"إنتصار الحزب السوري القومي الاجتماعي"
الزوبعة، بوينُس آيرس، العدد 74، 15/3/1944
(من دائرة الإنشاء: لا نجد بمناسبة حلول الميلاد الأربعين من حياة الزعيم، أفضل من الإدلاء بوصف موجز لأهم حدث جرى في سوريا منذ أجيال إلى اليوم، ألا وهو محاكمة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي ومعاونيه من أتباعه في "المحكمة المختلطة"، وإثبات خطاب الزعيم الرائع الذي كان انتصاراً عظيماً ليقظة سورية وحياتها، وقال فيه المحامي يوسف السودا: "لو اجتمعت نقابة المحامين كلها لتضع دفاعاً عن للزعيم لما تمكنت من وضع مثل هذا "الدفاع المجيد" كما شهد الرفيق عبدالله جميل الذي سمع هذا الكلام من الأستاذ المذكور قبل أن يصير قوميًّا اجتماعيًّا، وكان تعليق المحامي مما زاد يقينه بصحة رسالة الحزب السوري القومي، وحمله على الانخراط في سلكه)".
في الثالث والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني سنة 1936 وقفت سورية لأول مرة بعد نحو عشرين قرناً تجاه الإرادات الخارجية وأمام العالم المتمدن مثبتة شخصيتها الصريحة، لحقها الأصلي الأكيد في الحياة والسيادة والاستقلال.
إنّ تشنجات وحوادث كثيرة حدثت في سورية في القرون التي عقبت زوال السيادة السورية في العهد السلوقي، أهمها حوادث العهد الأموي، وحوادث العهد الأيوبي ولكن جميع تلك التشنجات والحوادث كانت خالية من قضية قومية صريحة يصح أن تسمى قضية الأمة السورية وشخصيتها وحقوقها ومصالحها.
كانت هنالك حوادث قضايا دينية وشخصية وقبائلية. وإذا كانت حقيقة الأمة السورية تطل في لمحات من تلك القضايا، فلم يكن ذلك ظهوراً جليًّا لشخصية الأمة وقضيتها القومية الصريحة. ولذلك لم توجد قضية قومية حقيقية للأمة السورية مستقرة في وجدانها، حيَّة في قلوب أبنائها ومتناقلة في أجيالها، فظلت عناصر هذه الحقيقة الاجتماعية الكبرى يلوح بعضها في بعض الحوادث الأخرى ثم يختفي.
لم توجد قضية قومية صحيحة لسورية حتى كان نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولم يدرك العالم أنّ لسورية قضية قومية اجتماعية حتى كانت محاكمة الحزب السوري القومي التاريخية في الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني سنة 1936، أو بالحري محاكمة زعيم الحزب وأعضاء مجلس عمده وعدد من موظفيه في المحكمة الاجنبية المسماة "المحكمة المختلطة".
كان يوماً عظيماً بزغت شمسه على محيط التفّ فيه الشك على اليقين بلغت الشمس رابعة النهار اضمحل الشك، وتأيّد اليقين، وزهق الباطل وفاز الحق فوزه المبين.
وفي هذا اليوم وقف شاب اسمه أنطون سعاده ليقارع قوات عظيمة ويقاتل وحيداً الظلم والظالمين وليلقي على أتباعه دروساً في الإقدام والبطولة الخالدة، ولينزع الخوف من قلب شعبه ويعيد إليه ثقته بنفسه وبحقه في الحياة المثلى والخلود.
لم يكن لهذا الموقف سابقة في كل تاريخ سورية منذ نحو عشرين قرناً. إنه ليس مواجهة مشنقة بعد حكم لم يبقَ مفر منه، بل هو موقف صراع رهيب بين قوتين غير متكافئتين ماديًّا، وأبواب الرجوع والهرب لا تزال مفتوحة ومجال التملص من المسؤوليات واسعاً. وجميع الأمثلة السابقة من تاريخ سورية في الأزمنة الأخيرة تدل على شيء واحد وخطة وحيدة: محاولة التملص والهرب. بل إنّ حوادث متأخرة عن زمن محاكمة الحزب السوري القومي، أثبتت أنّ محاولة التملص والهرب لا تزال الخطة المتبعة في جميع الأعمال السياسية خارج نطاق الحركة السورية القومية الاجتماعية، كما جرى حين تخلّى رجال "الكتلة الوطنية" الشامية عن المعركة بعد نزول الجيش الفرنسي إلى أسواق دمشق في مسألة الاعتصابات في أوائل سنة 1936 وبعد محاكمة الحزب السوري القومي، وكما جرى حين تخلّى أولئك الرجال عينهم عن طلب الوحدة الشاملة لبنان بسبب ضغط الفرنسيين في مفاوضات "المعاهدة" السيئة الطالع، وحين تخلّوا بعد ذلك عن لواء الإسكندرونة وعن الوحدة التامة مع المناطق كجبل حوران ومنطقة اللاذقية ولواء الجزيرة وغيرها، وكما حدث للرجال الذين حاولوا تقليد الحزب السوري القومي في تشكيلاته وأعلنوا ما سموه "الشباب الوطني" ذا فِرَق "القمصان الحديدية" فإن الذين قبض عليهم منهم استعطفوا الدولة المحتلة وأرسلوا عن سجنهم كتباً إلى أصدقائهم يوصونهم أن يكونوا مع فرنسة!
كل هذه الأمثلة المعوجة التي لم يمكن أن تنشىء لسورية قضية، سقطت في الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني سنة 1936 وقام على انقاضها مثال عظيما للاستقامة والثقة بالنفس والبطولة الخالدة.
