اوديك!
هو ذا اسبوع آخر قد مرّ وأنا أتوقع في كل غروب شمس وكل انبثاق فجر رسالة منك حتى كدت أجزع عليك لهذا السكوت الطويل الذي لست أدري له سبباً.
ألعلَّ أشغالك قد أصبحت كثيرة كأشغالي وجهادك قاسياً كجهادي؟
إن هذه هي رسالتي الرابعة إليك والثالثة بعد رسالتك. وليست هذه الرسائل الكثيرة ولكنني قد أرسلت غيرها كثيراً في أعمالي التي قد أصبحتِ معي فيها. هي رسائل العمل القومي الذي صرتِ أنتِ شريكتي فيه. وما حال بيني وبين كتابة أربع رسائل إليكِ في اليوم الواحد سوى هذا الجهاد الذي أصبحَ شرفنا مقروناً به. فما أويت إلى سريري إلاّ وأنا واثق من راحة ضميري ومن أنك تكونين راضية كل الرضى متى عرفتِ.
كتبت إليك في رسالتيَّ السابقتين أن صحتي كانت قد قاربت الاعتلال بسبب الجهد المبذول بدون انقطاع طوال أربع سنين لم أعرف فيها فرصة ولا هدنة ولا اعتدالاً في العيش مع ما تخلّل ذلك من سجن وتعذيب. ولكن الأمر ليس سوى تعب أعصاب يزول بفرصة للراحة وقد ابتدأت أخفف من أعمالي وكدّي بعد أن وثقت الآن من أن الحزب قد خرج من المأزق الحرج الذي كان فيه. وهو بالحقيقة، هذا الاطمئنان ما جعلني أشعر بالحاجة إلى وقت راحة. وقد بدأت منذ أمس بتنفيذ برنامج رياضي، فذهبت عند الأصيل إلى رأس بيروت ومشيت الجادة المعروفة "بالكورنيش" تحت الجامعة الأميركانية. وكان من عادتي في بدء تكوين الحزب أن أتنزّه عند الأصيل على هذه الجادة، فأمدُّ نظري إلى الأفق البعيد وراء البحر، وأجيل ناظريَّ في البحر، وما يحمل من المراكب والزوارق الممثلة بقايا مجدنا اليحريّ القديم، وأرفع وجهي إلى مرتفعات لبنان وأتأمل صنين المجلبب بالثلج، وأترك نفسي حرّة في مجال التأملات والأماني.
وقد مررتُ في سيري ببعض الناس، ومنهم من لم يكن يسير وحده. ومرَّ بي رجل وسيدة فنظرا إليَّ لا عارفين ولا مكترثين وفي نظرتهما شيء من الاعتزاز. فتبسَّمت لأن الذين رأوني طنوا أني وحيد وهم لا يدرون أن لي رفيقاً بعيداً عني ولكنه، على بعده، قريبٌ أحسُّ تنفُّسه في تنفُّس الأمواج وأرى ضياء عينيه في تألق الكواكب وأراه وجهاً لوجه في هذا التصميم الداخلي العميق الذي يجمع بين نفسين جمعاً لا تفريق بعده. كان بعض الناس يسيرون مترافقين، أما أنا فلم أكن أسير وحدي!
وصباح اليوم، الأحد، نهضتُ باكراً وذهبت إلى البحر وأخذت معي صورة حبيبتي ورسالتها. فجلست على صخرة وأخذت الصورة أتأملها، وأعدت قراءة الرسالة. ثم غصت في الماء وسبحت إلى بعد وعدت إلى الصخرة ثم رجعت إلى مكتبي حيث أنا الآن أكتب هذه الرسالة إليك.
ادويك! إن فكرة السفر تقوى فيَّ. فإني أراها ضرورية للقضية ولنا. ففي السفر نبتدئ حياتنا باختبار جميل. فأبتعد أنا عن ضوضاء العمل الإداري وشواغله وتبتعدين أنت عن ملل التدريس. فنمرّ بأوربة ونصرف بعض الوقت فيها متنقلين بين عواصمها. فنتفرّج وفي الوقت نفسه نقوم ببعض المساعي المفيدة لأمتنا ووطننا. ثم نتابع السفر إلى أميركة الشمالية ومنها إلى الجنوبية وإلى أستراليا وأفريقية إذا أمكن. فنزور الجوالي السورية، وهناك ألقي محاضرات في النهضة القومية، وأزور فروع الحزب في المهجر زيارة رسمية، وأشرف على تنظيمها، وأنشئ فروعاً جديدة وأنظم العمل القوميّ في المهجر. وتساعدينني أنتِ مساعدة كبرى. ونعود بعد ذلك وقد أضفنا إلى النهضة القومية أسساً جديدة تسمح بزيادة البناء.
إلى تحقيق المثل العليا يدفع الحب الأنفس الكبيرة. والآن ادويك! أريد أن أسمع كلمتك فإني قد باشرت المساعي للحصول على جواز سفري والفرصة مؤاتية ولا بد من هذه السفرة من أجل أمتنا ووطننا فلنشترك في هذا العمل الكبير اللائق. بما يجول في نفسينا.
أحب أن أحصل على جواب منك لأكتب إلى الماما في هذا الصدد. وما أظنُّها تعترض على هذا البرنامج، وإن في الرحلة إلى المهجر نتائج فاصلة في الحركة القومية والأسباب السياسية توجب عدم تأجيلها طويلاً.
ولست أطيقُ التفكير في ثمانية أشهر تأتي!
عساك بصحة جيدة، وعسى أن تكون هلن قد وجدت تسليتها المفيدة. سأكتب اليوم إلى أمين. سلامي للماما والجميع ولهلن خاصة. ولكِ كل ما أتمنى
(التوقيع)
في 7 نوفمبر 1937