دروس قومية اجتماعية - اليمين

الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 65، 1/9/1943

 

إنّ من أعظم أضرار ضعف الأخلاق وانحطاط المناقب، فساد الحقيقة وذهاب الرجولة وفقد الأهلية وتفكك الاجتماع وتهدّم القضايا وركوب العار.
وليس أسوأ عاقبة من الحنث باليمين وفسخ العهود ونقض البيعة التي بها قيام القضايا والاطمئنان الأكيد بالتضامن في الحياة.
القضايا العامة تتحقق بالمجهود العام. فاليمين التي توجب التضامن الوثيق في المجهود العام تصبح القاعدة اللازمة لهذا المجهود، والشرط الذي لا يمكن قيامه إلا به. وكسر اليمين خرق لحرمة المجهود العام، وتعريض لهذا المجهود لأخطار غير منتظرة، مع ما يلزم ذلك من إمكان وقوع العذاب والتعذيب على الأوفياء الثابتين على إيمانهم بسبب فشل ضعيفي الأخلاق وتزعزعهم. وإذا تركنا احتمال وقوع العذاب والتعذيب، ونظرنا فقط في الآلام والمتاعب التي يورثها تقلقل الصفوف من جراء تزعزع ضعفاء الأخلاق. لكفى ذلك مجالاً للتمعن في بعض نتائج خرق اليمين السيئة.
ولكن الجيل السوري الحاضر لم يتعود مناقشة النفس في الأضرار التي يمكن أن تلحق الأمة أو الحزب أو القضية من جراء شذوذ الأفراد عن قواعد المجهود العام. ولذلك يندر أن تجد أفراداً مدركين هذه القواعد ومهتمين لها وعارفين مقدار ارتباط الشخصية بها في المجتمع أو في نظام الاجتماع.
الحقيقة أنّ خرق اليمين من أسوأ جرائم الاجتماع المناقبية. فإذا بليت به أمّة دكّ عمرانها إلى الحضيض، وإذا شاءت أمّة عاثرة النهوض كان الحنث باليمين وخفر الذمة ونكث العهد في صدر الأدواء التي يجب معالجتها لكي يمكن أن تعمّر نهضة، وأن يثمر مجهود عام، وأن تتحقق قضية. فوجود المبادىء والتعاليم الأساسية للقضية القومية لا يكفي وحده لتحقيقها. فلا بدّ من العزائم الصحيحة للعمل العظيم. والعزائم الصحيحة لا توجد في النفوس التي غلبت مثالبها مناقبها.
وإنّ داء نقض العهد وخفر الذمة والحنث باليمين هو من أروع الأدواء التي كشفت عنها مجهودات التنظيم السوري القومي الاجتماعي في الجيل السوري. فإن السهولة التي ينقلب بها غير واحد من الناس على يمينه وينقض بيعته، لأتفه الأسباب أحياناً، وأحياناً لدى أول الاصطدامات بين النزعة الفردية ومقتضيات النظام الإداري والعملي، لهي من الظواهر المخيفة المرعبة، التي تهدد كل محاولة من محاولات المجهود العام المنظم لبلوغ بعض الأهداف القريبة أو البعيدة. وإنّ أقلّ نتيجة عامة من نتائج هذه الظاهرة السيئة هي: فقد الثقة بصحة العزائم وضياع الأمل في الإرادة القومية العامة.
اصطدم الحزب السوري القومي الاجتماعي بهذه العقبة وتعرّض لهذا المرض النفسي المتفشي في الجيل السوري الحاضر. وفي كل فرع تأسّس جديداً للحزب كانت قضية نكث العهد والحنث باليمين بكل سهولة من القضايا الأولية التي لم يكن بدّ من معالجتها ومن الاحتياط لها. والمؤسف أنّ حوادث كثيرة من حوادث الاستهتار باليمين لم يمكن تلاقي انتهائها بسقوط عدد من الأفراد، كان يمكن أن يفيدوا القضية القومية الاجتماعية، فريسة هذا الداء النفسي الوبيل. وأخوف ما في هذا المرض أنّ الذين يفتك بهم ويحوّلهم من أشخاص قابلين للتنظيم الاجتماعي والسياسي إلى أفراد لا يعوّل عليهم في العمل القومي المنظم يسيرون، بعد ارتكاب جريمة نكث العهد، باختيال وكبر كأنهم قاموا ببطولة باهرة تستحق الإجلال والتعظيم!