كانت الحكومة قد أخذت استعداداتها لهذا اليوم، فحظّرت الدخول إلى دار القضاء على كل من لا يحمل وثيقة أو إذناً خاصًّا يخوّله ذلك. ووزعت فرق الدرك والشرطة فى مركز المدينة وحول دار القضاء. وكل الذين رغبوا في حضور المحاكمة، ولم تكن لهم في دار القضاء قضية يتخذونها حجة للدخول اضطروا لطلب مأذونية خاصة. ومع ذلك فقد غصّت المحكمة المختلطة بالناس. فكان عدد المحامين من أعضاء نقابتهم كبيراً، وحضر عدد من رجال القانون والسياسة وجمهور كبير الطبقات العليا وأفراد من جميع أوساط الشعب. وكان بين الحاضرين عدد قليل، نسبة، من السيدات بعضهن كن يتهامسن بالفرنسية. ولما صارت الساعة التاسعة والنصف كانت الأروقة والممرات الملاصقة لقاعة المحكمة المختلطة، قد صارت جسماً واحداً مرصوصاً من الناس.
لم يكن الازدحام في الخارج حول دار القضاء أقلّ منه داخلها مع أنّ المجال أوسع كثيراً. هناك كانت جماهير من الشباب الآتين من كل حدب وجهة يدفعهم دافع يعونه ولا يعونه!.
كانت أشكال الناس المتجمهرين، حسب روحيتهم، كثيرة. كان هنالك كثيرون جاؤوا ليحضروا مشهداً قد يكون في غرابته لذة. وبعضهم جاؤوا لينظروا إلى فئة من "الاغرار" تحاول القيام بأمور لا تعرف عواقبها الوخيمة عليها، وهي تمثل الآن أمام المحكمة لتنال جزاء جهلها وغرورها وغلطها في تقدير قوّتها وقوة السلطة القائمة في البلاد! والبعض الآخر من الناس جاؤوا لأنه لم يكن لهم عمل هام يقومون به. ولم يكن قليلاً عدد الطفيليين.
أما القوميون الاجتماعيون فكثيرون منهم أتوا ليكونوا قرب زعيمهم في هذا الموقف الرهيب، جاؤوا ليهتفوا له وللقضية التي أوجدها، مهما كان من أمر المحكمة ومن نتيجة المحاكمة. ومنهم من أتى "ليرى ما سيحدث". والذين أيقنوا منهم بوخامة العاقبة والهلاك لم يأتوا، بل ذهبوا في وجهات أخرى يطلبون الخمول والسلامة. وعدد قليل من الرفقاء مدرك، واعٍ أتي يملأ نفسه إيمان عظيم بزعيمه وقضيته، هذا العدد أتى دار القضاء، كما كان يأتي قبل السجن إلى مقر الزعيم، يطلب تعليم زعيمه وحكمته. هذا الفريق أتى واثقاً أنّ زعيمه في المحكمة لن يكون غير زعيمه في المجامع الأخرى.
وباكراً في صباح هذا اليوم التاريخي جيء بالزعيم من السجن في سيارة نقل الأشقياء والمجرمين. وجيء معه بالرفيقين الوحيدين اللذين أبقيا موقوفين معه وهما رئيس مجلس العمد وعميد الداخلية نعمة ثابت وعميد الدفاع زكي النقاش، ناظر كلية المقاصد الخيرية الاسلامية وأستاذ التاريخ فيها. وكان الثلاثة محلوقي شعر الرؤوس على عادة سجن المجرمين. وأدخلوا قاعة المحكمة حالما فتحت أبوابها فكانوا أول الداخلين إليها بعد المستخدمين البسطاء المنوط بهم ترتيب القاعة. وأخذت لهم صورة وقد وقف خلفهم جنديان من جنود المحافظة في السجن. وكانت المراكز التي اتخذوها على مقاعد خاصة بالمتهمين الموقوفين.
ثم أخذ الناس يتواردون وحداناً ثم زرافات. وبين القادمين كان رفقاء متهمون أطلق سراحهم بكفالة مالية، ورفقاء غير متهمين أتوا ليكونوا "حاضرين"، وبسرعة امتلأ المكان وصار الوقوف أكثر من القعود. وكثيرون لم يكونوا يعرفون الزعيم صاروا يجيلون عيونهم في المكان لعلهم يتمكنون من معرفة أي هو الزعيم، وكثر الهمس بينهم على من يكون الزعيم. وكثيرون بقوا في حيرتهم وتساؤلهم، إلى أن أطلت هيئة المحكمة بملابسها المهيبة فوقف الناس جميعهم إجلالاً للقضاء.
الهيئة ثلاثة قضاة.. الرئيس، فرنسي اسمه روساه وعضو اليمين، فرنسي أيضاً وعضو اليسار سوري، لبناني المنطقة من بيت رعد. واتخذ المدَّعي العام الفرنسي موقفه مقابل جانب المتهمين. واسم المدَّعي العام هذا فورنياه وهل أيضاً فرنسي. وأمام هيئة المحكمة وفي الصفوف الأمامية من جهة الناس وإلى جانب المتهمين اتخذ المحامون المتطوعون للدفاع عن المتهمين مواقفهم وفي طليعتهم. الأستاذان حييب أبو شهلا وحميد فرنجية المختصان بالدفاع عن الزعيم، ومن جملتهم الأساتذة شارل عمون، الذي اختص بالدفاع عن الأستاذ صلاح لبكي، وإميل لحود الذي أخذ وجهة الدفاع العام من الناحية الجزائية، وشفيق ناصيف، الذي اختص بالدفاع عن رئيس مجلس العمد نعمة ثابت وعبدالله اليافي مدافعاً عن عميد الدفاع ورفقاء آخرين، ومحامون آخرون غير قليلين منهم من آل ذوق ومنه من آل غطاس وآل مارون وغيرهم.
