جنون الخلود - اكتشاف رشيد سليم الخوري التعصب الديني الـمسيحية والإسلام
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد 101،
(22/2/1941م
وكورك فوق طويل المطا وسرجك فوق شديد القرا
وقد يفسد الفكر في حالة فيوهمك الدرّ قطر السرا
سقاك المنى فتمنيّتها وصاغ لك الطيف حتى انبرا
المعرّي
في الأبيات المتقدمة التي هي من صياغة الشاعر الفلسفي السوري الخالد أبي العلاء المعرّي، وصفٌ شعري بديع لحالة من حالات فساد الفكر تشبه نوعاً ما الحالة التي سنعالجها في ما يلي. ولكي تكون الصورة التي صورها المعرّي واضحة لكل قارى يجب تفسير البيت الأول، ففيه ألفاظ لا يمر بها نظر كل قارى في مثل هذا الاستعمال، ومعناه مشهد رجل وضع الرحل على ظهر الفرس، ووضع السرج على ظهر البعير. ومن كان هذا شأنه لا يكون طويلاً شوطه، سواء أركب الفرس أم ركب البعير. ولا حاجة لتفسير البيتين التاليين فمعناهما واضح.
بلغ رشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي من النظم مبلغاً أجاز نعته بالشاعر. بعد كدٍّ ونَصَب وعرق وتعب، فهو ليس شاعراً مفطوراً على الشعر، بل شاعرٌ، صار شاعراً بالاجتهاد والتحصيل، فهو كان في أول عهده بالقريض، وإلى مدة غير قصيرة، ينظم البيت والبيتين في أي فكرة عامية بسيطة عرضت له، أو القصيدة التقليدية في غزل مبتذل [أو الحماسة] . ويحفظ ذلك كمن يحفظ درة ثمينة. وقد أخرج لنا من هذه الدرر الصدفية ديوانين جمعهما، تواضعاً منه، في ديوان واحد جعله جزئين. هذا الديوان هو الرشيديات، وتكلف الشعر تكلفاً ظاهراً فيه. وإلى القارى أمثال منه:
ــ في معبد ــ
أسرّ لي الصديق وقد رآها جثت في معبد هذي «أنيسه»
فقلت له وهل أمر غريب إذا صلّى ملاك في كنيسه؟؟!
ظل هذا شأن الخوري إلى أن جاء البرازيل المغفور له العلاّمة الدكتور خليل سعاده، وأنشأ سنة (1920) (الجريدة) وأطلق بواسطتها من قلمه تياراً من الشعور الوطني الصحيح كهرب النفوس وأثار فيها الحمية. وكانت مقالات الدكتور سعاده الصاعقية التي حمل بها على الخمول والخيانة والتذبذب في الوطنية والخنوع والاستسلام للأجنبي، وناقش بها موقف المسيحيين من الاستقلال ومسألة لبنان، منذ عهد، (المجلة) في الأرجنتين إلى عهد (الجريدة) في البرازيل، الصورة الأولى للأخلاق الوطنية الصحيحة المنزهة عن كل مأرب خصوصي التي عرفها المهاجرون، وكان من سوء حظ المقيمين ألا يعرفوها حتى سنوات قلائل مضت، والقوة الفكرية الموجهة للأدباء والشعراء والنور الذي قبسوا منه واستناروا به في أدبهم وشعرهم الوطنيين.
لا ينكر إلا كل مكابر أثر الدكتور خليل سعاده في تكوين النفسية الوطنية الجديدة وشق طريق الروحية الوطنية الصحيحة ووضع قواعد العقلية السياسية المتينة.
وقد أصاب رشيد سليم الخوري وإلياس فرحات نصيب وافر من تأثير الدكتور سعاده، وهذا ليس قدحاً فيهما، بل مدحاً لهما، إذ هما شاعران، كانا ولا يزالان يحتاجان إلى قائد للفكر في الشؤون الاجتماعية والسياسية التي يطرقانها بشعرهما فضلاً عن أي شأن من شؤون الفلسفة.
جارى رشيد الخوري الحوادث الوطنية كما كان يرسمها قلم الدكتور سعاده. [كما كان يجاري من قبل الدكتور سعاده، كما سيجيئ1]، ووضع نفسه في مجرى كل تيار عاطفي وطني ونشر كثير من شعره في (الجريدة). وشيئاً فشيئاً أخذت منظوماته تصير وطنية في معظمها ثم وطنية ــــ سياسية، ويظهر في هذه المنظومات تأثره بشعراء العرب ولغتهم وطرائقهم وأساليبهم ومناحي شعورهم.
وليس للخوري أي معرفة حقيقية أو ثابتة بأدب غير عربي، فهو لا يعرف لغات أجنبية، غير البرتغالية التي اكتسبها في البرازيل، معرفة تخوّله قراءة آدابها ودراسة فنونها. وإذا كان قد بلغه شي من هذه الآداب والفنون بطريق النقل إلى العربية فهو ليس إلا وشلاً من بحر وأكثره ممسوخ أو مجتزأ بصورة لا تظهر كل حقيقته وقوّته.
ليس قصدنا هنا إعطاء ترجمة كاملة لحياة رشيد سليم الخوري وشعره، ولكننا رأينا إيراد هذه اللمح لما لها من العلاقة الوثيقة بالطور الجديد الذي يدخله في نظمه ونثره.
ارتقى رشيد الخوري من ناظم أبيات متفرقة مبعثرة يتخذ جوهراً لها بعض أفكار عامية أو اعتيادية أو عارضة، إلى درجة ناظم قصائد وطنية. فصار ينظم في كل حادثة وكل أمر ويؤيد ويمدح كل حركة تنشر الصحف عنها أنها وطنية دون تحيّز، مقتنعاً بأن يكون هدفه تأييد الأعمال الوطنية بلا فارق بين جماعة وجماعة أو بين حزب وحزب إلا حين يستشعر في الصحف نعت «خونة» أو تشهير «خارجين على الوطنية». وكان إلى هذا الحد ناظماً لا بأس بسماع شعره مع الإغضاء عن عواهنه.
ولكنه ما كاد يستشعر تحبيذاً «لوطنية» قصائده حتى أخذت نفسه تحدثه «بالخلود» وأصبح في المدة الأخيرة لا يكاد يكون له همّ آخر في أدبه أو شعره غير طلب الخلود بكل وسيلة. وصار يرى نفسه جديراً جداً بالخلود، خصوصاً بعد أن سمع مديحاً وإطناباً دبلوماسيين من أمثال المير شكيب أرسلان. وسمع العامة تمدح «الشاعر القروي» ومنظوماته «الوطنية»، حتى أنه خرج إلى الدعوى الصريحة. فقال: «وكرّست نفسي لتحرير شعبي»! مُظهراً جهلاً فاضحاً لما تكون مهمة تحرير الشعب وكيف يكون تكريس النفس لهذه المهمة العظيمة التي ينزلها بهذه العبارة الاعتباطية منزلة شي عاديٍ بسيط.
