مكتب الزعيم، 22/5/1945
أيها الرفيق العزيز،
كنت أرتقب الفرصة لأكتب إليك في أشياء في نفسي فقد وصل الدور إليك، وكنت على وشك الكتابة في ختام الأسبوع الماضي أو في مطلع هذا الأسبوع، وإذا بكتابك الأخير المؤرخ في 18 مايو/أيار الحاضر يصل إليّ لينبهني إلى تقصيري القبيح في أداء الواجب القومية وواجب الوظيفة التي أنا فيها.
الحقيقة، أيها الرفيق العزيز، أني بتّ أشعر بخجل شديد من جراء تقصيري نحوك ونحو مديرية خوخوي الموقرة. وكم صرت مديوناً لك وللرفقاء الذين تعبّر في كتابك عن موقفهم في صدد تأخيري وإهمالي، فقد ذكّرني ذلك حقيقة، ما كان يجب أن يكون لها ذاك النصيب من الإهمال الذي أصابها من تفكيري وتقديري وتخطيطي، وهي: أنه لا يوجد، في نظر الجماعات، لا ماضٍ ولا مستقبل، وأنه ليس للمرء إلا الساعة التي هو فيها.
قد لا تكون هذه أول مرة أنبَّه فيها إلى واجبي القومي وواجبي النظامي، ولكن المرء ينسى غالباً التأنيب الذي مضى عليه وقت. وكتابك يذكّرني بأنه يجب أن لا أظن أنّ ما مضى قد مضى، وأنه عند كل تقصير يمكن أن تأتي وخزة تنبّهني إلى ما تسوّل لي نفسي إهماله، فيجب أن أحفظ ذلك جيداً، وأن أتمم واجبي اتقاء للوخز الذي لا يليق أن يعرّض نفسه إليه من كان ذا مقام كمقامي، وأن أحفظ، فوق كل ذلك، أنّ الزعماء والقادة، مهما كان لهم من كرامة وحرمة، فإنما هم بشر عاديون، وأنهم عرضة للوخز والتنبيه والمحاسبة والتأنيب كلما سوّلت لهم نفوسهم الاتكال على حرمة الزعامة لوقاية أنفسهم من الحساب على تقصيرهم في أداء الواجب، كما كان دأبي في الماضي، وكما لا يزال دأبي في الحاضر، على الرغم مما وجّه إليّ من تنبيهات سابقة وعواقب لاحقة.
وكتابك يريني أيضاً أن من العبث تعليل نفسي بستر تقصيري وإهمال ما أنا مطالب به بستار الاتجار لتأمين حياة عائلتي وحياتي، ووقاية نفسي من ذلك المصير السيىء الذي وصفه ذلك البدوي، زهير بن أبي سلمى، بقوله:
ومن لم يزل يسترحل الناس نفسه
ولا يعفها يوماً من الذل يندم
وصرت الآن أدرك أنّ كتبي التجارية إلى عملائي لا تشفع في تأخيري أو تركي الكتابة إلى رفقائي، وأنها، بدلاً من أن تشفع، تدعم انتقادات منتقديّ وتبيّن من عيوبي ما كان الأرجح أن يبقى مستوراً لولاها.
وكنت في الماضي أحلم أحلاماً في الزعامة والسلطة وتأخذني خيلاء المجد، حتى صرت أتوهم أنه لا يجوز أن يخاطبني الأفراد وموظفو المديريات بمثل اللهجة المستعملة في كتابك، ويظهر أنّ التجارة قد أدخلت عناصر جديدة في تلك الأحلام والخيلاء، فصرت أستبعد كثيراً وأنا أشتغل وأعمل أنا وزوجتي في المحل التجاري، مهملين ترتيب بيتنا وجميع أسباب الحياة الاجتماعية ومطاليب الحياة العائلية، أن أدعى للمحاسبة على واجباتي النظامية التي صرت، حسب ميولي وما أنا مفطور عليه، أهملها وأتراخى فيها.