أمام رئيس المحكمة صحائف مكدسة من أوراق الحزب المصادرة بينها نسخة من خطاب الزعيم في أول يونيو/حزيران 1935، ومن تقارير قاضي وتحقيق والمدَّعي العام.
رفع الرئيس رأسه عن الأوراق، وقد أمسك بيده بعضها، ونادى: انطوان سعاده!
لم يجب أحد. فكرر المناداة.. انطوان سعاده! فلم يكن جواب. وصار الناس يتلفتون ويتساءلون، والذين كانوا يعرفون الزعيم صاروا يوجهون إليه نظراً فاحصاً أو حائراً. ولعل البعض ظن أنّ الوجل أحاق بقلب الزعيم فخارت عزيمته وعقل لسانه.
والتفت المحاميان فرنجية وأبو شهلا إلى الزعيم وقالا له: الرئيس يناديك. فأجابهما الزعيم بهدوء تام: لم أسمع الرئيس يذكر اسمي. ولاحظ الرئيس حديث الأستاذين مع الزعيم فسأل مستوضحاً فأجابه الأستاذ أبو شهلا: إنّ المقصود بالمناداة حاضر ولكنه لا يجيب لأنه يقول إنه لم ينادَ باسمه.
فسأل الرئيس.. ما اسمه؟
فقال الزعيم لمحامييه ليبلّغا الرئيس.. إسمي أنطون سعاده.
فنظر الرئيس في وجه الزعيم الهادىء ثم أمر الكاتب بتصحيح الإسم وصدرت المناداة من جديد: أنطون سعاده!
فنهض الزعيم وأجاب.. حاضر!
وشخصت الأبصار إلى هذا الفتى الذي فرض شخصيته وطريقة تفكيره على المحكمة منذ أول احتكاك بينه وبينها.
فسأل الرئيس الزعيم: هل تفهم الفرنسية فأجاب الزعيم نعم. فأخذ الرئيس يشرح قضية الحزب بالاستناد إلى للتقارير والوثائق التي بين يديه.
خلاصة شرح الرئيس أنه قد اكتُشف أمر الحزب السوري القومي وتبيّن أنه يعمل سرًّا لأمور ثوروية ولتغيير شكل الحكم في البلاد، وتعريض سلامة الوطن ولمنع أعضاء الدولة في لبنان من ممارسة حقوقهم المدنية، وأنه يحرّض على كره الفرنسيين مستشهداً على ذلك، بكتاب مرسل من الرفيق جورج حريكة الذي كان طالباً في الهندسة الزراعية في كلية طولوز، فرنسة، إلى الزعيم. وزاد الرئيس إنّ الثورة كانت تتهيّأ بدليل الخرائط وتدابير التشكيلات الحزبية البديعة التنظيم. ولكن أعوز الحزب المال لتحقيق أغراضه، ولسدّ هذه الحاجة قرر الزعيم إنشاء "الشركة التجارية السورية" التي صودرت أوراقها من مكتبها الكبير في شارع "فوش".
وخص الرئيس نظام الحزب وتشكيلاته بدراسة مستفيضة. فقال إن ترتيب التدرج من المديريات إلى المنفذيات إلى العمد إلى الزعيم هو ترتيب هرمي الشكل، وإنه مبني على رأي المفكر السياسي الفرنسي سياس، وبهذا التحليل أراد الرئيس أن يزيل عن الحزب كل فكرة ابتكار أصلي، وأن يردّ أصول تفكيره إلى مصدر فرنسي. أما تشكيلاته وطريقة التنفيذ الحزبية فقال إنها من أدق وأكمل ما عرف حتى اليوم. ورجّح الرئيس أنها منقولة أو مستمدة من أنظمة نشأت حديثاً في أوروبة.
وختم الرئيس شرحه بتوكيد التّهم على الزعيم بتأسيس الحزب والعمل سرًّا ضد القوانين النافذة. وبإلقائه الخطب وعقده الاجتماعات السرية. وبأنه الباعث والمحرك الأول المسؤول عن جميع هذه الاتحادات الرامية إلى توليد كره للمفوضين الفرنسيين وتغيير شكل الحكم، وتعريض وحدة الأرض، وتعطيل حقوق أعضاء الدولة المدنية وغير ذلك. ثم قال إنّ للزعيم الآن حق الكلام والدفاع عن نفسه ولكنه يرغب إليه وإلى جميع المتهمين أن لا يحوّلوا المحكمة إلى منصة خطب إهاجة وتحريض، وأن يحصروا كلامهم في الوجهة القانونية المشتملة عليها الدعوى.
كان الرئيس في أثناء شرحه الطويل يسأل الزعيم بين الفينة والفينة هل يتبع الشرح، وكان الزعيم يجيب بالإيجاب. ولما رأى الزعيم أنّ الشرح يطول ويتناول نقاطاً متعددة أشار إلى الأستاذ حميد فرنجية، الذي كان واقفاً بالقرب منه إلى جانب الحظار، أن يعطيه ورقة فلم يفهم المحامي إشارته فأكبّ الزعيم بسرعة من فوق الحظار ومد يده وانتزع من دفتر الأستاذ فرنجية عدة أوراق أخذ يدوّن عليها ملاحظاته على شرح رئيس المحكمة.