كان التعبير المذكور أول خروج الخوري إلى الدعوى الطويلة العريضة في استحقاق «الخلود» بصفة «مكرّس نفسه لتحرير شعبه». وإذا كان الخلود يأتي بمجرد القول، فقد أصبح رشيد الخوري خالداً الخلود المنطبق عليه.
الولع بالخلود يصير نوعاً من الهوس أو مرضاً نفسياً كمرض جنون العظمة الذي يصيب المولعين بها وبالظهور بمظاهرها. ومما لا شك فيه أن هذا الهوس جعل الخوري يمعن في الدعوى ويطلب المواقف التي يرى فيها ما قد يسوغ دعواه. فهو اليوم لا يريد أن يظهر أمام الرأي العام بمظهر صاحب دعوى، أو على الأقل بمظهر أرخون من أراخنة «القضية الوطنية» أو من أركان «العروبة» فلا يكون من أتباع سعاده مؤسس النهضة السورية القومية. وإرادته هذه تظهر بوضوح في «محاضرته» التي أعدها لمولد النبي محمد ونشرتها صحيفة (الرابطة) ابتداءً من العدد (527) الصادر في (8) حزيران (1940م).
في هذه «المحاضرة» خرج رشيد سليم الخوري من دائرة الإذاعة السرية ضد الحزب السوري القومي، وضد زعيم الحركة السورية القومية إلى الجهر بعداوته والإذاعة علناً طمعاً بالخلود كمدافع عن «العروبة والإسلام» عند الأكثرية المسلمين. ولكي لا يتوهم القارى أن تشخيصنا مرض الولع بالخلود المصاب به رشيد الخوري مبني على استنتاجات بعيدة مأخوذة من دليل واحد مؤوَّل على هذا الوجه نورد هذه الحقيقة:
تحدث رشيد الخوري أكثر من مرة ومرتين، لعدد من أصدقائه، عن خلوده ببيت من الشعر قاله في العَلَم السوري وهو:
إن كنت للحق فلتخضع لك الأمم أو كنت للظلم لا حُيّيت، يا عَلَم
فلننظر في هذا البيت الذي يجعله الخوري أساساً يبني عليه مجده وخلوده: ليس في هذا البيت شعر أو معنى شعري، فهو كلام بسيط لا يختلف عن كل كلام آخر إلا في أنه منظوم. أما فكرته فليست فكرة شعرية، وهي فكرة قديمة وردت في أشكال كثيرة كقولك «العدل أساس الملك».
أما من حيث إنه قيل في عَلَم الشعب الذي ينتمي إليه الناظم فهو إهانة لهذا العَلَم ولشعور الشعب الذي يمثله، ذلك أنه يوحي الشك بروح الشعب الرافع العَلَم وبالحق الذي يمثله العَلَم.
إن النفسية العتيقة الرازحة التي يمثلها رشيد الخوري في أدبه، والتي تظهر في هذا البيت الحقير من نظمه ليس لها وعي يدفعها إلى رفضه وازدراء أدب صاحبه، ولكن النفسية الجديدة القومية الواعية ترى أنه لو قيل هذا البيت في عَلَم النهضة القومية لاستحق صاحبة أن يجلد علناً في الساحات العمومية، ليتعلم احترام إرادة الأمة وتقديس رمز وحدتها وقوتها ومجدها وحقها في الحياة.
وإن أدباً بهذا المقدار من الذلة والشك والحقارة يراه «الأديب من إخواننا في البرازيل» المرجح أنه رشيد الخوري وصاحبه وزميله زكي قنصل، أدباً خالداً يعلو على المعتقدات البشرية، أما الحزب السوري القومي فيراه أدباً سخيفاً يمثل عقلية صبيانية ويرى أن عبء ثقيل على كواهلنا، يجب أن نطرحه إلى الأرض لنسير بقوة نحو مثل حياتنا الجديدة العليا. وأصحاب هذا الأدب أصبحوا يدركون أن نفسيتهم عتيقة، جامدة، لا قبل لها بالتجانس مع النفسية الجديدة والسير معها، ويوقنون أن الصراع الذي أعلنه سعاده، وأشارت إليه (سورية الجديدة) في افتتاحيتها «الصراع بين جيلين، جيل يريد مقوياً ينعش قواه المنهوكة ويساعده على الاستمرار في خصوصياته، وجيل يريد سحق الخصوصيات ويشعر في قوته القدرة على تنفيذ ما يريد» (انظر الجزء 3 الصفحة 285) ليس شيئاً خيالياً غيبياً، بل أمراً حسياً واقعياً. وشيئاً آخر أدركه1 أصحاب هذا الأدب المائت هو أن الحرب بين النهضة القومية والرجعة الدينية ــــ الإقطاعية هي حرب حقيقية لها معاركها وأبطالها وانتصاراتها ولها أيضاً، وهو الشي المخيف لهم، قتلاها وجرحاها وانكساراتها، فعمدوا إلى مباشرة أسباب الدفاع وإعداد السلاح لصد الهجوم.
الحرب بين النهضة القومية ونفسيتها ومناقبها من جهة، والرجعة ونفسيتها وخصوصياتها من جهة أخرى كانت أمراً متوقعاً عند سعاده، لأنه يعرف طبيعة الرجعة ونفسيتها، ويعلم أن أصحاب المكانة المبنية على أساس المناقب التقليدية الفاسدة لن يلقوا سلاحهم ويسلموا الأمر إلى القيادة القومية. وهو يعلم ويقول إنه لا فائدة من التوفيق بين النفسية الجديدة والنفسية العتيقة، وإن الحرب شرط للنصر. وقد أعلن في خطابه إلى الجالية السورية في البرازيل المنشور في العدد (16) من (سورية الجديدة) أنه لا يريد «انتصاراً بارداً هيناً دون حرب».
ولما كانت الحرب بين النهضة القومية وأعدائها، أصحاب الخصوصيات والرجعة، واقعة، فلا بد أن تشمل الأدب أيضاً، لأنها حرب كلّية بين نفسيتين وما فيهما من قوى وعناصر. وقد أيقن بذلك أصحاب خصوصيات الخلود كما أيقن به أصحاب خصوصيات الشهرة والعظمة والمآرب النفعية. وشعروا بالخطر العظيم على خصوصياتهم منذ ظهور أول عدد من (سورية الجديدة) حاملاً الافتتاحية المذكورة آنفاً التي يعلن سعاده فيها الموقف الصريح الحاسم الذي ستقفه النهضة القومية من أصحاب الخصوصيات ومن الروحية العتيقة.
