19/10/1943
أيها الرفيق العزيز والأب المحترم،
تسلمت كتابك المؤرخ في 29 سبتمبر/أيلول الماضي المرسل إليّ بالبريد الجوي، وسررت كثيراً بانضمامك إلى صفوف العاملين في حركتنا لقضيتنا المقدسة. وقد ارتحت إلى رغبتك في التحدث إليّ في مسائل متعددة تتعلق بسير الحركة ومستقبلها. وكنت أود أن أجيب على جميع النقاط الورادة في كتابك بإسهاب، ولكن ضرورة الظروف الحاضرة توجب الاختصار، وحضرتك قادر على استخراج الإسهاب من الإيجاز.
قد استحسنت، أيها الرفيق الكريم المحترم، أن تخاطبني بمودة الإخاء وليس في ذلك إساءة. أما الأسباب التي قدّمتها لتفضيلك نعت الأخوة على لقب الزعامة فقد تكون غير موفق في اعتمادها، لأنّ «الأخوة» في عرفنا، نحن السوريين، هي مناداة اجتماعية عامة لا ترمز إلى شيء خاص ولا إلى فكرة معيّنة، واضحة. واستعمالها بكثرة في جميع الحالات والمواقف جعلها مبتذلة. ومع ذلك فأنا لا أكرهها وأحبها عندما تكون صادرة عن مودة حقيقية. وكما أنّ في الأخوّة معاني غير موجودة في الزعامة والرفقة، كذلك في الزعامة والرفقة معانٍ غير موجودة. وأحب أن تتنبه إلى أن المعاني الروحية العظيمة الموجودة في زعامتنا ورفقتنا لا يقوم مقامها شيء في عهدنا الجديد.
لم أستغرب أنّ حالة الاجتماعات لم تعجبك، فأنت تريد بحث المسائل السياسية، والاجتماعات العمومية غير مخصصة لهذه المسائل. والإدارة عندكم رأت أن تكون الاجتماعات تعليمية في العقيدة ومزاياها وفي الخطوط الأساسية الواردة في خطب الزعيم وتصريحاته، باعتبار أنّ خطب الزعيم ليست مجرّد خطب منها قديم ومنها جديد. والتوافق الفكري والوحدة الروحية في الحزب لا يقومان بدون الاطلاع في هذه وفهمها ضمن قواعد الحركة، وليس بالتأويلات الخصوصية الناقصة. وقد تعلم أنّ انتقال الزعيم من بلاد إلى بلاد، لا يبتّ فيه في اجتماع عمومي في مديرية من مديريات الحزب العديدة بناءً على الأسباب التي يبديها بعض الرفقاء والتي قد تكون جوهرية في ذاتها، بل لاعتبارات تقرر في مكتب الزعيم ويحسن أن لا تكون مشاعاً على ألسنة الرفقاء. وكم كان أفضل لو أنك أعلنت للمنفّذ العام الأمين فخري معلوف عزمك على ذكر مسألة إمكان انتقال الزعيم إلى أميركانية في رسالتك إليّ فلا يبعد أن يكون أشار عليك بعدم إبداء هذا الأمر حرصاً على سلامة العمل والمعلومات.
تنتقل، أيها الرفيق العزيز والأب المحترم، في كتابك، من المعلومات إلى «بحث» أمور تتعلق بموقف الزوبعة وسياستها في هذا الوقت. وقد ظهر لي من عرضك أنك غير مطّلع على السوابق والأسباب، وأنك متسرع في الاقتناع والحكم في هذه المسائل. والحقيقة أنه لا يمكن حمل مثل هذه الأقوال: «فلماذا التناول من الشخصيات أحياءً وأمواتاً. ولم تلقّب الزوبعة كل غير قومي (وقد يكون المعنى كل غير منضم إلى الحزب) بالخائن. ألا يجوز لزيد ما يجوز لعمرو، الخ» على غير هذا المحمل. فهل أنت على يقين أنّ هنالك «تناولاً من الشخصيات»، وأنّ الزوبعة «تلقّب كل غير قومي بالخائن؟» فإذا كنت موقناً فلا أتردد في القول لك إنّ يقينك غير مبني على أسباب كافية واطلاع وافٍ وروية في الأمر.
وأود كثيراً أن تعير اهتماماً كلياً إلى أنّ هنالك مسائل وقضايا لا يمكن حصر النظر فيها في دائرة «العداوة» للحزب أو عدم العداوة، كمسألة طلب وصاية وحماية وما شاكل. وإذا كان الرفيق جبران مسوح حمل على إذاعة صاحب السمير في هذا العدد حملة قوية دفعته إليها قوة عقيدته وشدة غيرته فهو قد أظهر موقفاً يقفه اليوم مئات وألوف ليس من الحكمة الاستخفاف بشعورهم وأفكارهم. وجبران قد استعمل الحق الذي تدافع عنه بقولك إنه «يجوز لزيد ما يجوز لعمرو». وهذا يعني أنك لست مجرّداً من حق إبداء رأيك في موقف جبران على صفحات الزوبعة أو غيرها. ولكن إذا خطر لك أن تفعل ذلك وأجزت لأخيك هذا أن ينصحك، فنصيحتي أن لا تتخذ حادث فوز هارون وأسبابه مستنداً، فلا وجه للقياس بين تهمة وجود كمية من الدم الزنجي في أحد من الناس وقضية طلب الحماية لأمة تريد الاستقلال وتبرهن بنهضتها القومية الاجتماعية على أهليتها له.