لما فرغ الرئيس من شرحه وتهمه وجاء دور دفاع الزعيم عن نفسه وحزبه، سأل الرئيس الزعيم هل يريد التكلم بالفرنسية فأجاب الزعيم إنه سيتكلم باللغة القومية. فطلب إليه الرئيس أن يتكلم باللغة الفرنسية لأنه يحسنها. فقال الزعيم إنّ الموضوع دقيق وتمكّنه من لغته القومية يجعله أقدر على التعبير عن رأيه بدقة ارتجالاً، فألحّ الرئيس على الزعيم أن يتكلم بالفرنسية، فأجابه الزعيم ذلك الجواب الذي هز المحكمة والجمهور وتجاوب صداه في طول سورية وعرضها.
"حضرة الرئيس، إني سوري وفي بلادي، وإني أقود حركة تحريرية ترمي إلى إقامة السيادة القومية وجعلها مطلقة، فلست أقبل أن أُحمل على الكلام في بلادي بغير لغتي!".
كانت عبارة الزعيم صريحة، قاطعة فلم يسع الرئيس إلا القبول. وعلى الأثر جرى شبه مفاوضة بين الزعيم والرئيس كان الأستاذ أبي شهلا المترجم فيها للاتفاق على كيفية ترجمة كلام الزعيم إلى الفرنسية. وفي الأخير تقرر أن يتكلم الزعيم وأن يتولى الترجمة كاتب المحكمة، وأن تكون الترجمة بعد كل جملة او عبارة تامة المعنى. إنها طريقة سقيمة تعرقل الخطاب ولكن لم يكن بد منها إذا كان يجب إظهار قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي تجاه التّهم وشروح القضاء الأجنبي.
ابتدأ الزعيم خطابه المحكم:
حضرة الرئيس،
إنّ الكلام الذي سأقوله الآن سيكون ضمن الحدود التي تكرّمتم بالإشارة إليها. إنّ كلامي لن يكون وسيلة دعاوة للحزب، ولكنه سيكون كلاماً يتناول نظريات لا بد من تفصيلها لإيضاح العمل الذي قمت به. وإذا اتفق أن ورد في كلامي ما يتعلق بالعاطفة والشعور أكثر من تعلقه بالعلم والعقل، فإني موقن أنكم ستقدّرون الدافع إليه تقديراً صحيحاً وأرجو أن تجدوا لي العذر فيه.
تأسيس الحزب وصفته السرية
قد اعترفت، في جميع أدوار التحقيق ومن بادىء الأمر، وأكرر الاعتراف الآن بأني وضعت مبادىء الحزب السوري القومي ودعوت إلى تأسيس الحزب عليها . وقد أسسته بالفعل وقمت على إدارته بمساعدة معاونيّ الذين اشتركوا معي في العمل كل حسب صلاحيته. ومع أني أسست الحزب سرًّا، واتخذت جميع التدابير والاحتياطات لإبقائه سريًّا ما أمكن، فصفته السرية كانت موقتة كما تنص على ذلك إحدى مواد دستوره (الشائع المحقق أنّ الحزب السوري القومي نشأ سرًّا وبقي سريًّا يمتد وينمو بالدعاوة السرية. وقد اتخذ القضاء الأجنبي هذه الصفة الموقتة حجة لتأييد تهمته أنّ غاية الحزب ومراميه غامضة، ومتجهة إلى المؤامرة والإخلال بالأمن. فكان جواب الزعيم فاصلاً. فلم يقتصر على ردّ تلك التهمة الباطلة بل تعدَّى ذلك إلى الإشارة إلى مرمى الحزب الخطير ونزعته الصريحة وهي: إن الصفة السرية للحزب هي وقتية فقط، إلى أن يقصد الحزب أن يعلن نفسه في الوقت المناسب لأن غايته الأولية هي أن يكون حركة الشعب السوري العامة. وهذه غاية واضحة عظيمة تشهد بسمو نظرة الحركة السورية القومية الاجتماعية وخطورة مطامحها).
وبما أنه لا يمكن الفصل تماماً بين النظرة العامة على الحزب والنقاط الخاصة التي ذكرت على منبر رئاسة المحكمة فسأتناول الموضوع في مجموعه بالنسبة إلى التّهم الموجهة إليّ:
تعطيل وحدة سورية الجغرافية
إني متهم بخرق وحدة البلاد الجغرافية وانتهاك حرمة الأرض.
فأراني مضطرًّا، علميًّا لا بالعاطفة، للقول: إنّ خرق وحدة وطننا الجغرافية وانتهاك حرمة أرضنا قد تمّا بالفعل في سان ريمو وسيفر ولوزان. والمسؤولون عن ذلك هم غير الحزب السوري القومي.
(إنقض هذا التصريح الخطير على المحكمة المتزعزعة الموقف انقضاض الصاعقة. ولو أنّ قنبلة انفجرت في قاعة المحكمة لما أحدثت التشنج والاضطراب اللذين أحدثهما. إنقلبت الأمور كما بسحر ساحر. صار المدافع مهاجماً والمتهم (بفتح الهاء) متهماً (بكسر الهاء) وصار المهاجم مدافعاً والمدعي مدَّعى عليه!