كان رشيد الخوري في عداد أصحاب الخصوصيات الأُوَل الذين شعروا بهذا الخطر على «خلودهم» وقد بلغ الزعيم، حين كان في سان باولو، شي مما يقوله الخوري في بعض المجتمعات ولبعض إخوانه ضد الحركة القومية والزعيم. ثم جاء خبر ما كتبه الخوري إلى أحد أصدقائه في الوطن بشأن توقيف الزعيم هنا، فاكتفى بتكذيبه لــ(سورية الجديدة) فقط مع أن الواجب كان يقضي عليه بتكذيبه لصحف الوطن أيضاً. وسواء أكانَ صحيحاً ما كذبه الخوري أم لم يكن، ففي الاكتفاء بتكذيبه لــ(سورية الجديدة) فقط دبلوماسية يعدّها أصحاب النفسية العتيقة «دهاء» وتعدّها النفسية الجديدة ريَاءً وغشاً. والنتيجة التي تتوخاها هذه الدبلوماسية هي:
1 ) اكتساب رضى الفئات القوية التي تقاوم هجوم الحركة القومية.
2 ) اكتساب رضى القوميين بنشر كلمة تُسْكِنُ غضبهم في صحيفة قومية.
3 ) حفظ خط الرجعة في كلتا الحالتين.
هذه هي خطط تفكير دبلوماسية النفسية العتيقة وهذا هو مبلغ دهائها.
إستمر رشيد الخوري يغتاب الحركة القومية والزعيم على الصورة الموصوفة آنفاً، طول المدة السابقة «لمحاضرته» التي خرج بها إلى الجهر. وإليك، أيها القارى، نسخة من بعض أقوال الخوري:
«ما معنى هجر سوري بلاده، تاركاً وراءه امرأته وأولاده؟ أليس هذا شأن أنطون سعاده، وقد ترك رفقاءه يتحملون ويلات الحالة الحاضرة في الوطن وجاء يتنقل سليماً(!) في المهاجر الأمريكية؟» (وقد أخذ هذه الفكرة عن رشيد الخوري الخائن خالد أديب، من غير أن يعترف بحقوق النقل أو يراعيها).
«إذا كان سعاده لا يؤمن بأعمال الأحزاب السورية الأخرى ورجالها (يعني أصحابه «الدهاقنة» من «الكتلة الوطنية» التي سقطت سقوطاً معيباً في عين الشعب [أو غيرهم من النفسية عينها1] ) فنحن أيضاً لا نؤمن بأعماله».
«لماذا هذه الضجة القوية في صحافة الأرجنتين وفي (سورية الجديدة) من أجل تقديم كتاب جبران مسوح إلى الزعيم في حين أن أحد الشعراء في الأرجنتين (يعني صديقه وزميله زكي قنصل) قدم ديوانه إليّ ولم تشر إلى ذلك صحيفة واحدة؟».
«من أين للقوميين هذا المال الكثير؟» (ولم يبين الخوري مقدار هذا المال الكثير، ولم يكلف نفسه سؤال دائرة التحقيق في سان باولو عن مصدر «المال الكثير»).
«إن رشيد شكور ترك الجريدة أولاً ثم ترك المنظمة» (هنا صار رشيد شكور «وطنياً، عظيماً عند رشيد الخوري، بعد أن كان يطعن فيه عند الزعيم ويقول عنه إنه سخيف وإنه كان يحاول بلع أموال «كتلة الدفاع الوطني» المرحومة، وإنه كاد ينجح في ذلك لولا تدارك الخوري المال وإرسال إياه إلى نبيه العظمة في دمشق).
«إن ماضي أنطون سعاده معروف. وماذا تنتظر من رجل كان يضرب أباه؟..».
هذا قليل من كثير كان يدسه رشيد الخوري في أحاديثه الخصوصية عن الزعيم.
أما سبب هذا الدس فكان ما رآه من عدم وجود محل «لشعره» في النهضة القومية وإظهار الزعيم عدم رضاه عنه. وقد يكون بلغ الخوري أن الزعيم أمر، في اجتماع قومي في برمانا، بمنع قراءة (الأعاصير). [أو قد يكون هناك سبب آخر سينجلي]2 .
وأما سبب خروجه إلى الجهر ضد الحركة القومية فالأرجح أنه خبر من صديقه زكي قنصل يقول له فيه إن الزعيم استشهد ببعض قصائده على الأدب الذي يراه ضاراً بالروحية القومية.
هاني بعل
للبحث استئناف
الـمثُل الدنيا وتكلف الشعر
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد (102)،
1/3/1941م
إذا كان إلياس فرحات شاعراً بالفطرة منعته ظروف مشؤومة من الحصول على ثقافة عالية تفتح له ممراً إلى أسرار النفس الإنسانية، وحالات الاجتماع البشري، وألوان الفن الشعري، فإن لرشيد الخوري فطرة الإنشاد. فهو منشد، لا شاعر. أو إن شعره يتجه بكليته إلى الإنشاد والترنم. وهو كصديقه إلياس فرحات لم يحصل على ثقافة راسخة تكشف له قوة الفن الذي فطر عليه، ولكنه كان أسبق من فرحات وأعظم حظاً في حصوله على صناعة النظم قبله. فسلك طريق النظم وهو يحسبها طريق الشعر. وإن من يتتبع نشأته الشعرية يجد أن «شعره» كان مجرد محاكاة وانعكاس من دواوين الشعر الابتدائي الذي لم يكن له غرض في الحياة أو معنى، غير التشبيب والغزل والمديح والهجو وشي من الحماسة والفخر. وهكذا تراه في «الرشيديات» لا هم له ولا دافع غير تقليد جماعة الشعراء الذين اقتصر شعرهم على ما تقدم ذكره، من أجل «الخلود على الأرض بواسطة المطابع» كما يقول في مقدمته لِــ(الرشيديات).
لو أن رشيد الخوري تبع دوافع موهبته، بدلاً من الاجتهاد في اكتساب موهبة غيره، لخرج شاعراً منشداً يغني ويحمل الشعب كله على غناء جمال سورية وعظمة الشعب السوري. ولكن الإنشاد كان يحسب من سقط المتاع ولا يعد صاحه من ذوي الشأن والمكانة. ولم يكن الخوري ذلك الواعي الخارج على التقليد الشاعر بحاجة الشعب إلى أناشيد حياته فلم يفرق بين ما هو موهبي وما هو كسبي، بل اختلط عليه الأمران فضلّ وأخذ يخبط على غير هدى، حتى بلغ إلى الدعوى ووضع نفسه في غير ما يحتاج إليه وتلزمه موهبته.
