الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 58، 15/12/1942
السياسة:
سورية ــــ تقوم حكومتنا الشام ولبنان بجهود كبيرة لتبررا خيانتهما للمصالح السورية القومية بعدم طلب استفتاء عام يقر فيه الشعب وضعيته وشكل الحكم الذي يختاره ونوع الرجال الذين يريدهم معبّرين عن إرادته. فهما تتذرعان بجميع المظاهر التي لا حقيقة وراءها لإيهام الرأي العام أنهما قائمتان على أمر حقيقي صالح.
آخر اجتهاد للحكومتين المذكورتين محاولتهما تأويل وجود «معتمد سياسي» تجاههما من قِبَل أميركانية أنه اعترف رسمي «باستقلال لبنان والشام». فحالما قدَّم المعتمد الأميركاني أوراق اعتماده في الشهر الماضي سارعت حكومة لبنان و«نادي المهاجرين» إلى إخبار المغتربين أنّ الولايات المتحدة قد اعترفت رسمياً «باستقلال لبنان» وشيئاً من هذا القبيل أرسلت حكومة الشام. وهنالك ظروف أخرى حاولت الحكومتان المفروضتان على الشعب استغلالها لإيهام المهاجرين أنهما تقومان بمقتضيات حقوق السيادة القومية كظروف تخويل مفوضية القائد كاترو هاتين الحكومتين تولّي بعض الشؤون القنصلية في الخارج.
نذكّر القرّاء بما نشرته الزوبعة حول تعيين المعتمد الأميركاني في لبنان والشام منذ بضعة أشهر. ففي ذلك الوقت أشرنا إلى أنّ هذا التعيين ليس له صفة الاعتراف بما يسمى، تضليلاً، «استقلال لبنان والشام». فلأميركانية تصريح رسمي سابق تقول فيه إنّها ستنظر في إمكان الاعتراف باستقلال لبنان والشام في الظروف المناسبة.
فنحذر المغتربين الحريصين على كرامة أمتهم ووطنهم من قبول هذه الظواهر الخداعة.
فرنسة ــــ قلنا في تعليقنا الأخير على حوادث نزول قوات أميركانية في المستعمرات الفرنسية في إفريقيا الشمالية واحتلال المحور بقية فرنسة، إنّ هذه الحوادث قد جلت موقف فرنسة وأوضحت حالتها، التي كانت غامضة. فبعد مقابلة منتوار المشهورة بين هتلر وبتان وحصول تصريحات بإمكان التعاون بين فرنسة وألمانية، أخذ وجه المسألة الفرنسية شكلاً مبهماً، فقد طالت الفترة بين تلك المقابلة وما كان ينتظر أن ينتج عنها من التعاون. وكثير من الناس ظنوا أنّ فرنسة، وإن تكن غير راغبة في التعاضد مع أعدائها الذين غلبوها، سوف تنقلب على حليفتها بالأمس بريطانية، لأن هذه الحليفة كانت دائماً تدخل المعركة آخر الكل بينما تكون فرنسة في الأول متلقية بصدرها القنابل والحراب. وهنالك أسباب كثيرة أيّدت هذا الاعتقاد، منها أنّ فرنسة قد تعبت من الحروب العديدة بينها وبين ألمانية وأنّ استمرار العداوة بينها وبين جارتها القوية، الحربية، ليس في مصلحتها. وكثير من الفرنسيين قاموا يؤيدون هذه النظرية بعد اندحار فرنسة ويتذرعون بها لترغيب ألمانية في الاتفاق مع فرنسة تفضيلاً لها على إيطالية. وقد رموا بذلك إلى إنقاذ كيان فرنسة الامبراطوري والمحافظة على مركزها في أوروبا وعلى مستعمراتها فيما لو كان النصر حليف ألمانية في هذه الحرب. والدلائل الظاهرة جميعها كانت، في السنتين الماضيتين، ترجّح انتصار ألمانية النهائي.