فانتفض المدَّعي العام الأستاذ فورنياه كمن مسّته الكهرباء، حين سمع ترجمة تصريح الزعيم الجريء، وقام يتعرض باعتباط ويقول إنّ المدّعى عليه قد تجاوز حدود الدفاع إلى أمور سياسية لا ينبغي سماعها ولا دخل لها في الدعوى. وأيَّد رئيس المحكمة قول المدعي العام. فردّ الزعيم على موقف الادعاء العام ورئاسة المحكمة قائلاً: "إن قضيتنا، يا حضرة الرئيس ويا حضرة المدّعي العام، هي كلها سياسية. فنحن لسنا هنا لأننا لصوص أو قطاع طرق. بل لأننا حركة سياسية - اجتماعية وهذه التهم الموجهة إليَّ أليست كلها تهماً سياسية فكيف لا يجوز لي أن أتناول نقاطاً سياسية وأردّ على تهم سياسية. وبعد فإن ما أقوله هو حقيقة تاريخية ففي مؤتمر سان ريمو المشهور تم اقتسام بلادنا وتمزيق وحدة وطننا، وفي معاهدة سيفر ومعاهدة لوزان أنزلت بقية الضربات على وحدتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وإيضاح هذه الحقيقة هو من حقي ومن واجبي ليس فقط دفاعاً عن نفسي تجاه التّهم الموجهة إليّ، بل دفاعاً عن وحدة وطني وحق أمتي!" فلمَّا سمع المدعي العام هذا القول ازداد توتر أعصابه واشتد هياجه. وظهر أنّ رئيس المحكمة أيضاً خرج عن هدوئه. وكثر اللغط بين الحاضرين وكثيرون كانوا قاعدين فوفقوا. وتدخّل الرئيس في هذا الجدال وصار يلح على الزعيم ويرجوه أن يغيّر الموضوع. وأخذ جانبه أيضاً المحاميان عن الزعيم الأستاذان حميد فرنجية وحبيب أبو شهلا، وصارا ينصحان الزعيم بالعدول عن هذه النقطة من أجل سير الدعوى بهدوء ومنعاً لإغضاب الفرنسيين وإلجائهم إلى الشدة!! وبعد أخذ وردّ أدلى أثناءه الزعيم بوجهة نظره وموقف حزبه في هذه المسألة أعلن أنه اكتفى بما قال، وأنه ينتقل إلى المسائل الأخرى، ولكنه أظهر عدم رضاه عن الترجمة وعن كيفية إجرائها بصورة تقاطعه في خطابه. والصحيح أنّ الترجمة كانت تأتي سقيمة ومشوَّهة. وأيّد الأستاذ أبو شهلا شكوى الزعيم وقال عن الترجمة إنها "فرنكو - شنواز" أي فرنسية - صينية. وبعد مداولة جديدة تقرر أن يخطب الزعيم بلا مقاطعة، وأن يدوّن الكاتب كلامه ثم يترجمه بتأن ويلقي ترجمته بعد إعدادها كلها. فعاد الزعيم إلى الكلام).
تغيير شكل الحكم
أنتقل، بناءً على رغبة الرئيس، إلى نقطة جديدة، أعني قصد تغيير شكل الحكم.
إن تغيير شكل الحكم الحاضر قد يكون واجباً وضروريًّا لمصلحة البلاد.
فرغبات كل جماعة وحاجاتها تتطور مع الزمن. وهذه القضية التي تشغل عقولنا كثيراً لم يقرر الحزب شيئاً نهائيًّا في صددها. فلا يمكن أخذ الحزب بشيء من هذه الناحية.
(هذا التصريح هو من أجرأ الأقوال وأقواها في القضايا السياسية الكبرى في العالم. فالزعيم لم يفشل تجاه التهمة الخطيرة الموجهة إليه ولم يتراجع قيد حبة في عزيمته. إنه اكتفى بتجريد هيئة المحكمة من كل حجة قانونية على الحزب، ولكنه أثبت عدم رضى الحزب السوري القومي عن النظام القائم في البلاد المضيّع حقوق الأمة وعن أشكال الحكم الطائفي غير المستند إلى سيادة الأمة وإرادتها المطلقة. فأطلق الزعيم بتصريحه قول الحزب وعقد لسان المحكمة).
استقلال التفكير القومي
فيما يختص بالاستنتاج الذي ينسب إلى الحركة التي أقوم بها تقليد حركات أوروبية. أقول: أن لا تقليد عندنا مطلقاً ولسنا ممن يتبعون إشارات وإرشادات الغير. وبعبارة أوضح، لسنا تحت تأثيرات عامل أجنبي. ومن الوثائق التي صارت في حوزة المحكمة يتضح أننا نقاوم التأثيرات والدعاوات الأجنبية.
(من أهم الوثائق التي يشير إليها الزعيم خطابه في أول يونيو/حزيران سنة 1935 قبل اكتشاف القوة المتسلطة في البلاد أمره بما يزيد على ستة أشهر. وقد صودرت نسخ من هذا الكتاب وضمت إلى أوراق الدعوى).
أمَّا ما يظهر في قوانين الحزب من دلائل الروح الهجومية فقد قلت في استنطاقي إنّ المبادىء الأساسية التي تشكّل التعاليم الرئيسية للحزب، هي الشيء الثابت، الراهن الراسخ. وما بقية مواد القوانين إلا وسائل علمية قابلة للتغيير والتحوير، وفي يد المحكمة الآن أدلة تثبت أننا كنا على وشك تعديل هذه القوانين.
وأما ما يتعلق بمسألة كثرة أعضاء الحزب المنتمين إلى المهن الحرة وطبقات العمال فأقول بأن لجمع أبناء أمتي كل الحرية في ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية والاشتراك في الأحزاب التي كل يعتنقون مبادئها. وإننا لا نرى سبباً لمنعهم من الدخول في حزبنا الذي هو حزب الشعب كله.