في المقال الأول من هذه السلسلة أعطينا القارى نموذجاً من بلادة التقليد المبتذل في نظم رشيد الخوري في أوائل عهده بالقريض (الصفحة 4 أعلاه). والآن لا بد من تقديم مثال من شعره الحقيقي الموهوب له، وهو مما نظمه ووقّعه على العود لينشد وعنوانه «حنين إلى الأوطان»:
لله تلك الجبال تلك الذرى
ذاك المعين الزلال لـمّا جـــرى
تلك الربى والتلال تـلك القرى
«صنين» «ضهر القضيب» تلك القــــــنن
«سهل البقاع» الخصيب «نبع اللــــــــبن»
لله ذاك الغدير ما أعذبـــا
لله تلك الزهور ما أطــــيــــبا
لله تلك الطيور ما أطــربا
من كل شاد عجيب ينفي الشجن
في شدوه للقلوب سلوى ومن
إياكِ يهوى الفؤاد يا أمّــــنــا
من دون كل البلاد أنـــت المنى
هل يا ترى من معاد يوماً لنــا
يا حسن يوم تؤوب فينا السفن
نشتمّ قبل الغروب ريح الوطن
في هذه المقاطع تحس موهبة رشيد سليم الخوري الجميلة التي كان يجب أن تسد فراغاً عظيماً في حياتنا. فأي سوري رأى النور في سورية وترعرع فيها ثم نأى عنها ويسمع هذه المقاطع تنشد ولا تهتز نفسه من أعماقها.
إن المقطعين الأولين من هذا النشيد، ولم نثبتها هنا، ليسا في هذه الدرجة من صدق الشعور وتحرره من التكلف، ولكن هذه المقاطع الثلاثة فيها كل الصدق في الشعور والإحساس بالحياة والجمال.
هذه المقاطع الثلاثة هي كل الشعر الذي يقع عليه متحسس الجمال في الجزء الأول من (الرشيديات) وهو كتاب غير صغير، من شعور الناظم. وهنالك شعر آخر في هذا الكتاب ولكنه نظم شعور إنسان آخر هو الشاعر البرازيلي كازميرو دي أبريو عنوانه: «سنواتي الثماني الأولى» وما تبقى فهو ترديد ممل لمنظومات زمن عتيق واستمرار لمثله الدنيا.
الاستمرار في مُثُل الزمن العتيق الدنيا وتكلف نظم القصائد هما الصفتان الثابتتان في منظومات رشيد الخوري. وشذ عنها في أناشيده فقط، وليس أدل على ذلك الاستمرار وذاك التكلف من سلوكه مسلك الغزل والتشبيب، نسجاً على منوال شعراء العرب المتغزلين. والغزل والتشبيب هما مدار شعور الشعوب غير المثقفة ويغلب فيهما الإحساس المادي على الشعور الروحي. وإذا درسنا جيداً بعض منظومات رشيد الخوري في هذا الباب وجدنا أنه أغرق في المادية وقصّر عن الشعراء الذين حاول تقليدهم وإليك هذا المثال:
ثم ارتمينا فوق أغصان الربى ثملين في الغض الندي كجسمك
وغدوت كالعقد النثير على الثرى أعجزت ألبق شاعر عن نظمك
البيت الثاني، الذي كان ينتظر، بعد التمهيد في البيت الأول وما قبله، أن يكون غاية في المثالية وتفوّق الروحية، ليس سوى مادية مجردة نظمت فهوت بالشعر إلى الحضيض. فيه ترى الحيوانية المادية مجردة حتى من روعة الوحشية. أو قل هي وحشية منحطة، ممسوخة، خلت من سذاجة الوحشية الأصلية وسحرها الطبيعي الرائع فأصبحت حيوانية1 .
وانظر قوله في القصيدة عينها:
يا نحلة دون الأزاهر هجتها من ذاق شهدك لم يخفْ من سُمّك
أي أنه ما رام منها غير قضاء وطره فإذا قضا فلا يهمه غضبها. وهذا واضح ليس بتفسير هذا البيت فقط بل بقوله الصريح في البيت الذي قبله:
فرنوتِ مُغضِبةً إليَّ فصابني سهمٌ فوا شوق الفؤاد لسهمك
وكل همّ الناظم من الفتاة هو أن تكون قد جددت صباه ليشتهيها من غير أن يراعي شعورها بدليل قوله في البيت الأخير:
لا بدع أن جددت لي عهد الصبا برضاك عني تارة وبرغمك
والقصيدة كلها تصور شخصي لحالة خصوصية تتعلق بالناظم وحده. وكان يجب أن تبقى من خصوصياته الداخلية التي لا لوم لإطلاع غيره عليها، لأنها لا تمثل شيئاً يهم غيره من الحادثة التي يصفها.
وإنك إذا حلّلت القصائد التي أراد رشيد الخوري أن يجعلها روحية شعورية وجدت أن فكرتها وصورها مادية، إلا ما كان منها مترجماً أو مأخوذاً معناه عن آخرين. وقد عودنا رشيد الخوري اقتباس كل فكرة أو خاطر لغيره سمعه في مجمع ونظمه، حتى بتنا نشك كثيراً في أن له هو معاني شعرية. يساعدنا على هذا الشك تبلبل أفكار منظوماته وتضاربها وسطحية معظمها. وإذا كان له معانٍ شعرية فهي نادرة في غير الإنشاد.