الظاهر أنّ هذه الفكرة كانت تلاقي قبولاً في الشعب الفرنسي وكان يمكن أن تنتصر نهائياً لولا نشوب الحرب فجأة بين ألمانية وروسية ولولا طول سير القتال في الروسية. فلمَّا امتد أجل القتال في الجبهة الشرقية أخذ بعض السياسيين الفرنسيين يعيدون النظر في الموقف وفي سياسة فرنسة. والظاهر أنّ المطامح القديمة والأمل بمحو انكسار فرنسة عاودت مخيلة عدد من السياسيين والقواد الحربيين في حكومة فيشي نفسها. ويستنتج من مجرى الحوادث أنّ درلان المختار خليفة لبتان أراد أن يكون بطل انقلاب جديد في السياسة الفرنسية والعودة إلى محاربة ألمانية. فاختار الوقت المناسب لاتخاذ موقفه الجديد، فزار مستعمرات إفريقيا الشمالية قبيل الهجوم الأميركاني على هذه المستعمرات، وألقى الخطب في دكر والجزائر متوعداً كل من تسوّل له نفسه اجتياح المستعمرات المذكورة بمقاومة عنيفة تعيده من حيث أتى مخضباً بدمه. ولم تكن تلك الخطب سوى رماد ذرّه درلان في العيون، لأنه حالما وطئت أقدام الجنود الأميركانيين أرض الجزائر اتفق درلان مع القائد الأميركاني أيزنهاور على توقيف القتال وتسليم الثغور. وتبع هذا الاتفاق الأولي الحربي اتفاق آخر سياسي يجعل درلان سيد الإدارة والقيادة الفرنسيتين في الجزائر ومراكش والسنغال. وفي الحال سار درلان إلى تثبيت زعامته بإنشائه مجلس الامبراطورية الفرنسية، وإعلانه نفسه رئيس الدولة الفرنسية في المستعمرات.
كان انقلاب درلان وانحيازه إلى الأنكلوسكسونيين من غير الاتصال بديغول وجماعته وقبول الولايات المتحدة الأميركانية الاتفاق معه، والسماح له بإدارة مستعمرات شمال إفريقيا الفرنسية ضربة شديدة على ديغول وحزبه. فإن ديغول كان يحسب أنه قد ملك قيادة جميع الفرنسيين الذين يريدون أن يتابعوا الحرب ضد ألمانية مع بريطانية وأميركانية، وأنّه من الصعب أن يحصل أي تفاهم بين بريطانية والولايات المتحدة وبين أي فريق فرنسةي آخر من غير واسطة ديغول أو بدون علمه: فصعب أمر درلان عليه وعلى جماعته، لأن ضربة درلان جعلت هذا الأخير في مركز أقوى من مركز ديغول، نظراً لأهمية الجزائر ومراكش والسنغال وقربها من المراكز الحربية الهامّة. فاحتج ديغول وقبّح درلان. وسعى سعياً حثيثاً لإقناع واشنطن أنه شخص لا يصح التعاقد معه وأنه هو، ديغول، يجب أن يكون الرئيس الوحيد لجميع الفرنسيين العائدين إلى محاربة ألمانية لأنه هو الذي وقف هذا الموقف في بادىء الأمر. ولكن واشنطن رأت أن لا تتدخل في هذه الظروف الحرجة، في المشاحنات الفرنسية الشخصية. وهذه المشاحنات الشخصية هي مرض فرنسة الحديث الذي أنزلها إلى درك منحط اجتماعياً وسياسياً.
كان من وراء غضب ديغول لبروز درلان أنّ هذه المسألة أثيرت في مجلس العموم البريطاني في جلسة سرية. وقد رأت بريطانية أن ترضي هذا القائد الذي وقف معها فقدّمت له مؤخراً إدارة جزيرة مدغسكر تقوية لنفوذه تجاه درلان. والنتيجة حصول قيادتين فرنسيتين متنافستين تحاربان كليهما في جانب الأنكلوسكسون من غير أن يتمتع أحدهما بالاعتراف الرسمي بسلطته المطلقة.
أما فرنسة نفسها التي أصبحت كلها محتلة فأمرها لا يزال فوضى. فحزب دوريو وديات القائل بالتعاون مع ألمانية يوالي مساعيه في جو مليء بالشكوك. والمارشال بتان يتابع مهمة حفظ الحالة ضمن شيء من التوازن والمحافظة على ما بقي في الأيدي الفرنسية. وبطرس لوال [بيار لافال] يزداد قوة حكومية ولكن نتيجة مساعيه للتعاون الفعلي الواسع مع ألمانية لا تزال بين عسى ولعل.