إنّ عدداً من الذين قتل قواهم النفسية داء الاستخفاف بالبيعة واستسهال الحنث باليمين، وسقطوا من صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي لهذا السبب الجوهري، يرفعون رؤوسهم في المجالس والمجتمعات باعتزاز ويطلقون ألسنتهم في القدح في نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي حاول شفاءهم من مرضهم الهدام للمجتمع، كأنهم حائزون على المؤهلات الأخلاقية والمناقبية والحقوقية للحكم على الحزب ونظامه!
وغير نادر أن تصغي المجالس والاجتماعات الخالية من الشعور بالمسؤولية ومن تقدير النظام إلى «أحكام» أولئك المارقين بشيء كثير من الموافقة ومن القبول! فإن تعوّد الناس انعدام النظام والمراجع المحاسبة، السائلة، وممارستهم الانفلات من القيود النظامية ومن المسؤوليات ومن القوة المناقبية جعلاهم يجدون خرق النظام ونكث العهد شيئاً اعتيادياً وقاعدة مألوفة لا غبار عليها! فالذين ينكثون العهد وينزعون اليمين التي في الأعناق بالسهولة عينها التي ينزعون بها الأُرَبة (الكرافات) أو يفكون بها رباط الحذاء حين يخلعون ثيابهم للنوم، يفعلون ذلك بكل دم بارد ويخلوّ تام من الشعور بعظم الفضيحة الأخلاقية والمناقبية التي يرتكبونها، معتمدين على قبول الأوساط الرافضة النظام، الجاهلة خطورته الأساسية في التعمير الاجتماعي وفي التخطيط السياسي، هول الفضائح وحسبانها أعمالاً غير مخلّة بقواعد الشرف وبحياة الوجدان.
إنّ القواعد المناقبية الأولية لكل مجتمع متمدن، بل لكل مجتمع متوحش أيضاً، ترفض مجرد الكذب والبهتان والإخلال بالوعد، فكم بالحري يكون رفضها لنكث العهد المقطوع والقَسَم المشهود.
أجل، إنّ نكث العهد والحنث باليمين يعدّ، عند المتمدنين وعند المتوحشين على السواء، خيانة يأباها الوجدان وجريمة ضد المجتمع وغدراً بالجماعة التي ارتبط بها الناكث بموجب اليمين التي حنث بها. فلليمين خطورة عظيمة جداً في علاقات المجتمع الإنساني وروابطه. وهي بطبيعتها تصبغ الأمور المقطوعة لها بصبغة الواجب الذي لا مفر منه، إذ اليمين توضع للأمور العظيمة دون الصغيرة وللقضايا الأساسية الجوهرية دون المسائل السطحية العرضية. فالإنسان لا يحلف يميناً على أنه سيأكل كل يوم، لأن طلب الغذاء من طبيعة الحياة، ومقتضياتها تدفع الإنسان إلى الأكل من غير الاحتياج إلى عزيمة نفسية خاصة. ولا على أنه سيتاجر أو يتخذ حرفة يكسب رزقه منها. ولا على أنه سيتزوج. ولا على أنه سيركب سيارة إذا أمكنه، ولا على أنه سيلعب بالنرد أو التنس، ولا على أنه سيراسل من يراسله ويقاطع من قاطعه، وغير ذلك مما شاكله. ولكنه يحتاج لحلف يمين للانقطاع عن الأكل حتى الموت، مثلاً. ويحتاج لليمين للتضامن في طلب ثأر، أو في بلوغ مكرمة، أو في دفع عدو عن الوطن أو في قلب حكومة وإنشاء نظام جديد، وغير ذلك مما شاكله من المطالب والأحداث الجليلة المتعلقة مباشرة بعزائم النفوس في ما يختص باعتقادها في ما هو الأفضل والأسمى والأعز من حالات الحياة ومراميها. ولذلك كانت اليمين من المسائل النفسية العظيمة الخطورة. فهي تتعلق بالإدراك والعقيدة وصدق العزيمة في ابتغاء تحقيق المطلب ضمن النظام أو التدبير المقرر.
لا يمكن، إلا في حالة الجهل المطبق، إعتبار اليمين أمراً هيناً الدخول فيه والخروج منه. لأن القَسَم لا يطلب إلا في أمر جلل، ولا يُعطى إلا في ما يُبتغى به تحقيق ما لا ترى النفوس مندوحة عنه ولا ترضى إلا به. وفي الأعمال المجموعية تُعطى اليمين تثبيتاً لعزيمة لا رجوع عنها ولارتباط لا انفصام له إلا بزوال المطلب العام أو بسقوط النظام الذي يبتغي به تحقيقه.