وكان رشيد الخوري في بادى أمره وقبل أن يأخذه هوس «الخلود»، إذا ترجم شعراً لأحد الشعراء الغربيين لزم الأمانة وذكر الترجمة والمترجم عنه. ولكنه بعد أن أصبح في عرف الصحف، التي لا نقّاد للأدب عندها يصح أن تطلق عليهم هذه التسمية، «الشاعر النابغ» الذي يشير إليه صديق له وللدكتور جورج صوايا في بشمزين، اسمه سليم غازي على هذه الكيفية: «ابتهجت للحفلات النادرة المثال التي أوجدتها لصديقنا «الشاعر القروي» والحق يقال قد سما وحلق وربح الخلود(!!) وكم أبتهج عندما أراك تعزز حلقتنا القديمة المتينة كداود وفلكس وماري ورشيد، إلخ». (من رسالة الكاتب المذكور إلى الدكتور صوايا) ــــ نقول إن عندما أصبح رشيد الخوري في هذه الحالة رأى أن شهرته قد أغنته عن أمانة النقل فصار يقتبس ويترجم وينقل بلا حساب. وقد كشف لنا «محرر الجامعة السريانية» في الأرجنتين الذي يطعن فيه الخوري فيه «محاضرته» المشار إليها لهذا السبب، عن اقتباس أصبح يعد سرقة بعد أن سكت المقتبس على اقتباسه وادعى الابتكار. هو قصيدة رشيد الخوري بعنوان: «الشاعر المبتلى والطبيب» وفيما يلي القصيدة من نظم «القروي» مع القصيدة الأصلية التي اقتبس رشيد الخوري معانيها وبعض عباراتها وهي بالإسبانية للشاعر المكسيكي المعروف خوان دي ديوس بيسا:
«الشاعر المبتلى والطبيب» ــــ لرشيد سليم الخوري ــــ الشاعر القوري:
يا طبيب الخير يا خير طبيب يتداوى عنده القلب الحزين
أو ما عندك للصب الكئيب ظامى الأحشاء ريان الجفون من دواء؟
أيها العاني تنقّل في البلاد فمرير العيش يحلو بالنقل
إنّ في الأسفار سلوى للفؤاد وشفا للصدر من داء الملل شرّ داء
يا طبيب الخير قد عزّ الدواء فلأدع أمري لأحكام القدر
كيف بالأسفار يرجى لي شفاء وأنا قضّيت عمري بالسفر والتنائي
يا غريباً يشتكي مر النوى سوف يشفيك التداني يا غريب
في ربى لبنان للمضنى دوا ورجا إن فرغت كفّ الطبيب من رجاء
يا طبيبي اليوم قد جف السراج وانطفا كل رجاء بالبقا
فالذي تحسبه خير علاج لشقائي هو أصل الشقا والبلاء
بهت الآسي وقد بلّ زناد فكره بالدمع حتى لا شرر
ومضى عني كئيباً ثم عاد مشرق الوجه رجاء كالقمر في السماء
قال يا ابني إنّ للصوت عجب فهو كالبلسم للقلب الجريح
رُبَّ لحن هز ميتاً فوثب مثلما تلمسه كف المسيح بالشفاء
ولقد تلقى بسنبولو فتى شاعراً ينفي عن القلب الهموم
وإذا غنى على العود فتن وجلا عن أفق الصدر غيوم بالغناء
أو ما لي من دواء آخر غير ذا، إن لم يزل عنّي العنا؟
قال كلا! قلت ما اسم الشاعر قال يدعى «المبتلى»! ويلي أنا؟ واشقائي
أو أنت «المبتلى» أنت؟ أجل أنا من ترجو لإبراء السقم
فبكى الآسي معي ميت الأمل ربّ عين خففت عنا الألم بالبكاء
هاني بعل
للبحث استئناف
REIR LLORANDO
Viendo a Garrik - actor de la Inglaterra’
el pueblo al a[ludirlo le decia:
Eres el mas gracioso de la tierra
y mas feliz..., y el comico reira
del spleen, los altos lores
en sus noches mas negras peadas
idan a ver al rey de los actores,
y cambiaban.
Una vez, ante um medico famoso
Ilegose un hombre de mirar som brio:
Sufro ’le dijo’ un mal tan espantoso
como esta palidez del rostro moi.
Nada me ctusa encanto ni atractivo;
no me importa mi nombre ni mi suerte;
en un eterno susplen, muriendo vivo,
y es mi unica pasion la de muerte,
’Viajad y os sistraereis.
’Tanto he viajado!
’Las lecturas buscad.
’Tanto he leido!
’Que os ame una mujer.
’Si soy amado.
’Un titulo adquirid.
’Noble he nacido.
’Pobre sereis quizas?
’Tengo riquezas?.
’De lisonjas gustais?
’Tantas escucho!
’Que teneis de familia?
’Mis tristezas.
’Vais a los cementerios?
’Mucho... Mucho
’De vuestra vida atual, teneis testigos?
Si mas no dejo que me impongan yugos;
yo les llamo a los muertos mis amigos.
Y les llamoa los vivos mis verdugos
Me deja’ agrega medico’ perpleijo
vuestro mal, y no debo acobardaros;
tomad hoy por receta este consejo:
Solo viendo a Garrik podeis curaros
’A Garrik?
’Si, a Garrik... La mas remisa
Y austera sociedade le busca anciosa;
todo aquel que le ve muere de risa.
Tiene una gracia artistica asombrosa.
’Y a mi me hara reir?
’Oh, si, os lo juro;
el si, nadi mas que el; mas...l que es inquieta?
’Asi’ dijo el enfermo’ no me curo;
Yo soy Garrik... Cambiadme la receta.
Cuantos, hay, que cansados de la vgida,
enfermos de pesar, muerto de tedio
han reir como el actor suicida
sin encontrar para su mal remedio!
Ay! Cuantas veces al reir se llora!
Nadie en la alegre de la risa fie
proque en los seres que el dolor devora
el alma llora cuando el rostor rie!
Si se muere la fe, si huye la calma,
si solo abrojos nuestra pisa,
lanza a la faz la tempestad del alma
un relampago triste: la sonrisa.
El carnval del mundo engana tanto,
que las vidas son breves mascaradas,
aqui, apendemos a reir con llantos
y tambien a llorar con carcajada.
Juan De Dios Peza
القول ليس شعراً
سورية الجديدة<
سان باولو،
العدد 103،
8/3/1941م
ليس هذا المجال، كما قلنا في البدء (الصفحة 5 أعلاه) مخصصاً لدرس منظومات «الشاعر القروي» فنقف في كلامنا على شعره اللاوطني عند الحد الذي بلغناه في المقالين السابقين، لنخص هذا المقال بمنظوماته «الوطنية».
نشأ رشيد الخوري في زمن ابتداء الاختلاجات السياسية في سورية، بشكل دعوة الأمم العربية إلى الاتحاد ضد السلطة العثمانية، زمن «دع مجلس الغيد الأوانس»1، و«تنبهوا واستفيقوا أيها العرب»2، و«بلادي لا أرى فيك الإقامة لمن يهوى التعزز والكرامة»3 وغير ذلك من المواضيع السياسية الأولى التي رافقت تلك الاختلاجات. فانطبعت مظاهر الاختلاجات المذكورة على نفسه. ومتى عرفنا من الدرس والمقابلة أن رشيد الخوري مكتسب في الشعر، لا موهوب، عرفنا أيضاً بالفحص والمقابلة أن نزعاته «الوطنية» في نظمه هي تقليد لنزعات غيره. وهكذا ترى قصيدته التي مطلعها: «أبيت جوارها أرضاً بغير الذل لا ترضى» فهذه القصيدة هي مزيج من أفكار صاحب «بلادي لا إلى فيك الإقامة» وإحساسات صاحب «دعاني أجرع الغماء». وأفضل قصائده الوطنية لم تتجاوز أن تكون قبساً من «دع مجلس الغيد الأوانس»، و«تنبهوا واستفيقوا أيها العرب».
