الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 16، 15/3/1941
عالجت في العدد الماضي مسألة سلطة الزعيم غير المحدودة في أساسها النظري وفي مقتضياتها الراهنة، فمن فاته من الدارسين قراءة البحث المتعلق بهذه المسألة فليعد إلى العدد السابق.
قلت في عُرض المقال السابق:
«وإذا درسنا جيداً تاريخ الحزب السوري القومي ودققنا في الاختبارات التي مرّت به وجدنا هذه السلطة غير المحدودة للزعيم الضمان الوحيد لسلامة هذا الحزب الذي يمثل نهضة الأمة السورية. ولولا هذه السلطة لكان الأرجح أن يتفكك الحزب، وإن بقيت العقيدة، من جراء المناورات التي قام بها أفراد جلبوا معهم إلى داخل الحزب أمراض النفسية الانحطاطية وحاولوا أن يحوّلوا الحزب إلى ميدان تتبارى فيه منافعهم الخصوصية وأهواؤهم» (ص 163، 164 أعلاه).
من هذا القول آخذ النقطة الابتدائية للدرس الجديد الذي يشتمل عليه هذا المقال في ضمان سلامة الحزب السوري القومي بواسطة سلطة الزعيم التشريعية والتنفيذية التي بايع القوميون سعاده عليها مبايعة بقسم صريح النص.
لنعد قليلاً إلى الوراء إلى أصيل القرن الماضي، ولنبدأ نتتبع سير الأفعال السياسية والاجتماعية بين السوريين منذ ذلك الوقت حتى اليوم. فماذا نرى في هذه السياحة وما هي النتيجة التي تحصل لنا من هذا الاستعراض؟
نجد الأفعال السياسية والاجتماعية متشعبة إلى:
1 ــــ جمعيات سياسية فدائية قامت على غير قضية واضحة وعلى أساس التخيلات المستمدة من تاريخ مغلوط وأدب أولي غير ناضج.
2 ــــ جمعيات دينية مسيحية وإسلامية ودرزية.
3 ــــ جمعيات خيرية طائفية في معظمها ومختصة بسكان أو أبناء بلدة معينة.
4 ــــ جمعيات أدبية لحملة الأقلام والخطباء.
5 ــــ جمعيات المهن المتنوعة.
6 ــــ جمعيات أخرى ذات صفات متنوعة، سرية وغير سرية، كالماسونية والكشاف وغيرهما، وذات صفات إنسانية عامة.
فإذا فحصنا كل جمعية من هذه الجمعيات وأحوالها، فما هي الصفة البارزة التي يجدها الفاحص، ويجد أنها كانت الغاية الأساسية وراء مظاهر العاملين فيها، وأنها قررت مصير الجمعيات؟
الجواب: الغايات الشخصية المادية المعنوية.
بعض النفعيين يستنبطون فكرة إنشاء جمعية أو اجتماع أو مؤتمر للوصول إلى غاية مادية أو معنوية خاصة بهم، وبعض النفعيين الآخرين ليست لهم قوة الاستنباط لهذا الغرض.
فإذا كانت جمعية من الجمعيات التي عددتها آنفاً نشأت بمباشرة نفعي وضع غاية الجمعية أو دعا لوضع غايتها وتأليفها فالمبدأ الشخصي في أساسها وبدء فكرتها. وإذا كانت نشأت بمباشرة شخص أو أشخاص مخلصين لخدمة الضيعة أو الطائفة أو فكرة سياسية مستحسنة فلا تكاد تبرز إلى الوجود حتى يقبل عليها كل نفعي في جوارها يرى فيها وسيلة لبلوغ مأرب أو مآرب من مآربه النفعية.
والنفعيون، في الغالب، متنبهون أكثر من العموم وأكثر من المخلصين لسلامة الغاية العمومية، وأخبر منهم وأشد سعياً في الأعمال واهتماماً بالأمور، نظراً لشدة رغبتهم في الاطلاع على دخائل الأمور وفي القبض على المسائل لأخذ المنافع منها، خصوصاً في حالة الجهل المتفشي في شعبنا. فلا تكاد تنشأ جمعية أو مؤسسة حتى يجتاحها النفعيون المفسدون، وما أكثرهم بيننا. ولا يكاد يمضي على وجودهم في الجمعية أو المؤسسة وقت قصير حتى يبدأ تزاحمهم على الوظائف والمناصب. وبعد قليل من الوقت يحل الطمع في الوظائف والمناصب محل غاية الجمعية الأساسية، وهمية كانت أو حقيقية، وبعد وقت قليل يظهر الحسد والتباغض والشقاق فينتهي أمر الجمعية إلى لا شيء، أو ينفرد بها نفر فيقصون غيرهم عن الجمعية ويخلو لهم الجو لاستغلالها لمنافعهم، حتى ولو كانت الجمعية خيرية لمساعدة المحتاجين، أو للاهتمام بالمرضى وإيوائهم.
أي جمعية أو حزب أو مؤسسة سورية قبل الحزب السوري القومي لم يكن هكذا تاريخها؟ وإذا قال قائل إنه وجدت جمعية صغيرة في بلدة قامت مدة وجيزة من الزمن بإخلاص وتعاون نزيه في العمل واتفاق ووئام، فهو شذوذ نادر لا يقاس عليه.
