كنت أمس على الغداء حين رنّ التلفون للأتصال ببوانس ايرس. وكنت قد انتظرت كل مدة قبل الظهر. والظاهر ان الاسلاك كانت قد تقطعت في بعض الأماكن بسبب ريح شديدة أو عاصفة. وكنت كلما طالت المدة ازددت قلقاً عليك لعلمي انك تنتظرين مخابرتي وقد لا تكونين عالمة بحصول الخلل للأسلاك التلفونية. فلما أُعلن لي الاتصال ببوانس ايرس فرحت كثيراً وكنت شديد الشوق لسماع صوتك. وكان من المؤسف ان الصوت لم يكن جلياً لكلينا.
بعد مخاطبتي اياك بنحو نصف الساعة وصل البريد حاملاً اليّ كتابك الأخير ورزمة الصحف. فحصل لي سرور جديد.
نسيت ان أسألك اذا كان يجب تخثير اللبن (الحليب) بعد تفويره أو يجوز تخثيره (ترويبه) وهو في حالته الطبيعية غير المغلي. هنا كانوا يصنعونه بدون تفوير ولما رأيت تشديدك بوجوب كون الخضر والفاكهة مسلوقة أو مطبوخة أمرت بتحضير اللبن بعد تفويره وسأرى اذا أمكن تحضيره لأن الجماعة هنا ليسوا سوريين ولا يعرفون كثيراً عن هذه الأمور وهم يحضرونه بواسطة خميرة من الاجزائية. وبينما أنا أكتب هذه السطور جاءت صاحبة النزل تقول ان اللبن المفوَّر لا يجمد كغير المفوَّر ولذلك سآكل اللبن المخثر من أمس بدون تفوير. وهل يفيد اللبن غير الخاثر (أي الحليب)؟ ثم هل يجوز أن أبدأ بأكل اللحم كالسابق بعد مرور 15 يوماً؟ وهل يجوز الآن أن أتناول أقراص "كلسبرنات" و"تبلوا الغليسروفصفاط"؟
تقولين، يا حبيبتي، في كتابك الأخير انك صرت، بعد قراءة كتبي الحاوية الاصلاح الصرفي، تكتبين بيد مرتجفة كالتلميذة البادئة. وهذا ما يجب الا يكون. فأنا أصلح أغلاطك الصرفية والنحوية لا لتفقدي ثقتك بنفسك، بل لتهتمي بلغتك واتقانها بدل اهمالها كما كنت تفعلين سابقاً. واذا قلت ىلك انه يوجد في كتبك أغلاط أخرى غير التي أشرت اليها فهذا لا يعني انها أغلاط كثيرة فاحشة، بل يعني انه يوجد أغلاط يقع فيها جميع غير المدققين أو المهملين. وحين قلت اني كنت مسروراً جداً بكتابك الأول بالعربية وبعبارته الواضحة لم أقل غير الحقيقة بدون مبالغة. فيجب ان تثقي بنفسك وان تهتمي لأمر لغتك وتواظبي على القراءة فيها والانتباه لتركيب كلماتها وان تنقلي أحياناً بعض القطع المكتوبة لتتمرني على ضبط الألفاظ، خصوصاً في كتابة الهمزة وبعض الأحرف التي يختلف لفظها الفصيح عن لفظها الدارج. واذا اعدت كتابة بعض كُتُبي اليك كان ذلك تمريناً جيداً.
لاحظت في كتابك الأخير تكراراً للأغلاط السابقة المصلحة في الكتاب الاصلاحي الأول، كما اني لاحظت انك أصلحت بعض الأغلاط الجديدة. فمن الأغلاط المكررة قولك "مسافاة" وهي جمع مسافة ولذلك يجب ان تكتب هكذا مسافات. فالتاء القصيرة للتأنيث المفرد تصير طويلة في الجمع. وكذلك قولك "وانا متألمت" غلط لأن "متألمة" هي أسم فاعل مثل "مرسلة" وهي لأنها اسم تكون علامة التأنيث فيها تاء قصيرة ولكي أشرح لك هذا الاستعمال جيداً أقول انه يشابه الاستعمال الانكليزي في القول: "I’m sending" فلفظة sending في الانغليزية هي فعل لا اسم وهذه الصيغة يقال لها بالانغليزية Present Progressive. اما في العربية فهذه الصيغة غير موجودة في الأفعال وانما يقابلها صيغة "اسم الفاعل" كقولنا "أنا ذاهب، وهي ذاهبة" فذاهب وذاهبة هما اسما فاعل لافعلان أو فعل. اما اصلاحك انك كتبت تأثرت ولم تكتبي تأسَّرت والأولى هي الصحيح. ومن الأغلاط المكررة قولك عن أوراق الورد انها الأوراق التي تعودت اميليا ان "تقدمهم" وانك "قبلتهم" فأطلب اصلا هذا الاستعمال.
