حبيبتي!
وردتني رسالتك الأخيرة الحلوة الحاملة وريقات نرجسية متناثرة يضوع شذاها، على صغرها وقلّتها، فقبَّلت هذه الوريقات التي لامست أناملك وشفتيك وتنشَّقت طيبها الرامز إلى طيب أنفاسك. وقد سمعتُ خفقان قلبك يجاوب ضربات قلبي في هدأة الليل في غرفتي.
قد لاحظت في رسالتك هذه تساؤلاً ينمُّ عن خشية فعجبتُ لهذا التقارب في الفكر والإحساس بيننا: " هل ممكن أن يزول كل ما بيننا يوماً ما؟" كم كنت أودّ لو أن ما بيننا بلغ غايته قبل أن تداهمنا مثل هذه الخواطر! كلا. إن ما بيننا لا يمكن أن يزول، ولكن تساؤلك يجاوب تساؤلي عن الحقيقة والاصطلاح، عن الحب والزواج، عن الحياة والتقاليد.
إن مجرى حياتي الخاص آخذ في إيقاظي إلى المصاعب الكبيرة التي تقف في طريق زواجي ممن أحب الآن. وكأني كنت أريد الإفلات من هذا الأمر حين عرضت عليك أن نسافر معاً، فقامت الصعوبات من جهة أهلك، والآن أرى الصعوبات تقوم من جهتي، فأبديت شعوري في عبارات ضمنتها بعض كتبي السابقة إليك كقولي: "ما أغرب الحياة!" وقولي: "كأنَّ حياتي يجب أن تكون تضحيات في تضحيات". كلا يا حبيبتي، إن حبك لا يزيله من قلبي رؤية النساء الجميلات من بنات أمتي، فقد كنت أرى جمالهنَّ قبل أن اجتمع بك. ولكن حياتي وحياتك والجمع بينهما، هنا المسألة.
كنت منذ أيام في السينما حيث شاهدت رواية "ملاك" من تمثيل الكوكب الشهير مرلين ديترخ. وخلاصة الرواية أن رجلاً من السياسيين الكبار تزوج فتاة جميلة فتانه، وكانا أحبّا بعضهما، ثم دفعت شؤون السياسة الرجل إلى وسط غمرات سياسية كبيرة، الأمر الذي جعله يهمل زوجته، مع إحتفاظه بحبه الشديد لها وغيرته عليها. وكان من وراء انصراف الرجل بكليَّته إلى حياة السياسة أنه حصل صيق شديد للمرأة كاد يلقي بها في مهواة لا قرار لها.
حكاية الرجل لا تشابه حالتي فهو رجل جعل السياسة Career، أما أنا فإني مسؤول عن نهضة أمتي التي تقيَّدت تجاهها بهذا القَسَم المثبت في دستور الحزب القومي: "أنا، أنطون سعاده، أُقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أن أقف نفسي على أمتي السورية ووطني سورية، عاملاً لحياتهما ورقيِّهما، وعلى أن أكون أميناً للمبادئ التي وضعتها وأصبحت تكوِّن قضية الحزب السوري القومي، ولغاية الحزب وأهدافه؛ وأن أتولَّى زعامة الحزب السوري القومي وأستعمل سلطة الزعامة وقوتها وصلاحيتها في سبيل فلاح الحزب وتحقيق قضيته وألاّ أستعمل سلطة الزعامة إلا من أجل القضية القومية ومصلحة الأمة. على كل هذا أُقسم، أنا أنطون سعاده".