وإذا كان الأعضاء ذوو بعض المهن قد برهنوا على شدة غيرتهم وتحمسهم لقضية الحزب وعلى فوائد عملية لجهادهم، فذلك يرجع إلى استعدادهم لقبول فكرة الحزب، وإلى نجاح هذه الفكرة بينهم وإلى كثرة عددهم. وعنايتنا الخاصة بهم ليست وليدة السعي لاكتساب تأييدهم في المهمات التي يريد الحزب القيام بها فقط، بل هي ناتجة بالأكثر عن بعض مبادئنا الإصلاحية الرامية إلى تحسين الحالة الاجتماعية - الاقتصادية المؤسفة التي يئن منها الشعب.
الحقوق المدنية والسياسية
تناول حضرة الرئيس، فيما تناول مسألة ممارسة أبناء البلاد حقوقهم المدنية والسياسية. وقد استنتج في شرحه أنّ الحزب السوري القومى يحرم الناس من ممارسة هذه الحقوق. ولما كانت هذه المسالة هامة جدًّا من وجهة نظر الحزب فإني أعود إليها لأردّ على كلام الرئيس.
إنّ تأسيس الحزب السوري القومي قد تمّ في ظروف خاصة أوجبت الأسلوب والصيغة اللذين اتصف بهما. والحالة التي أوجبت نشوء الحزب على هذه الكيفية هي ظروف البلاد الحالية التي تضع مانعاً غير حقوقي يحول دون ممارسة أبناء البلاد حقوقهم المدنية والسياسية. فالأمة المعترف باستقلالها وبأهليتها لهذا الاستقلال، وتمنع فيها الحرية التامة في إبداء الآراء السياسية والعقائد القومية - الأمة التي تخلو من منبر عام ومن حرية تشكيل الأحزاب السياسية هى أمة تحيا ولا شك، في ظروف غير اعتيادية. والظروف غير الاعتيادية تقتضي نهجاً غير اعتيادي، وإني أسست الحزب السوري القومي لتمكين أبناء أمتي من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية المحرومين منها بحريّة وليس لمنعهم من ممارسة هذه الحقوق.
(هذه نقطة انتصار آخر من انتصارات الزعيم في هذه المعركة العظيمة الدائرة بين الحق والباطل المتنكر بزي الحق، إنّ التهمة التي وجّهها رجال القضاء الأجنبي إلى الزعيم بأنه أنشأ الحزب سرًّا، وابتكر له هدا النظام المحكم والطريقة البديعة بقصد حرمان أبناء الشعب من حرية الرأي والقول والانتخاب وغيرها قد ردّها الزعيم عليهم. فهو أوضح في تصريحه المتقدم أنّ السلطة الأجنبية التي أصدرت قوانين استبدادية تحظر فيها تأليف الأحزاب، وتمنع حرية الاجتماع وإبداء الرأي ونشر الآراء هي التي تمنع أبناء الشعب السوري من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية. وإنّ من أغراضه، حين عزم على إنشاء الحزب السوري القومي، أن يعيد إلى أمته هذه الحقوق التي سلبها الأجانب، وإنّ نظام الحزب وتشكيلاته وقوانينه هي لضمان إعادة الحقوق القومية المسلوبة وضبط ممارستها في ما يؤول إلى الخير القومي العام ولمنع مفاسد الفوضى والخلو من الشعور بالمسؤولية ولصيانة تدابير الحزب وإجراءاته من الافشاء والشيوع، ثم تابع الزعيم:)
(لولا هذه الظروف وضرورة اتّقاء الحزب مقاومة المؤسسات والقوات المعاكسة لهذه النهضة لما كان ثمة مانع من نشر الحزب وإعلان أمره في الحال. وأصرف النظر عن تفصيل عوامل أخرى دعت إلى كتمانه.
قد يقال إنّ الأمة تحيا في ظلال حريتها، وإنها تمارس حقوق سيادتها بواسطة مجالسها النيابية. وأجدني مضطراً للتصريح في هذا الصدد أنّ السيادة الفعلية وحقوق مارستها هي في الشعب دائماً. فإذا أقيمت حواجز تمنع الشعب من ممارسة حقوقه كان واجباً عليه أن يبتكر أسلوباً يتغلب به على هذه الصعوبة. وهذا هو تماماً ما فعلناه بإنشاء الحزب السوري القومي سراًّ، وعقدنا الاجتماعات السرية وتنظيم صفوفنا وأعمالنا بهذه الدقة وهذا الضبط.
إنّ حقوق سيادتنا معترف بها رسميًّا بنصوص إنترناسيونية. وهي معترف بها من قِبل الدولة المنتدبة أيضاً. وإنّ حالتنا تحت الانتداب لتضع علينا مسؤولية خطيرة جداًّ أريد أن ألفت إليها النظر بصورة خاصة وهي: إنّ الانتداب وجد ليعطينا المساعدة. والمشورة الإداريتين، وهذا يحتّم أنّ ما وراء ذلك من الصلاحيات هو حقوق محفوظة للشعب المعترف باستقلاله. فإذا كان الانتداب للمساعدة كما ذكرت، فالواجب
الواقع علينا، نحن المنتدب علينا، هو واجب النمو القومي - نمو النضج الحقوقي والقوة القومية على أساليب تحفظ لنا روحيتنا الأصلية. ونحن بإنشائنا الحزب السوري القومي، نقوم بهذا الواجب ونعاون الدولة المنتدبة في مهمة التوقيع نحن نؤدي هذه المعاونة بالارتقاء بأنفسنا والاضطلاع بمسؤلياتنا.