وماذا أقول في قولك: «فماذا أفادنا الطعن بالقروي حتى وبشعره أيضاً. ألم يبعد عنا القروي ومريدون، وماذا أفادنا الطعن بفلان وبفلان وفلان؟، الخ». إنك تحلّ الوهم محل الحقيقة والحقيقة محل الوهم. فهذا الكلام كان الأصوب أن يوجه إلى القروي وأبي ماضي وفلان وفلان. فهم الذين قابلوا الحلم بالجهل، والرصانة بالتهجم، والتودد بالصلف، والصداقة بالعداوة، وكل واحد منهم حدث وكتب وخطب داساً وطاعناً قبل أن يخطّ أحد من القوميين سطراً واحداً يمسّ شعور أي منهم. وأما قولك «لو كان كل ما نشر في الزوبعة مدعوماً بالبرهان السديد»، فقول يحتاج إلى تحقيق في صدد الأمور التي عرضت لها، مع اعتبار أنه يجوز أن يكون لبعض الكتبة حجج أقوى من حجج البعض الآخر في النقاش.
ثق، أيها الرفيق العزيز، أنه لم يكن شيء أشد ألماً للزعيم من اضطرار الزوبعة واضطراره شخصياً، أحياناً، للدخول في مسائل كان يجب أن نكون في غنى عن الدخول فيها. وليس شيء أحب إلى قلبي من سلوك طريق التفاهم، التي يدل تاريخ حزبنا على أنها الفاعدة الأساسية التي اتخذتها وسألت رفقائي اتخاذها. ولكن موقفنا كان موقف المضطر لا المختار. ولا يستطيع رشيد الخوري ولا إيليا أبي ماضي، مثلاً، إنكار ما بذلت من المسعى، لتقريبهما من روح الحركة، ومن الصبر على غمزاتهما وإساءاتهما، إلى أن خرجا إلى اتخاذ موقف العداوة الصريحة والمجاهرة بالمقاومة.
عملاً بهذه القاعدة ـــ قاعدة التفاهم ـــ أطلب منك، يا رفيقي العزيز، أن تتروى في انتقاداتك، وأن تتوخى التفاهم لا الاقتناع بالاستنتاجات الخصوصية والوصول إلى بناء أحكام سريعة عليها. وقبل أن نطلب التفاهم مع الذين خارج الحركة، يجب أن نتفاهم وأن يكون تفاهمنا تاماً داخل الحركة. ولذلك أحب أن أراك تستعمل الصبر والروية والحزم تجاه ما تراه وتسمعه في داخل الحركة، كما في خارجها، وأن تتخذ، قبل كل شيء، قاعدة أنّ الرأي رأي لا حكم. وطريقة إبداء الرأي هي غير طريقة لفظ الحكم.
كل رأي وكل اقتراح مدعوم بتحليل ودراسة يوصلان إلى نتيجة أخيرة يقبل بكل سرور ضمن شروط الرأي والاقتراح وينظر فيه ويعطى حكمه. أما إذا كنت تظن كل شيء في الحزب مخالف لنظريات عملت بها أمراً غير جائز أو غير صالح، فإذا سلّمت به لك أنا كأخ يحبك فيصعب كثيراً تصور أنّ المنظمة القومية الاجتماعية تقبله، وأنّ مجموع القوميين يقرّه. أعود فأكرر وصيتي أن تتروى وأن لا تجزع لحالة قد تنتهي على غير ما تتصور وبطرق غير التي تخطط، إذا وقف المجموع القومي الموقف اللازم. وأقول «قد» لكي لا تكون توكيداتي شديدة الوقع عليك.
لا أرى شيئاً في ما أبديته في كتابك يستوجب المحاكمة أو الطرد حتى ولا التأنيب. وأحب أن تعلم، يا رفيقي، أنني لا أتساهل البتّة في أمر أي قومي كان ووجوب ممارسته حقوقه، وأنه ليس هيناً عندي وعند النظام القومي الذي يربطنا في الحق والواجب ظلم أحد أو خسارة رفيق مخلص، غيور، مفيد. فلا يطرد أحد من الحزب بخفة أو لغير أسباب موجبة. مهما كان وضيعاً أو رفيعاً، ولا يشهّر أحد، لا ضرر من ترك أمره مستوراً. وكما أنه لا خفة عندنا في النظر في الأفراد المرتبطين بنظامنا وعقيدتنا، كذلك نود أن لا نرى خفة في تقدير الأفراد لرابطتهم في المنظمة. لم أجدك فعلت حسناً في إثارة مسألة «انسحاب» أو «طرد». فهذه أمور يجب أن تكون سهلة وطفيفة وهيّنة بهذا المقدار. ولا يجوز التسرع في الحكم على ما ظهر من طرد وغيره بدون معرفة الأسباب وبدون إقرار أنّ أصحاب المسؤوليات لهم تقدير في الأمور غير تقدير الخالين من المسؤولية.
إذا قُدِّر والتقينا فلست أشك في أنك ستغيّر كثيراً من مواقفك واعتباراتك بما يمكن أن أشرحه لك. وإذا قُدِّر غير ذلك فأشير عليك في هذه الظروف أن تقترب من المنفّذ العام الأمين معلوف وتباحثه في ما يخطر لك، بروح التفاهم والغيرة على النظام. والتفاهم يقتضي وجود الاستعداد لتغيير الرأي الذي يظهر عدم صوابه أو ضعفه أو عدم ملاءمته للغاية الصريحة والقاعدة المقررة بناءً على الإرادة العامة ضمن النظام، ولا يكن عندك شك في أنّ صدري مفتوح لكل ما تحب أن تبثّنيه، سواء أردت أن يكون كلامك لزعيمك أو لأخيك.
أتمنى أن يصل كتابي هذا إليك وأنت معافى وبخير وصفاء. زوجتي تشترك معي في قبول اهتمامك الجميل وفي إهدائك السلام الجزيل. ولتحيى سورية .