وكان من جملة تخيلاتي في الزعامة، التي ورثتها من تقاليد شعبنا الاجتماعية في عصر الانحطاط، أني لم أكن أتصور أنه يجوز لمديرية أن تدعو الزعامة إلى النظام ووجوب التقيد به، وكنت أتوهم أنّ أية مديرية يجب أن تكون سعيدة بالحصول على أي التفات وعناية بها من الزعيم، الذي لم أكن أظن أنّ واجبات وظيفته الرئيسية هي العناية بشؤون المديريات واحتياجاتها الطباعية وغيرها، إذ كنت أتوهم، وبعض التوهم إثم، أنّ عمل الزعيم يختص، في الدرجة الأولى، بشؤون الحركة القومية السياسية العليا وبمسائل القضية القومية الفكرية الأساسية، وأنّ ما يفعله فوق ذلك يكون علاوة على عمله وواجبات وظيفته النظامية. وظننت، وبعض الظن إثم أيضاً، أنّ المسؤول عن تجهيز احتياجات المديريات القومية الاجتماعية وتأمينها هو النظام القومي كله في مراتبه وتشكيلاته، وأنه ليس مطلوباً من الزعيم، في هذا النظام، إلا ما هو من حقوق الزعامة وواجباتها، وأنه في حالة اختلال النظام، كما هو الواقع في صفوف المنضمين إلى الحركة السورية القومية الاجتماعية في هذه البلاد، فإنّ كل عمل يقوم به الزعيم للتعويض عن النقص في أية جهة من جهات الإدارة المحلية يجب أن يقابل بتقدير وشكر خصوصيين، وأنه يجب على بعض المديريات أن لا تنسى أنّ هنالك مئات المديريات الأخرى ترتقب استماع صوت القيادة العليا في القضايا والمشاكل التي تواجهها الحركة السورية القومية الاجتماعية من غير أن تنتظر أن يكون للزعيم اتصال شخصي مباشر بها، لأنها تعلم بما يشبه الوحي أين يجب أن تكون اتصالات الزعيم الفكرية والعملية، وأنّ عملها هي هو أن تفعل كل ما بوسعها لتسهيل تلك الاتصالات لا أن تواصل الزعيم بالمطاليب التي يجب أن يكون من شأن غيره الاهتمام بها، وأن تتعدى تلك المواصلة إلى المحاسبة.
وبناءً على هذه الأوهام، صرت أتخيل الجماعة القومية في أعلى مرتبة من تقديس الفكر الموجه والمسؤوليات، وأنها لا تقلّ عن رمز صورة مثّل بها الألمان شدة احترامهم للمواهب الروحية العالية، وتمثّل هذه الصورة تشييع ميت إلى لحده والجنازة حافلة بالناس وفيهم طائفة من أهل المنزلة وقد وصلت في طريقها إلى الجبّانة خارج المدينة، إلى مكان جلس فيه إلى حافة الطريق الموسيقي الشهير بيتهوفن وهو ينظر في الأفق يناجي ويستوحي. وبدلاً من أن يتقدم إليه البعض لمحاسبته على عدم تأديته واجب التشييع أو لجعله يقف ويحترم مرور ميت كبير، قياماً بالواجب، رأت الجماعة كلها واجبها أن تقف لئلا يزعج مرورها روح الشاعر ويقطع عليه حبل تصوراته!
ولكني صرت أعرف الآن أنّ ذلك أضغاث أحلام، وأن الواقع غير ذلك، فتولاني خجل شديد وارتعت مما وصفته لي من نظرات الأعضاء المشككين، ولم يبقَ لي مناص من الاعتراف بتقصيري وإهمالي وانشغالي بالتجارة عن القضية. فأنا أتقدم الآن بواجب الاعتذار إذا كان بقي لتقديمه مجال.
وهب أنّ عذري قُبِلَ فإني لم أعد مرتاحاً إلى نفسي، ولا آمن أن لا أعود إلى إساءة استعمال وقتي، إذ يحتمل أن أتعرض في المستقبل كما تعرضت في الماضي للإكثار من الاهتمام بالتجارة والإقلال من الاهتمام بالواجب القومي وزيادة رسائلي التجارية على نسبة قلّة رسائلي القومية. ولذلك واستدراكاً لما قد يحدث من هذا القبيل في المستقبل، وخوفاً مني من عظم المسؤولية ومن دقة المحاسبة، أقترح على مديرية خوخوي إذا كانت هي التي ستتولى النظر في أعمال الزعيم وتصرفاته، أو على غيرها، إذا كان غيرها، ما يلي:
أ ـ تأليف لجنة فاحصة من أهل الخبرة والرأي الصائب توفد إلى توكومان لفحص مكتب الزعيم وأعماله وإضباراته والقضايا الموجودة فيه، وتصرّف الزعيم في إدارة المكتب وأعماله.
ب ـ ترفع اللجنة إلى هيئة المديرية تقريراً إضافياً، مفصلاً، دقيقاً يشتمل، في جملة ما يشتمل عليه، على المواضيع الآتية:
1 ـ حالة الزعيم الصحية، وحالة زوجته الصحية، وتقارير الأطباء في هذ الصدد.
2 ـ موارد الزعيم المالية الخصوصية، وموارد مكتب الزعيم المالية.
3 ـ حالة مكتب الزعيم، وفروع هذه الحالة وما تقتضيها.
4 ـ حالة متجر الزعيم، وفروع هذه الحالة وما تقتضيها.
5 ـ حالة جريدة الزعيم، وفروع هذه الحالة وما تقتضيها.