(هذه أول مرة يحدد لنا فيها مفكر قومي ماهية الانتداب وحقيقته وحدوده هذا التحديد الحقوقي الدقيق، ويظهر للشعب السوري واجبه وكيفية القيام به. وقد أظهر هذا التحديد عمق نظر الزعيم في القضايا الحقوقية والسياسية القومية والإنترناسيونية وسموّ الروحية التي ينظر بها في هذه القضايا. وبهذا التحديد الجلي أوقف الزعيم القضاء الأجنبي عند حدود لا يمكنه تجاوزها من غير التعرض لفضيحة مخزية تزيل الهيبة التي يحاول الوسائل الممكنة الاحتفاظ بها تجاه الشعب السوري المنتدب عليه وتقويتها قي عينيه. ولا حاجة للإفاضة قي أنّ هذا الموقف العظيم الذي وقفه الزعيم تجاه ادعاءات القضاء الأجنبي جعل سيطرة نظرة الحزب السوري القومي على مجرى القضاء سيطرة تامة).
نفي مبدأ كره الأجنبي
ليس في حركتنا مبادىء كره للأجنبي. فنحن لا نعمل بالمبدأ المعروف في العالم "بالكسنفوبية" ولا تدفعنا دوافع "الشوفنزم". كلا.
إنّ مبادئنا تعميرية بحتة وغرضنا جعل بنائنا الاجتماعي متيناً وجميلاً.
البواعث على إيجاد الحزب
إنّ البواعث الايجابية التي دفعتني إلى إنشاء الحزب، عدا ما قلته في صدد ممارسة حقوق السيادة، هي وضع حد لفوضى العقائد القومية في المجتمع السوري وتوحيده في عقيدة كيانه ومصلحته، وصرفه عن التخيلات العقيمة والأوهام الاتكالية إلى التفكير العملي والعمل والنهوض بالذات، وتعويد النشء خصوصاً ممارسة الحقوق والواجبات القومية والفضائل التي توحّد المجتمع وترقّيه في نظرياته وأنظمته، وقيادة النشء إلى النظام والتمرن على استخدام مواهبه في سبيل ترقية أمته وفي سبيل معرفة الواجبات العامة والاضطلاع بالمسؤوليات.
من أجل تحقيق هذه الغاية جزمت في جعل الحزب كله "ميليشيا" منظمة يتعلم فيها الشباب فضائل الجندية ويتهيأون للعمل والتضحية، بدلاً من الانصراف إلى أوهام الكسل والخمول، هذا هو الدافع الأولي لإنشاء هذه الدائرة الخاصة التي سميت "عمدة الحربية".
لقد أردنا النظام، والنظام لا يكون بلا قوانين ولا يتم إلا بتعيين الحقوق والواجبات.
الوقاية من المشاغبات
النظام من طبيعته الابتعاد عن المشاغبات. ففي كل المدة التي مضت على إنشاء الحزب السوري القومي حتى الآن لم يقم هذا الحزب بإحداث أي شغب، بل قد كان الحزب مانعاً وواقياً من المشاغبات المخلّة بالأمن العام، بفضل متانة نظامه واخضاع وتنظيم قواته لتهذيب وتأديب دقيقين.
إنّ للحزب السوري القومى غاية فوق المشاغبات الاعتباطية. وإلى هذه الغاية السامية أردت توجيه قوى شبيبة أمتي ضمن نظام الحزب وتحت تأثير تعاليمه.
تشجيع تنوع المزايا
أنتقل الآن إلى بحث نقطة تتعلق ببعض ما هو مكتوب في مذكراتي الخاصة وبعض رسائل واردة إليّ.
الحزب من حيث هو مجموع أفراد تتنوع مزاياهم ومواهبهم، لا يمكن تحديد تفكير كل فرد من أعضائه بطريقة تفكير زعيمه في جميع المسائل والقضايا الجزئية أو التفصيلية، أي أنه لا يمكن جعل تفكير كل فرد من أفراده نسخة طبق الأصل عن تفكير زعيمه.
الحزب يجمع عناصر متنوعة ولا يمكن اللقاء على هذا التنوع ولا يجوز تشجيع قتله. هذه الحقيقة توضح مسألة الرسائل التي كانت تردني بين حين وآخر ووصل بعضها إلى هذه المحكمة. فقد وردتني رسائل بعضها من شباب متقدين غيرة ومتحمسين للسيادة والاستقلال القوميين، وبعضها من شباب تعلموا في المدارس السياسية القديمة أنّ السياسة هي فقط في كره الأجنبي، ولذلك صاروا يتصورون أنّ كل عمل قومي سياسي لا يمكن أن يقوم إلا على كره الأجنبي.
ومن هذه الرسائل ما كان يرد عليّ ملحًّا بالإسراع في اتخاذ تدابير حربية واحتياطات مسلحة، باعتبار أنّ الحرية بدون قوة تصونها هي شيء خدّاع كالسراب. ويجوز أن يكون غالب هذه الرسائل قد كتب تحت تأثير سحر المظاهر العسكرية المسلحة.
مهما يكن من ذلك فإني لم أكن أرى واجبي يسمح برمي هذه الرسائل في سلة المهملات والاستخفاف بتفكير أصحابها، بل كنت أرى الاحتفاظ بها لدرسها وإعطاء التوجيهات المصححة التفكير الوارد فيها. لذلك كنت أسجل في مذكراتي كل نقطة هامة ترد فى رسائل الأعضاء وأرى فيها ما يستدعي الاهتمام. وإذا كنت قد أجبت بعض الأعضاء مثنياً على غيرتهم وشاكراً لهم اهتمامهم بما يؤول إلى نجاح القضية فلا أرى في ذلك جريمة.