إني سعيد، ياحبيبتي، لأن الرابطة بيننا لم تكن مجرد الرغبة في الزواج، فأنا لم أكن رجلاً يبحث عن عروس، بل كانت الحب. وحبك فقط هو الذي جلب إليَّ فكرة الزواج التي كانت بعيدة عني كل البعد إذ كنت بكليَّتي لقضية أمتي، لا أفكر إلاّ لها، ولا يصحبني سوى خيالها. فلما اجتمعت بكِ وتحاببنا وفكرت في الأمر، قلت في نفسي، سيكون لي شريكة في هذا التفاني القومي. وقد خشيت آنئذٍ ألاّ تتحقق هذه الصورة الجميلة لحبنا، فلم أقتنع بوجوب ترك قضية حبنا سنة، حتى الصيف المقبل، وكأني كنت أعلم أنه متى طال الزمن يقوم صراع شديد بين ما يقرره القلب وبين ما يقرره العقل. و لم تكوني أنت تعلمين ما يخالج نفسي و لم يكن لنا متَّسع من الوقت للاجتماع والتوسُّع في دارسة موقف كل منا وما يحيط به وإمكانياتنا فكانت مواقفنا سريعة وأكثر نظرياتنا اعتباطية لضيق الوقت. وشيء واحد كان جليّاً هو أننا حبيبان.
والآن، يا حبيبتي، فإني تردَّدت كثيراً في مكاشفتك هذا الأمر كما تردَّدت من قبل في التصريح لكِ بحبي مع علمي بأنكِ كنتِ تعلمين، حتى جاء تساؤلك ففتح باب هذه المسألة، التي أراني أحياناً كثيرة لا أجد المتَّسع الكافي من الوقت لتقليبها على كل وجوهها. وترددي بين حبي وخشيتي من ظروف حياتي هو ما جعلني أرفض إعلان خطبتنا في الصيف الماضي. لقد كنت أخشى تعليق الأمر والتطويل، والان تزداد خشيتي بقدر ازدياد حبي.
إن تفكيري يتناول الآن قضايا واسعة وشؤوناً دقيقة خطيرة تتعلق بمئات القضايا المتشابكة. وحين أفكر في أمر زواجنا لا أفكر إلاّ بك. فأنا قد اعتدت على الخشونة وتقلب الظروف وسرعة الانتقال وتجشم الأسفار وركوب الأخطار أما أنت وصحتك وبنيتك وقلبك وما تحتاجين إليه من عناية وعطف واجتماع واستقرار وطمأنينة فكيف يكون شأنك في حياتي التي لا قرار لها قبل بلوغ القصد وتحقيق الرسالة؟
وردني منذ أيام كتاب من الشاطئ الذهبي يرجوني تأجيل سفري شهراً آخر أو شهرين لتجهيز مواد برنامج الرحلة التي سيصحبني فيها بعض رجال الحزب من ذلك المكان. ومهما تأجَّل سفري فإني أرى أنه سيكون من الصعب جداً استصحابك معي نظراً للتطورات الجديدة في برنامج السفرة. وقد كان ذلك رأيك الأول، ولذلك فإني أفكر أني إذا سافرت واستغرقت سفرتي نحو سنتين فماذا يحدث في هاتين السنتين لكِ ولي وماذا يجري في العالم في هذه الأثناء؟ وعلى إفتراض أنه حدثت حرب في هذه الأثناء، وإني أرى الحرب قادمة قريباً، فماذا يكون المصير؟ من يدري.
إن الاكتئاب الذي رافق عدة رسائل سابقة من رسائلي يعود إلى مثل هذه الخواطر. وأنا الآن لا أستطيع الجزم بشيء سوى أني أحبك ولكن حبي لك ليس لنفسي وليس هو محور حياتي، بل سورية هي المحور الذي تدور عليه حياتي وحبّي. كلنا يجب أن نكون سورية، لأنه قد جاء الوقت الذي إذا فات ولم نفعل شيئاً في سبيل حريتنا فإننا ساقطون في عبودية شديدة طويلة. يجب أن نصبح أمة حرة لكي يصبح الحب السوري حبّ احرار لا حبَّ عبيد والحرُّ لا يمكنه أن ينعم بحبه في العبودية.
إني في صراع فكري عنيف فساعديني فيه يا حبيبتي.
سأصعد قريباً إلى بيت مري للتفرُّغ لخطابي الذي سألقيه في أول مارس وللتفكير. وسأذكرك كثيراً هناك.
سلامي للماما والجميع، ولكِ حبي وقبلة
(التوقيع)
في 5 فبراير 1938