ـ لم تلق دعوة معرفية في هذه البلاد، من العنت والمضايقات والإتهامات والإفتراءات، ما لاقته ( السعادية) وإلى كل ما يمكن أن يخطر على بال المرء، من اعتداءات وتجاوزات، إرتكنت في معظمها، الى عدم قراءة، خطاب السعادية المعرفي، أو حتى الإطلاع عليه أو التعرف على منظومتي الفكر والنهج فيه، مما أدى إلى عدم محاورته نقديا، أو الإستناد إليه إنتقاديا كشاهد مقروء في سياقه المعرفي، فالجهل بهذه الدعوة المعرفية ،لم يكبح جماح المنتقدين المتسرعين للرد على السعادية، بمبان ومعان شديدة الضحالة ،تؤدي بالضرورة الى مقولة، ما ناقشت جاهلا إلا وأفحمني، وإننا إذ نحاول نشر منتوج هذه الدعوة المعرفية، نحاول تجنيب هؤلاء المنتقدين من الوقوع في الجهالة، لا بل دفعهم نحو نقد معرفي مبني على الإطلاع والإستناد إلى نصوص السعادية نفسها، وليس التقدير الحدسي الشفاهي/السمعي، الذي يؤدي الى الرد إنتقاديا وبتبسيطية وسهولة مخلتان، على أطروحات غير موجودة أصلا. فيتحول فعل الرد بهذه الطريقة الى جزاف من جهة، والى دعاية إفترائية لا تليق من جهة ثانية. وعليه فإن الباب مفتوح كما كان دائما للنقد وحتى للإنتقاد خصوصا من باب المنافسة، سياسية كانت أم معرفية، شرط أن يكون الموضوع موجودا في الأطروحة المعرفية السعادية .
ـ ونقول (السعادية) وهي تسمية طالما تم الإعراض عنها، لإسباب متنوعة، ولكن بعد كل المجريات التي قاربتها سياسيا وأدبيا وقمعيا، خلال القرن الماضي ومستهل هذا القرن، والتحولات التي طرأت على التعامل معها، صار من المحتم تمييزها بصفتها الإنتاجية الأولى، بوضع علامتها الأصلية عليها كمنتج معرفي مستقل(كما الماركسية على سبيل المثال لا المقارنة )، وهو ما يطرح سؤالا جوهريا على القاريء، حول ملكية هذا المنتوج المعرفي، ولا نقصد هنا الملكية الحصرية بالمعنى التجاري ، بل نقصد حق الأفراد في كل مكان بالإستفادة إيجابا أو سلبا بأطروحة معرفية، قابلة للجدل المعرفي، فالسعادية من حيث كونها معرفة فلسفية، هي ديالكتيكية (تفاعلية) حتما قابلة للتطور والإرتقاء عبر التفاعل النقدي، إذ لا تملك، وبطبيعتها، بنية قدسية مسمطة عصية على التحليل والتركيب كعملية معرفية راقية. لذلك لا تبدو السعادية حكرا على حزب معين، حتى ولو كان واضع السعادية من أسسه كتكنولوجيا قادرة كما كان يأمل على الإرتقاء بالمعرفية التأملية إلى مصاف المعرفية التقنية، التي تحول العلم الى ممارسة في الواقع المعاش، وهي مباحة ومتاحة للجميع وللذين يريدون تنفيذ مشاريعهم المعرفية .
ـ لم تأت السعادية بمعجزة، ولا عن طريق معجزة، ولم تنقل تجربة المعرفية المبيئة لأي أحد لتطبقها على بيئتها المحلية، ولكنها في المقابل استفادت من المنجزات المعرفية المتوفرة، فالفكر كوني بطبيعته، لإنه منجز على تواصل أجيال المنتجين له، ولإن المعرفة ملزمة بطبيعتها أيضا، فجاءت السعادية كجدل دائم بين الفكر وما وصل اليه، ومقومات وشروط البيئة المحلية، وهذه نقطة أشكلت على الكثيرين من قراء بعض السعادية ومن حادسيها أيضا، ولكن يبدو لنا أن قراءتها من هذه الوجهة، أي كفكر كوني المنشأ، مفصل على واقع محلي مدروس، ولحاجات محلية استراتيجية، يمكن أن يوصلنا الى نقطة أقرب إلى مقاصد السعادية، وبالتالي التعامل معها بالمعرفة النقدية ،دون أنماط أو مواقف مسبقة.
ـ هناك إشارة للقارىء لا بد من المرور بها، إلا وهي اللغة السعادية، وهي بدهيا اللغة العربية، ولكن في صبغتها ومفرداتها وأسلوبها المتداول بين عشرينيات القرن الماضي وخمسينياته ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنها تحتوي على كمية كبيرة من المصطلحات المعاصرة لتلك الفترة والمترجمة إلى العربية بدقة متناهية وربما للمرة الأولى، على ما يكتنف الدقة والمفردات المستعملة في تلك الحقبة من غرابة بالنسبة الى القارىء اليوم. وغير هاتين الملاحظتين التي قد تجلبان بعض الإشكالات، هناك الإنشاء السعادي اللازم لتقديم منتوجه المعرفي، وهي لغة دقيقة ومحددة (بكسر الدال ) تعني ذاتها تماما من دون مواربات أو معان تقديرية، تختص فيها الشفاهية (كألفاظ وكبنية ذهنية ) تخضع لاحقا للتفسير والتأويل مما يهدد وضوحها ومقاصدها ،فهي تعني ما يقرأ، منتقلة من ذهنية المشافهة الى ذهنية التعاقد ،فالمنشىء يعني ما يقول ومسؤول عنه حتى الموت. لذا وجب التوضيح حتى لا يقع القارىء بإشكالات هي مسببة نظرا لإختلاف الأزمنة .
ـ نحن نعلم كما يعلم الكثيرون، أنه منذ توقف السعادية عن الإنتاج وحتى الآن، طرأت تطورات هائلة على الإنتاج الفكري المعرفي الكوني، وكلها إرتقاءات متواصلة ومترابطة ومبنية، على أسس معرفية سابقة لها، ولا تتناقض السعادية مع هذه الصيرورة في حال تغيير الحال أو بمعنى تم إنجاز التكنولوجيا المطلوبة وآن أوان الإرتقاء، ولكي لا يحصل تناقض بين السعادية كصنع للمحلي من القضايا، فإنه علينا الإعتراف أن الحال المعرفية للبيئة المحلية لم تتطور أو ترتقي عن الحال المعرفية التي دعت السعادية لمعالجتها، لا بل أن الحال ازداد سوء، على ما قدرته السعادية أو استشرفته، حيث تبدو هذه البيئة أقرب الى الفناء منها الى النهضة، وهذا لا يعني بأي حال عدم مجاراة منجزات الفكر الكونية والتفاعل معها، ولكن الحال المعرفية تردت وتهافتت لدرجة أنه لا مناص من إعادة الأسئلة السعادية الأولى، مثل من نحن و ما الذي جلب على شعبي هذا الويل، وعليه يبدو مقترحنا لقراءة السعادية بهذا الشكل المشرع المفتوح على احتدام الأفكار مناسبا في وقت نحن فيه بحاجة إلى بارقة أمل لإنقاذ هذه البيئة من الفناء.
حبيب يازجي