مسألة اليهود ــــ يبذل اليهود مساعي كثيرة وجهوداً عظيمة لتقوية مركزهم في الجبهة الأنكلوسكسونية. وهم منذ بدء هذه الحرب يطمحون إلى اكتساب حقوق حلفاء شرعيين بواسطة إنشاء جيش يهود مستقل يكون شريكاً ذا شخصية لجيوش الأمم المتحدة المعترف به، فخوّلهم ذلك نصيب التمثيل الرسمي في مؤتمر الصلح المقبل. وهو أمر إذا تمَّ كان أعظم خطر على كيان سورية تكون حينئذٍ بأخذ وجهة نظر اليهود بعين الاعتبار والاعتراف لهؤلاء بحق الكلمة العليا في شؤون فلسطين التي هي هدفهم في هذه الحرب.
ويستغل اليهود جميع الأخبار الصحيحة وغير الصحيحة عن سعي الألمان لمحقهم في أوروبا لإثارة الرأي العام العالمي واكتساب عطفه الذي يمكنهم حينئذٍ استخدامه لتأييد مطاليبهم أمام الحكومتين البريطانية والأميركانية. والظاهر أنّ أميركانية تبدي عطفاً أكيداً على مطاليب اليهود.
آخر ما ورد من الأخبار في هذا الصدد برقية بتاريخ الخامس عشر من ديسمبر/كانون الأول الحاضر لشركة «أسوشياتد برس» عن لندن أنّ ناموس دائرة الحرب، سر جايمس فريق، صرّح في مجلس العموم أنّ الحكومة تدرس إمكانية إنشاء جيش يهودي وأنه «يوجد اعتقاد أنه لا مبرر لإحداث أي تغيير في السياسة المتخذة» فيما يختص بالقضية الإسرائيلية.
اليهود يقبلون، في الوقت الحاضر، أفراداً في الجيوش البريطانية في بريطانية وفي الشرق الأوسط، وتقول البرقية المذكروة إنّ الحكومة البريطانية تقاوم إنشاء جيش يهودي مستقل.
ولكننا نرى، من هذه الوجهة، أنّ اليهود قد حصلوا على امتيازات كبيرة من الوجهة العسكرية، فمنذ شهور رأينا في جريدة لا فاسيته التي تصدر في توكومان صورة برقية تمثل جندياً يهودياً في قبرص واقفاً على سلاحه وفوق رأسه يخفق العلم اليهودي. فإن السماح برفع العلم اليهودي في ساحة حرب هو عمل له خطورته وخطره.
ومهما يكن من الأمر فإن استفحال أمر الحركة اليهودية برهان على استيقاظ اليهود في العالم وتنظيمهم وتوحيد قيادتهم. وهذه الحقيقة يجب أن تخجل جميع السوريين الذين، حتى الآن، لم يحاولوا فهم واجباتهم ووجوب انضمامهم في الصفوف القومية المنظمة لبلوغ المقصد الأسمى.
إسبانية ــــ بعد احتلال الأنكلوسكسون إفريقيا الشمالية الفرنسية صار من أهم المسائل السياسية التي تأثر على مجرى الحرب معرفة موقف إسبانية.
بذلت الولايات المتحدة وبريطانية لإسبانية العهود بأن قواتهما لا تهدد إسبانية ولا شيئاً من مستعمراتها. ولقاء ذلك بذلت إسبانية التأكيد لأميركانية أنها ستفعل ما بوسعها لحفظ حيادها ما دامت غير مهددة. وتواردت التصريحات الإسبانية بهذا المعنى. ولكن وجد في هذه التصريحات، خصوصاً خطب الزعيم فرانكو، تنبيه إلى أنّ إسبانية مع أوروبا وأنّ النظام القديم يجب أن يسقط وأنّ إسبانية لها دور تلعبه.
وقد نادت الحكومة عدة صفوف إلى السلاح. وفي السادس عشر من هذا الشهر صدر قرار بتعبئة صف 1939 وهو الثالث الذي تجري تعبئته. ويحتمل كثيراً أن تكون إسبانية تتهيأ لدخول الحرب في فرصة مناسبة قريبة، وإذا كانت الظواهر صادقة فسيكون دخولها في جانب ألمانية. وحينئذٍ تصير وضعية إفريقيا ذات وجه آخر.