها. واتحاد ألمانية الذي تشير إليه في رسالتك الثانية لم يكن اتحاد العالم الآري أو وحدته. فإنّ ألمانية توحدت، ولكن الأمم الآرية بقيت أمماً قائمة بنفسها، فبقيت الأمة الأسوجية والأمة الهولندية والأمة الفرنسية والأمة الإنكليزية وغيرها. وتوحيد سورية شيء وتوحيد العالم السامي شيء آخر، إنّ هذه المواضيع تحتاج إلى درس علمي اجتماعي ويمكنك أن تقوم بهذا الدرس في نشوء الأمم (الكتاب الأول) وأن تعطي امتحاناً في ما استحضرته منه قبل أن تبتدئ رسم حدود الدولة التي تتخيلها، والأمة التي لا تعرف طابعها وواقعها.
10 ـ إنّ استشهادك بأبيات الدكتور خليل سعاده لا يفيد النتيجة التي وصلنا إليها، إنه أراد جمع أمجاد المزيج السوري، ولم يرد أنّ السوريين عرب وجزء من "الأمة العربية" وإذا كان الدكتور سعاده قد جارى في آخر أيامه ضجيج المستعربين، فلأنه لم يكن متمكناً من المسائل القومية، ولذلك لم يتمكن من تأسيس عقيدة تقوم عليها نهضة صحيحة. وهو استعمل أيضاً "سورية ولبنان" فجعل سورية شيئاً ولبنان شيئاً آخر مع أنه كان سورياً في مذهبه وتفكيره وشعوره.
11 ـ تقول إنك لا تقدر أن تكون بولس "الأمة العربية" وتظن أنني أنا أقدر أن أكون ذلك البولس. إنّ المسألة من هذه الناحية ليست مسألة بولس بل مسألة الحقيقة والواقع والقضية الصحيحة. إنّ سورية ـ الأمة السورية ـ هي التي تقدر أن تتزعم العالم العربي اللسان وتقوده، وبهذا الشكل فقط يجب فهم قول القائلين إني (منقذ العرب) بتعبيرهم غير الواعي.
12 ـ إنك بمناداتك "بالأمة العربية" تخرج نفسك من ولائك لأمتك السورية ومن ولائك للعقيدة السورية القومية الاجتماعية، ففكر جيداً فيما تقدم عليه قبل أن تصل إلى إحراقه والاحتراق معه.
13 ـ يظهر من كتاباتك أنك تضع علمك الناقص ورأيك في منزله علم الزعيم الواسع الشامل ورأيه وتستغني عن إرشاده وتستقل برأيك، فاتعظ بما قادك إليه اعتدادك السابق حين خالفت نصحي.
14 ـ أخيراً، إنك تحتاج إلى الدرس المنظم فادرس ملياً قبل أن تجزم في رأي نهائي وتتورط في ورطة جديدة، واعلم أنّ الخطوط على الورق لا تعني بلاداً واحدة، خصوصاً متى كانت الخطوط خالية من الخطوط التبوغرافية. هذا ما رأيت أن أذكره لك نقداً ونصحاً قبل اتخاذك خطوة جديدة قد تندم عليها كما ندمت على مثلها في الماضي.
وإني في كل حال أتمنى لك التوفيق.
بقي أنني أنتظر نتيجة اتصالك بأبناء سليمان طانيوس في اتيفد نتقا.
ثم إنّي أطلب إرسال مجموعة المجلة لسنة 1923 ـ 1924، ويوجد عدد من أعداد 1924 فيه مقال لي عن فلسطين تعليقاً على زيارة أحد دعاة الصهيونية لسان باولو في تلك السنة فإذا حظيت به فأرسله بطريقة أمينة.
إنّ حالة عائدة أثّرت فيّ كثيراً وأحزنتني.
أنتظر رسالتك المقبلة، وأرجو لك النجاح في أعمالك التجارية.
الرفيق إدوار مقدسي لا يزال في الوطن وقد اجتمعت به عدة مرات.
لك سلامي ولتحيى سورية.