وإننا نرى تقدير الزعيم لخطورة اليمين، وعظم أهمية العمل القومي المنظم لتحقيق العقيدة القومية الاجتماعية ولما يقتضيه ذلك من صحة العزائم، في طلبه من كثيرين مراجعة نفوسهم قبل الإقدام على حلف اليمين ليكون حلفهم بوعي وإدراك تام لخطورة الموقف وما يترتب عليه. ومع ذلك لم يمكن شفاء بعض المرضى من داء الاستهتار وضعف الأخلاق والعبث بالمبادىء العامة.
لا حجّة لمن يحنث بيمينه في الحزب السوري القومي غير ضعف الأخلاق والاستهزاء بالقيم المناقبية، ولا عذر له غير الجهل وفقد الإدراك. ففي الحزب السوري القومي الاجتماعي شرع يضمن لكل فرد حقه كفرد في النظام والعمل والرأي، ولكل فرد يحسب نفسه مظلوماً في أمر أن يطلب المحاكمة العلنية إذا لم تجرِ محاكمة علنية لأغلاطه. فيكون أميناً على أنّ قضيته لا يُبتّ فيها بالخفاء بطرق لا يقرها المجموع. ولكن الذي ينظر في قضيته أمام نحو ستين أو ثلاثين عضواً من رفقائه أو أمام أكثر أو أقل من هذا العدد، على نسبة اتساع البيئة، وتصدر في حقه الأحكام المبينة أغلاطه القانونية والقاضية بفرض قصاص محتمل عليه، ثم يثور ثائره، لأن أنانيته تأبى إلا أن تكون فوق النظام وفوق الحق وفوق القانون وفوق اليمين، وينكث عهده مفضلاً اتّباع أهوائه على اتّباع النظام والحق، أي شيء يمكن أن يقال فيه أقل من وصفه بضعف الأخلاق والعبث بحرمة المبادىء العامة وخيانة الحركة ونظامها وأهدافها؟
أحد القوميين في الوطن حكم عليه بالفصل من الصفوف أثناء وجود الزعيم في السجن الأول فلما خرج الزعيم من سجنه جاء إليه مستأنفاً دعواه إليه، ووضع أمام الزعيم كيساً صغيراً فيه قطع نقود معدنية يبلغ مجموعها كل المترتب على ذلك الفرد من الاشتراك الشهري في المدة التي كان موقوفاً فيها، وقال للزعيم: «لقد حكم عليّ، يا مولاي، بالفصل عن العمل النظامي ومفارقة صفوف الحركة. ولكني لست براجع عن يميني، وإني أرفع قضيتي إلى أعلى مرجع في الحزب. فإذا أيّد حكمه حكم الفصل السابق فقد قضي الأمر. وإذا نقضه وأعادني إلى الصفوف عدت طائعاً ومحافظاً على يميني». إنّ أمانة ذلك الجندي ليمينه ومتانة أخلاقه أنقذتاه من الظلم وشرّفتا يمينه.
ولكن كم هو عدد الذين لمجرد أنّ شيئاً بسيطاً لم يكن على خاطرهم قالوا: «ننسحب من الحزب ولا يهمنا ما يصير»؟ فيرتكبون جرمية خيانة العهد وقطع الرباط النظامي الذي به قيام القضية.
إنّ النظام يضع الحدود للأفراد ليمنع استبدادهم ويلوي عنادهم ويخضعهم للإرادة العامة الممثلة في النظام ومؤسساته. والفرد الواعي، الذي منه خير، هو الذي يحافظ على يمينه مهما حدث مما يعكر مزاجه ويصد بعض رغباته. أما الذي يظن أنّ كل حكم يصدر في النظام ويكبح رغباته ويطلب إجراء الأمور على غير رأيه، أو غير ذلك ما لا يوافق هواه، هو سبب كافٍ لإهمال يمين أدّاها في موقف مهيب أمام قضية عامة مقدسة فهو ناكث مفسد. فإن كان يعلم ذلك فهو خائن مجرم يجب احتقاره. وإن كان يجهل ذلك يؤدب، فإن رفض التأديب فهو ساقط مكابر فضلاً عن أنه مجرم.
حافظوا على أيْمانكم التي في أعناقكم تقلحوا!

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.