إن منظومات رشيد الخوري «الوطنية» ليست سوى صدى ما يقال ويسمع في بيئة الناظم، أي إنها منظومات، لا فكر مولد فيها ولا فكرة واضحة لها. كل ما يمكن أن تشعر به فيها هو أنها صادرة عن رجل يحب الحرية والاستقلال ويطلبهما ككل إنسان آخر، أو ككل حيوان على الإطلاق. فمحبة الحرية وطلبها4 ليسا شأنين من شؤون الناس فقط بل هما من شؤون الحيوان أيضاً. ألا ترى كيف يجول الأسد أو النمر المأسور في قفصه يطلب مخرجاً ومجالاً لحركته بعد أن ضاق ذرعاً بأسره وعيل صبره؟، أو العصفور كيف يمد منقاره من هنا ومن هناك طالباً الإفلات من القفص الذي سجن فيه؟
نقول إن قصائد الخوري الوطنية ليست سوى صدى ما يقال ويسمع، أي إنها قصائد لم تشتمل على غير صدى قصائد قديمة وغير الأفكار والفِكَر البسيطة، العامية، الشائعة، وهذا يعني أنها تابعة لا متبوعة. كل فكر أو رأي يسمعه الخوري في سهرة عائلية أو اجتماع أدباء يدوّنه أو يحفظه ثم ينظمه قصيدة من «بنات أفكاره». فالعقائد القومية أو الوطنية الغامضة تنعكس على قصائد رشيد الخوري بكل غموضها. وحين كان الزمن زمن عدّ «الشرق» موطناً والشرقيين جماعة أو «أمة»، نظم رشيد الخوري قصيدة بعنوان «أمة الشرق» جمع فيها الترك والعرب في أمة واحدة جعلها «أمة الشرق»!
في ذلك العهد كان لا فرق بين قولك «أمة الشرق» وقولك «أمة العرب» ولذلك ترى الخوري قد استعمل القولين؛ فهو قد رأى الشرق كله وطناً واحداً وأمة واحدة ثم عاد فرأى العالم العربي كله وطناً واحداً وأمة واحدة. وفي كل ما نظم من «الوطنيات» لا تجد فكرة واضحة للوطن أو للوطنية المنسوبة إليه. فالوطن له هو حيناً الجزء الأصغر من الوطن القومي، هو لبنان، وحيناً آخر هو «سورية الوطن» كما في (الرشيديات)، ولكن الوطنية ظلت لفظة فوضوية شاردة لا تعرف وطناً ذا حدود ولا تعني الانتساب إلى وطن معين. وقارى قصائد رشيد الخوري لا يجد فكرة وطنية نهائية ثابتة يستقر عليها، بل هو يجد أن الوطنية قد تحولت عن معناها الأصلي إلى لفظة مرادفة للحرية المطلقة، الفوضوية، أو لبغض الغربيين، وبناءً على هذا الاستعمال غير المضبوط سميت منظومات الخوري «قصائد وطنية».
جمع رشيد سليم الخوري فئة مختارة من منظوماته «الوطنية» في كتابه سماه (الأعاصير). لنتناول هذا الكتاب، الذي هو زبدة «الشعر الوطني» الذي وصف به «القروي» وفيه أنضج ما نظم الخوري في هذا الباب.
نتناول، قبل كل جهة أخرى، الناحية الشعرية. والحقيقة أننا نقول «الناحية الشعرية» من باب أن الشعر قيمة نفسية سامية أدركتها فطرتنا الممتازة منذ قرون متطاولة في القدم، لا من باب أن الشعر موجود في (الأعاصير). ففي مجموعة (الأعاصير) كلها لا يعثر القارى على غير محاولة واحدة ضعيفة لنسج بردة شعرية، هذه المحاولة هي في قصيدة «نكبة الشام»، وفيما سوى هذه المحاولة لا تجد أثراً واضحاً للشعر في (الأعاصير)، ولو شنق نفسه الكاتب المصري حسن كامل الصيرفي، أو ندب حظه أمين الريحاني1، أو أعلن نقمته أمير البيان المير شكيب أرسلان، أو حملق كثيراً توفيق قربان بعينيه من وراء نظاراته، أو تحولت فلسفة «الشاعر القروي» القائلة «إن الخلود يكون بواسط المطابع» إلى سراب في الصحراء لضالّ مجهد!
أبدع قصائد (الأعاصير) «الحماسية» تبلغ، حدالتقصيد الزيري، على طريقة تعبير الرفيق وليم بحليس، أو حد «قول» القوالين المشهور أمرهم. وإذا كان «القول» يبلغ أحياناً حد الشعر بالمعاني التي تعطي صورة مجازية جميلة لفكرة أو شعور حقيقي، فإن صفاته الأساسية تجتمع في الاندفاع في المظاهر الوهمية وترك كل نسبة أو قياس بين الوهم والواقع، شرط أن يكون معنى القول مغرياً بما يفتح من أبواب خداع الوهم المجرد أو يقفل من أبواب البداهة. كل مظهر اعتباطي، مهما كان مبتذلاً أو سخرياً، جائز في القول. وهكذا في (الأعاصير) وإليك المثال:
خذ قصيدته «الرجاء الوطني»1 التي قصد منها أن تكون شعوراً جميلاً يربط الإنسان بوطنه وهذه بعض أبيتها:
غرست بلبنان ورد الأمل قل للبرازيل أن تمحلا
وجدت عليه بمزن المقل قل للأمازون أن يبخلا
وحليت قلبي «بنبع العسل» قل لليالي أمطري حنظلا
هذه الأبيات هي «قول» أو «تقصيد» مجرد من كل صورة شعرية، والصورة التي ترسمها من أسخف ما يمكن أن تتصوره مخيلة قوّال بسيط. لماذا يجب أن تمحل البرازيل إذا كان الناظم قد غرس ورد الأمل بلبنان؟ وما هو الجمال الشعري في سقي الأمل بمزن المقل وبخل الأمازون؟ وما هي الفائدة الحقيقية أو الخيالية وما هو سر الجمال في سقي ورد الأمل بمزن المقل إذا عز الوصول إلى ماء الأمازون؟ الباكي فوق ورد الأمل ماذا تكون حالته وماذا ينتظر أن تكون نهاية أمله؟ ولماذا يجب أن يزدري خصب البرازيل وغزارة أمازونها؟ المقطع الأخير من الموشح يقول2:
وإن كاد فُلكي ببحر الدجى يحطم فوق صخور الغد
ولم أرَ من ملتجى مرتجى لا من يد تتلقى يدي
شددت «بصنين» حبل الرجا وقلت لموج الأسى: أزبد
البيتان الأولان يمهدان لصورة شعرية محلقة، ولكن البيت الأخير يسف إسفافاً يولد في نفس القارى الشاعر خيبةً وانقباضاً عظيمين: الحالة النفسية التي تتطلب مثالاً نفسياً ــــ روحياً من نوعها لا تجدى سوى خاطر مادي، استبدادي، لا منطق يجيز انتهاءها إليه. فلو قال الناظم مثلاً: «.. شددت حبل الرجا بتلك القوة الخفية، العجيبة في وطني التي كتب لها الخلود» لكان هنالك وجه للرجاء الوطني. ولكن ما هي الموحيات الفكرية في «صنين» لجعل الرجاء الوطني يرتبط به حين يكاد فلك حياة المرء يحطم فوق الصخور التي تخبئها الأيام؟
هذا الموشح يدل على أن الناظم يريد أن يفرض علينا سخافاته وخصوصياته «الشعرية» فرضاً، فهو هنا كما في قصيدته التي تناولناها في المقالة السابقة القائل فيها: «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك» يريد أن يكلفنا قراءة المنظومات المتعلقة بخصوصيات نفسيته، وهي أمور كان يجب أن تبقى بين الناظم ونفسه أو، على الكثير، بينه وبين خلانه الذين يشاركونه في مستوى أفكاره ومُثُله وفي إحساساته ومطالبها.