من الأغلاط التي نسيت ان أذكرها لك من كتابك السابق استعمالك الصاد في محل السين في لفظة السوق. فأنت تكتبين الصوق وهو غلط والصحيح السوق. وكذلك قولك "يمكن احصالي على غير مركز" فاحصالي غلط والصحيح ان يقال يمكن ان أحصل أو يمكن حصول مركز آخر لي.
في المرة الأولى استعملت لفظة خشية مضبوطة اما في كتابك الأخير فقد استعملتها هكذا خشيتاً. فهي صحيحة من الوجهة النحوية، أي ان محلَّها النصب ولكن من الوجهة الصرفية لا يجوز زيادة ألف على التاء القصيرة فيقال خَشْيَة َ أنْ أو خَشْيَة ً من أَن.
لا يقال "الأشخاص المزدوجة القلوب"، بل يقال الأشخاص المزودجة قلوبهم أَو المزدوجي القلوب، لأن الأشخاص عاقلون والضمير لهم هو هم لا هي فلا يقال مزدوجة بتاء التأنث بل مزدوجون أو مزدوجو القلوب، ولكن اذا نقلنا الصفة أو النعت الى القلوب جاز ان نقول مزدوجة بل وَجَبَ ان نقول وهكذا يكون المعنى: "أشخاص قلوبهم مزدوجة". لا يقال البعدة بل البعد فهو مذكر. ولكن يقال الوَحْشَة فهي مؤنث. وكذلك لا يقال "هيا" بل هي بالياء فقط.
هذا كل الدرس الجديد. وأريد، يا حبيبتي، ان تراجعي هذه الدروس بدقة وان تجري بعض التمارين عليها. وعندما تكتبين ثانية فلتكن كتابتك بتأن ٍ وكل لفظة لا تكونين متأكدة منها فراجعي الدرس المتعلق بها واذا لم يكن عليها درس سابق فضعي لها علامة وأنا أصلحها لك.
لا لزوم لتأخير كتاب رافلس. وأريد ان يزاد عليه عبارة تدل على ان حالتي الصحية وابتعادي الى الجبال هو ما أخر جوابي واني في هذه الأثناء تسلمت المشاهد الأندلسية التي تلطف بارسالها اليّ.
صحتي تتحسن تدريجياً. وفي الليلة الأخيرة نمت مرتاحاً. وكنت مسروراً من مخاطبتك ومن وصول كتابك الأخير اليّ. واليوم استيقظت وأنا أشعر اني أحسن من حالتي أمس. ولكن الطقس اليوم بارد وقد خرجت نحو خمس دقائق لاتنشق الهواء الطلق قبل الترويقة. ومع اني كنت لابساً صدرية صوف وجاكيت وكبوت، أي رداء، فقد شعرت ان الهواء بارد وهو يهب من الجنوب. فرجعت حالاً الى الداخل وسوف لا أخرج في هذا الطقس.
الخروج اليوم كان أحسن. فهو عادي الا في القسم الأول ففيه اثار مادة مخاطية جامدة.
بلغي السيدة استيبر شكري لسؤالها عني وسلامي لها وللسيد استبير.
اني لست تعباً بهذا المقدار ولكني لست نشيطاً كثيراً فالراحة هنا قد أفادتني كثيراً ولولا هذا الحادث المؤسف لكنت اليوم تقدمت شوطاً بعيداً.
ان أوراق الورد الجميلة وقد قبلتها جميعاً لأنها حملت قبلاتك.
واني أشعر بهذا البعد وأريده مع مشقته، لأنه يقربني اليك. وبانتظار استمرار الاقتراب المحسوس عن هذا البعد أقبلك وانتظر جوابك التالي واسلمي يا ضيائي.
في 4نوفمبر 1940