أي جمعية ذات صفة عمومية موجودة اليوم لا تعاني شلل الأعمال وجمود الروح بسبب تزاحم «البارزين» من أعضائها على الرئاسة والناموسية وخزانة المال وعلى القبض على المشاريع التي يمكن أن تحصل من ورائها منافع للقابضين عليها؟
حتى البلدية في القرى والبلدان في الوطن ليست سوى وسيلة للقبض على المنافع، فرئيس البلدية يستخدم مستخدمي البلدية لمنافعه الخصوصية، فالحراس ليحرسوا منزله، وفتح الطرق الجديدة يجب أن يكون بقرب مسكنه ومساكن أقربائه ومن له مصالح مادية معهم. وكثيراً ما يستخدم عربات البلدية وعمالها لبناء منزل أو إصلاحه ولسقي بساتينه. وهو يقبض أموالاً لقاء تحويل طريق من جهة إلى جهة أو غير ذلك.
والماسونية السورية ليست سوى أمكنة للتزاحم على رئاسة المحافل وعلى الوظائف الوهمية للتنافس فيها.
ولا نبعد كثيراً فكم نسمع، هنا في الأرجنتين، عن هذا الفساد العظيم في مئات الجمعيات المنتشرة في جميع أوساطنا في هذه البلاد؟
رأى الزعيم هذه الأهواء الجامحة العابثة بالغايات النبيلة والمثل العليا من أجل المنافع الخصوصية. ورأى أنّ تقهقر الشعب السوري تحت السلطة الأجنبية مدة قرون قد أوجد انحطاطاً في المناقب والأخلاق يعز نظيره في أمة من الأمم، فوطَّد النفس، منذ أول دقيقة تسلّم فيها مقاليد زعامة الحركة السورية القومية، على الضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الانحراف بالأعمال الحزبية عن قاعدة النظام، ومحاولة العمل للمنافع الخصوصية، مهما كان نوع هذه المنافع، كما أنه جعل مهمته الأولى تثقيف من وجد نفوسهم طيبة، مجرّدة عن المآرب النفعية، صالحة لحمل القضية بإخلاص، قابلة لسلوكية المناقب والأخلاق الجديدة، مستعدة لحمل المسؤوليات واحترام القوانين والأحكام وقداسة اليمين التي يؤدونها، وتدريبهم على الأنظمة والقوانين التي سنّها وقبلها الحزب كله وأكبرها رجال الحقوق فيه. فما استشعر الزعيم بادرة انحراف نحو الفساد في جهة من الجهات حتى باشرها بالعلاج التثقيفي، فإذا لم ينفع العلاج اتخذ طريقة حاسمة لقطع دابر الفساد وإهلاك بؤرته.
بهذه الطريقة أمكن القضاء على جميع محاولات من سوّلت لهم نفوسهم حسبان الحزب السوري القومي كالجمعيات والأحزاب التي عرفوها أو عرفوا عنها من قبل، أي وسيلة لبلوغ مآربهم أو لإرضاء خصوصياتهم وميولهم.
وقد قال الزعيم في أثناء معالجته حادثاً من حوادث المآرب النفعية الشخصية هذا القول الكبير: إنّ ظهري قد يكون سلَّماً، ولكنه سلّم صالحة ليرتقي عليها شعبي فقط. أما المآرب النفعية فتنقلب عنها إلى الحضيض!
وهنالك عدد من المتعيشين وذوي المآرب الخصوصية في المهجر لم يروا من الضرورة درس تاريخ الحزب السوري القومي ولمس دعائمه الفلسفية والحقوقية المتينة فانضموا إليه وهم يتوهمون أنهم سيتمكنون من إيقاع الحزب والقضية في حبائلهم فعولجوا ليرعووا فلم يقبلوا العلاج فنفوا من الأوساط القومية، وانكشفت للناس مثالبهم.
كثير من الناس الذين لا يدركون قيمة الأعمال الإصلاحية والتطهيرية ولا يرون أكثر من نطاق بيئتهم الشخصية المحدودة يتساءلون: لماذا طُرد فلان، ولماذا هذه السلطة العليا للزعيم في إيقاف كل فرد عند حدِّه؟
وهم من جهة أخرى لا يرون كيف يفسح الزعيم المجال لذوي النفسية والمواهب الصالحة المفيدة للنهضة القومية، وكيف يرفع الرجال النبلاء من الحضيض الذي ألقتهم فيه أهواء النفعيين ومثالب الرجعيين حيث ديست كرامتهم وهضمت حقوقهم، لأنهم كانوا سليمي النية ولا يعرفون حيل الدجالين وأصحاب المآرب ولؤمهم.
وهؤلاء المتسائلون ينسون، أو يجهلون تفشّي الفساد الأخلاقي والمثالب الروحية في الشعب، فيقولون عند كل حادث استئصال: «ماذا في الحزب السوري القومي؟».
والأصح أن يقولوا: «ماذا في الشعب السوري الذي يقوم الحزب السوري القومي بأكبر عملية لتمييز صالحه من فاسده؟».
الحركة السورية القومية تزرع وتحصد، ولكن يأتي بعد الحصاد دور الغربلة والتنقية. ولمّا كانت الأرض المزروعة مهملة من قبل ولم يمكن تطهيرها من جميع الأشواك والنباتات الضارة دفعة واحدة، فليس غريباً أن نرى المواد المنبوذة غير قليلة.
وسأعطي في العدد القادم مثالاً من الحوادث التي واجهها الحزب السوري القومي انتصر عليها بفضل دستوره وسلطة زعيمه المطلقة.
هاني بعل