ماذا يهمنا نحن أو يفيدنا إذا شدّ رشيد الخوري حبل رجائه بصنين أو بحرمون أو بجبال العكام (أمانوس)؟، وماذا يهمنا من استغنائه بدمعه الهاطل على ورد أمله عن أمواه الأمازون؟ وهل بلغ بهذا الناظم السخف حد تصور أننا مثله عاجزون عن سقي ورد أملنا في وطننا بغير دموعنا؟، أو لي عندنا نهر أدونيس (إبراهيم) الغني بأساطير الحياة، ونهر العاصي ونهر دجلة ونهر الفرات ونهر الأردن وغيرها من أنهرنا نسقي منها سهول آمالنا المُوجِدة1 الخصبة، حتى نقف كالنساء اللواتي أسقط في أيديهن نبكي على ورد أمل غرسناه لنعتز به، لا لنهان ونتعرض للشماتة؟
وماذا يهم العموم من محللات رشيد الخوري ومحرماته حتى ينظم للناس كيف أجاز لنفسه انتهاز فرصة ضعف فتاة وغلبها على أمرها غير مبالٍ بسمّ غضبها ما دام يتمكن من ذوق شهدها؟، أليست هذه حالة من حالات فساد الفكر التي يصورها المعرّي الخالد أوهمت الناظم أن قطر السرى درٌّ يحسن أن يعرضه على الناس؟
في (الأعاصير) قصيدة بعنوان «الشهداء»2 مطلعها تكلف ظاهر وقول عادي وهذا هو3:
خير المطالع تسليم على الشهداء أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا
والخوري يحاول فيها بلوغ الشعر بكل وسيلة فينتقل إلى المجاز ليبرز صورة شعرية ويقول4:
بل علّقوكم بصدر الأفق أوسمة منها الثريا تلظّى صدرها حسدا
ولكننا لا نجد ظاهرة واحدة أو شكلاً يرمز إلى تلظى صدر الثريا حسداً. وإخراج الرمز يظل منوطاً باجتهاد كل قارى في تخيل الصور والأشكال.
وهنالك قصيدة في «وعد بلفور»5 لا تختلف عن قول القرادي في شي. تأمل هذه الأبيات6:
الحق منك ومن وعودك أكبر فاحسب حساب الحق يا متجبر
تعد الوعود وتقتضي إنجازها مهج العباد خسئت يا مستعمر
لو كنت من أهل المكارم لم تكن من جيب غيرك محسناً يا بلفر
إلى آخر القصيدة. وفيها أبيات قرادية تخرج عن كل فكر جدي كهذه1:
أما وقد خلع المرائي ثوبه فليخلعنَّ الغمد هذا الأبتر
وليلبسنّ الأرجوان غلالة تطوى على هام الرجال وتنشر
ولتعركنّ الظالمين سنابك حتى يحجّبهم دم لا عثير
وهي، لفقد كل نسبة صحيحة فيها إلى حقيقة الموقف، لا ترسم غير صورة «دنكيخوطية» [Don Quixote] تدعو إلى الهزء والسخرية، وقس على ما تقدم ففيه كفاية لتبيان قيمة منظومات رشيد سليم الخوري من الوجه الشعرية.
ولا بد، قبل ختام الكلام على هذه الناحية، من ذكر أنه يوجد في قصيدة «الشهداء» ظل لصورة شعرية هي من إبداع الوطني الكبير المرحوم الدكتور خليل سعاده، الذي أنذر المستعمرين بالهلاك فتهكّم على سعيهم، وناداهم أن يبادروا إلى نقش آثارهم إلى جانب الآثار التي نقشتها على صخورنا الأمم البائدة.
نترك، عند هذا الحد، الناحية الشعرية ونتناول ناحية الروحية الوطنية في قصائد (الأعاصير).
الروحية السائدة في القصائد المذكورة، كما في غيرها من قصائد «القروي» الوطنية، هي روح النوح والبكاء والندب والصخب والزحير، روحية رازحة، عاجزة، يائسة، لا تملك أمرها ولا تدرك موقفها، روحية أكثر ضعفاً وأقل ثقة من روحية عاموس اليهودي بعد أن ضرب ملك دمشق، هدد عزر، اليهود ضرب عظيمة، روحية لعنة لشعبه ووطنه لا ترى بعثاً ولا أملاً.
يمكن الشعور بهذه الروح من أول الكتاب. انظر البيتين اللذين أهدى بهما الكتاب إلى «شهداء الوطنية»2:
يا رفاتاً تحت الرمال دفينا مبعداً، عاطل الرُّموس نسيّا
لك أهدي هذا الكتاب لأني لم أجد في البلاد غيرك حيّا
فهو لا يهدي الكتاب إلى الشهداء من أجل نبالة تضحيتهم، بل يهديه إلى رفاتهم لأنه لم يجد حياة في شي غيره!
وهو لا يقصر هذا المعنى القاتل الأمل على الحاضر، بل يتناول به المستقبل أيضاً في قصيدته «الشهداء» في الصفحة (59) حيث يقول:
تلك الجبابرة الأبطال ما ولدت للحرب أمثالهم أُمٌّ ولن تلدا
وترى أنه جعل من تقدير الشهداء المقصود مدحهم وسيلة للحط من الأبطال الذين تقدموهم. وهكذا محا الناظم الماضي ودفن الحاضر وأعدم المستقبل. وأين هذا القول الزري، في معرض الاعتزاز والفخر، من قول القائل: «إذا مات منا سيد قام سيد» الذي يرفع المعنويات ويقوي ثقة المرء بمستقبل قومه وحسن مآلهم؟ فإذا كانت الأمهات لم تلد ولن تلد أمثال أولئك الأبطال فبأي شي يكون رجاؤنا للغد؟ أبحبل رجاء رشيد الخوري المشدود بصخور صنين؟!.