6 ـ كيف يصرف الزعيم أوقاته؟
7 ـ كم ساعة عمل يعمل في النهار، وكم ساعة في الليل، وهل يحتمل جسده أكثر؟ وإذا كان جسده يحتمل أكثر، فكم ساعة يجب أن يضاف إلى عمله حتى يتوازن العمل وقوة الجسد وحالة الأعصاب؟
8 ـ كما ساعة يجب أن يعمل الزعيم في محله التجاري ليتمم واجباته مع الزبائن ويحافظ على استقامة المحل التي هي عماده؟
9 ـ كم ساعة يجب أن يعمل الزعيم في مكتب الزعامة ليستقيم عمل المكتب؟
10 ـ كم ساعة يجب أن يعمل للزوبعة في الكتابة والشؤون الأخرى؟
11 ـ ما هي المسائل التي يجب أن تعطى حق التقدم على غيرها في مكتب الزعيم؟
12 ـ هل يجوز أن يكون للزعيم أوقات قراءة وتفكير ودرس وتأمل في القضايا الكبرى التي تواجهها حركتنا؟
13 ـ تحت عناية ومراقبة مَنْ يجب أن يتمم الزعيم أعماله؟
ج ـ هل يجوز لمديرية أخرى في الحزب، أو لمنفذية، أو لعمدة، أو لمجلس عمد، أو للمجلس الأعلى، أن يؤلف لجنة أخرى لفحص أعمال الزعيم؟
د ـ إذا قررت هيئة حزبية أخرى تفتيش أعمال الزعيم، فلأية هيئة تكون الكلمة الأخيرة؟ هل تكون لمديرية خوخوي، أم للهيئة الأخرى؟
هــ ـ إذا تبيّن أنّ الزعيم سيىء التصرف ومذنب، فأية هيئة تحاكمه؟
وهنالك طائفة أخرى من الأسئلة التي يجب على اللجنة التحقيق فيها، منها: لماذا يمرّ شهران ولا يقص الزعيم شعره؟ ولماذا يمرّ شهران ولا تذهب زوجته إلى طبيب الأسنان ليصلح لها ضرساً انكسر وقوساً سقطت؟ ولماذا لا يتمكن الزعيم من قراءة الجرائد اليومية؟
وآخر مسألة تختم بها اللجنة تقريرها تكون: ما هي المدة التقريبية التي يقدر جسد الزعيم أن يتمكن من متابعة العمل فيها، وفي أية «مزبلة» يجب أن يُرمى بعد أن لا يعود منه فائدة؟
أظن أنه بهذه الطريقة يتسهل كثيراً عملي، ومهما ترونه خلاف ذلك، فإنّ تعلّقي بأذيال الزعامة وولعي بالعظمة الفارغة يحتمان عليّ طلب رضاكم.
منذ مدة غير بعيدة اجتمعت لجنة مديرية بوينس آيرس للنظر في هل يجوز أن يتزوج الزعيم ويصير له عائلة يهتم بها، تأخذ من وقته ما يجب أن يكون بكليّته للقضية. وانتهت اللجنة من درسها بتقديم اقتراح بخلع الزعيم لإقدامه على الزواج، فيمكن اللجنة التي ستتألف أن تستفيد من اللجنة السابقة التي نال اقتراحها القبول العام.
وقبل ختام هذه الرسالة، اسمح لي، أيها الرفيق العزيز، أن أخبرك في صدد كرّاس المبادىء النافد من مكاتب الإدارة، أنه كان قد تقرر من شهور عديدة نشر المبادىء وشرحها في الزوبعة، ثم استعمال الرصاص المصبوب لطبع الكرّاس، ولكن تدبير الزوبعة في بوينس آيرس لم يحقق هذه الفكرة التي عادت وأخذت محلاً، وكان المنتظر أن يكون صدر عدد الزوبعة الآن وفيه نص المبادىء، على أن يجري طبعها كرّاساً على الأثر، ولكن خلافاً ناشباً بين حضرة المنفّذ العام وأحد الأعضاء والتراشق بالتّهم آخذ مجراه، وهو، على ما أظن، من بعض العراقيل. فإذا أحببتم الاشتراك في الرأسمال والهمة فخابروا الرفيق خليل الشيخ الذي هو رئيس «الجمعية السورية الثقافية» وعنوانه على قفا هذه الورقة.
إني مسؤول عن الخلل الحاصل في بوينس آيرس، وقد كادت نفسي تضيق بأغلاطي فلا أطلب إلا الشفقة والرحمة.
سلامي القومي لك ولأهلك ولجميع رفقاء خوخوي، ولتحيى سورية .
عنوان الرفيق جواد نادر
Sr. Jauad Nader
Av. la Plata 2522
Buenos Aires
عنوان الرفيق خليل الشيخ:
Sr. Julio Chaij
Sarmiento 2135
Buenos Aires