(بهذا الجواب ردّ الزعيم على استنتاجات رئيس المحكمة الخاطئة من رسالة الرفيق جورج حريكة من فرنسة الحاملة على فرنسة وسياستها في وطننا، وبعض رسائل أخرى تطلب جمع السلاح بسرعة. وأهم نقطة تمسك بها رئيس المحكمة هي أنّ رسالة الرفيق حريكة تدل على نوع التعاليم التي يلقن الزعيم أتباعه العمل بها. وتطرّق الزعيم بعد ردّه الوارد آنفاً إلى مسألة الشركة التجارية السورية التي لم يقع في يد المحكمة سوى الأوراق التمهيدية لها فقال:)
هناك نقطة تتعلق يإصدار مرسوم يإنشاء شركة تجارية تمد الحزب وتغذيه وتسد حاجياته المالية. إنّ الورقة المكتوب عليها هذا المرسوم ليست ورقة حزبية رسمية ولا تحمل توقيعاً ما. ولذلك هي عديمة القيمة.
أما الرسالة المنسوبة إلى السيد أسعد الأيوبي فأقول إنها لم تنشر بقرار حزبي أو بواسطة الحزب وهي لم تعرض عليّ بصفة رسمية. فإذا كنت أظهرت بعض الاستحسان لها فذلك رأي إجمالي شخصي. ولذلك لم أتبنّ هذه الرسالة.
السلاح والفدائية
من جملة النقاط الواردة في دفتري مسألة السلاح ومسألة فِرق الصيانة والفِرَق الفدائية في الحزب.
في هذا الصدد أقول إنّ هذه المسائل هى من جملة أفكار وآراء وخواطر كنت أدوّنها لتحليلها ودرسها من جميع وجوهها. ولكني أقول بصورة قاطعة إنه لم يكن لدينا في الحزب مستودع نجمع فيه السلاح ولا رجال مخصصون لجمع السلاح، ولم يتجمع لدينا سلاح ولم نستعمل السلاح.
الحزب ضد الدعاوات الأجنبية
أختم كلامي مكرراً إنّ الحزب خالص من كل نفوذ أجنبي، وخطابي الرسمي الموجود الآن بين يدي المحكمة يقيم البرهان القاطع على أننا ضد الدعاوات الأجنبية نحاربها بكل قوانا، وإننا نعمل لاستقلالنا بصفتنا أمة معترفٌ بأهليتها للسيادة وبحقها فيها.
إنّ الحزب السوري القومي هو حزب تعميري نظامي بحت وهو يعمل بجميع الوسائل المبتكرة لتمكين أبناء الأمة السورية من ممارسة الحقوق المدنية والقومية في ظروف حرجة.
ولم يكن المقصد أن يكون هذا الحزب سريًّا دائماً. فهو ليس جمعية إرهابية، ولا هو مجموعة أفراد محدودة عقائدهم تتعلق بهم وتقتصر عليهم.
مبادئنا هي مبادىء قومية عامة لأمة بأسرها، ونحن ننتظر إقبال العموم عليها، لأن التعمير من جهات أربع: الاجتماع والاقتصاد والنظام والسياسة، هو عمل جدير بأن يجد التأييد اللازم ووجوده ضروري وواجب، وهو ضمن نطاق جميع الحقوق المدنية والسياسية للشعوب الحرة.
واني أشكر حضرة الرئيس لسماحه لي بالوقت الكافي لإبداء هذه الإيضاحات وآسف لأني لم أتمكن من إجابة طلبه إليّ أن أتكلم باللغة الفرنسية.
(فرع الزعيم من خطابه الساعة الثانية عشرة تماماً، وكان كاتب المحكمة ومخبرو الجرائد قد دوّنوا كلامه تدويناً تقريبيُّا. فالزعيم كان يتدفق في بعض النقاط تدفقاً فلم يمكن أخذ عباراته بحرفيتها. وبما أنّ الوقت كان ظهراً، رأى رئيس المحكمة رفع الجلسة للغداء ولإعطاء كاتب المحكمة، الوقت الكافي لوضع الترجمة الفرنسية. فلما رفعت الجلسة وانسحبت هيئة المحكمة، تعالى هتاف القوميين والناس الموجودين في القاعة بحياة الزعيم، وأقبلت الجماهير تشكر الزعيم على دفاعه الجريء القوي الذي رفع رأس سورية بعد أن كان منخفضاً.
ومن أروع مظاهر هذا الحدث العظيم الذي نفخ روح الثقة في أمة يائسة أنّ عدداً من السيدات اللواتي حضرن الجلسة تقدمن إلى الزعيم، وهو بعد واقف في مكانه، يمددن إليه أيديهنّ، فمدّ الزعيم يده إليهنّ فتناولها بعضهنّ وجذبنها إلى أفواهنّ يردن تقبيلها، ولم يمكن للزعيم جذب يده قبل أن وقعت عليها بعض قِبَل فيها كل معاني الشعور باليقظة.
في اليوم التالي ظهرت صحف بيروت تحمل كبراها خطاب الزعيم فحدث من جرائه ذاك الاهتزاز العظيم في طول سورية وعرضها فانفتحت قلوب كثيرة للإيمان القومي الاجتماعي الجدير الذي أعلنه ونشره أنطون سعاده).