وإليك هذا المثال على العجز واليأس1:
يدعوك شعبك يا صلاح الدين قم تأبى المروءة أن تنام ويسهروا
فالناظم لا يرى أملاً ولا مقدرة في غير صلاح الدين من قبره، ولا يمكن أن يحمل هذا البيت على محمل رمز إلى ما سيجي بسبب ما يليه وهو2:
نسي الصليبيون ما علمتهم قبل الرحيل فعد إليهم يذكروا
ريكاردس أدرى بسيفك منهمو فليسألوه لعله لا ينكر
وعلى افتراض أن هذه الأبيات رمز، وهو ما لا وجه قياسي أو منطقي لافتراضه، فبئسما هو هذا الرمز، الذي مغزاه الرجعة إلى القديم، وهذه الروحية الرجعية، التي هي نتيجة روحية العجز واليأس، تتجلى بمظاهرها الباهرة في القصيدة الشائنة «تحية الأندلس» في قوله3:
فإذا بغداد عادت كالقديم موطن الشعر وديوان العلوم
وإذا رنّ بها عود النديم مرجفاً بالحب أعصاب النجوم
الرجوع إلى الماضي وصوره، هذا شأن جميع العاجزين عن الإنشاء والإبداع والتقدم والارتقاء. وقصيدة «تحية الأندلس» المعيبة تحتاج درساً خاصاً سيأتي. والعجز والقنوط والشكوى تظهر بوضوح في قصيدته على غلاف (الأعاصير):
إلهي ردّ ما لك من أياد على وطني وردّ له الأيادا
خلعت على رباه الحسن فذا وألبست القطين به الحدادا
فهذان البيتان ليسا إعلان ثقة بالله من قبل مجاهد عزوم، بل هما ضراعة يائس عاجز عن إدراك الأسباب. فهو يقول إن الله هو الذي قضى بإلباس مواطنيه الحداد بالمرتبة عينها التي قضى فيها أن يكون وطنه جميلاً. إذاً فالأسباب كلها من عند الله ولا يمكننا أن ننتظر شيئاً إلا أن يلبسنا الله الأثواب الزاهية بدلاً من الحداد، فهو وحده على كل شي قدير بذاته. ولا يكفي أنه خلقنا وأعطانا من المواهب بقدر ما أعطى غيرنا وأكثر، وأنه يعيننا إذا توكلنا عليه في خطة وسعي وجهاد. ثم إن الناظم يتحول، في عجزه1 وبعد ضراعته اليائسة إلى «شبول الأرز» ويطلب منهم أن:
فكونوا النار تحرق أو قذى في عيون البُطل إن كنتم رمادا
والناظم يريد أن يوهمنا أن مناداته حمية. وقد يكون هنالك من حسبها حمية، ولا وجه لهذا الاعتبار، لأن الناظم لا يدل «شبول الأرز» على الكيفية التي يصيرون بها ناراً تحرق، ولا على الطريقة التي يكونون بها قذى في عيون البطل متى كانوا رماداً [لا في هذه القصيدة ولا في غيرها]2 . فصيحته صيحة عاجز، خامل، يخبط على غير هدى ويستعمل كلاماً في غير موضعه، كما وضع لقصيدة في فتاة إنكليزية عنوان «صيحة للجهاد» وهي قصيدة لا صيحة فيها للجهاد أو لغيره وإنما جرى فيها ذكر وجود صيحة للجهاد في كل مكان غير القصيدة!
تطل علينا روحية الزحير والعيّ والقنوط في عدة أماكن من (االأعاصير)، وتكاد مظاهر هذه الروحية اليهودية تكون نسخة طبق الأصل عن روحية عاموس أو إرميا. فالناظم يهدد الأعداء بقوة الله ويشتم ويلعن، شأن كل عاجز3:
يا ربة الدأماء مهما تكثري عدد السفين فعند ربك أكثر
* * *
هددت بالأسطول أرواح الورى إن كنت منذرة ففوقك منذر
وإنك ترى السباب واللعن في أقبح صورة في قصيدة «مآسد لا مراع»:
فكنت لئيمةً حرباً وسلماً كلؤمك في الغرائز والطباع
* * *
عرضت الشام موطننا لبيع كأن الشام عرضك يا لكاع
نقف عند هذا الحد في إظهار الروحية السائدة في منظومات رشيد سليم الخوري «الوطنية» بصورة عامة، على أن نعود في ختام هذا الموضوع إلى تناول قصيدته المجرمة «تحية الأندلس». وننتقل الآن إلى ناحية أخرى هي ناحية الفكر.
هاني بعل>
للبحث استئناف
اضطراب وهذيان
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد 104،
15/3/1941م
الأفكار نادرة جداً في منظومات رشيد سليم الخوري، وهي، على قلتها، شعث غير ملموم، بل هي فسيفساء أفكار عامية، في الغالب، أو شائعة، فهو إذا ذكر بالاستقلال لا يراه آتياً إلا على يد العرب فيطلب من السوريين أن يتجهوا بكليتهم إلى الصحراء، كما في « تحية الأندلس»1:
وإذا السيف من الصحراء سلاّ نافضاً عن أربع الفيحاء ذلاّ
وكما في قوله في تأبين الوطني الكبير المرحوم الدكتور خليل سعاده:
سنقتلكم ونحييكم إلى أن يمزق عن عيونكم الحجاب
غداة نروّع الدنيا بجن على صهواتها شبوا وشابوا
ويجرفكم من الصحراء سيل له في ضفة «السين» اضطراب
ظننتم كل ما فيها سراباً سيشرب بحركم هذا السراب
في بدء هذه الأبيات يظن القارى أن الناظم يرى رؤيا جميلة تبشر بنهوضنا نحن، فتخرج الأبطال الجبابرة من مدننا وقرانا، من جبالنا وسهولنا وأوديتنا فلا تكاد نفسه تستبشر لذة الأمل بالنهوض حتى يقطع الناظم أملها بوضعه الرجاء في الصحراء وأهلها، لا فينا!
وهو إذا فكر بالبطولة والشجاعة والكرامة ردد أفكار زمن الانحطاط العامية التي نسبت الذل إلى تعليم المسيح: «أحبوا بعضكم بعضاً» وانتهى إلى هذه الحكمة التي أخفيت عن العقلاء وأعطيت للجهال2:
إذا حاولت رفع الضيم فاضرب بسيف محمد اهجر يسوعا
«أحبوا بعضكم بعضاً» وعظنا بها ذئباً فما نجّت قطيعا
وقوله3:
والسيف لا عيسى ولا أضرابه خلق «الكمال» لهم من النقصان
ومن هذا النوع العامي الانحطاطي تفكيره في شأن المبادىء وأهيمتها4:
وقيل لنا من الأخلاق واقي أواشنطون كان بلا خلاق
وهل قهر العدى يوم التلاقي بتلك السمر والبيض الرقاق
وعلم الحرب أو علم المبادي؟
وهذا التفكير سخيف مؤسس على جهل مطبق، إذ لولا المبادئ لما ظهر واشنطن ولا غيره من العظماء. فالمبادىء والإيمان كانت وراء شراذم واشنطن، كما كانت وراء شراذم خوارس. والإيمان والمبادئ كانت وراء المسيح وأتباعه، والإيمان والمبادئ، قبل الحسام، كانت وراء محمد وأتباعه. وإن السمر والبيض الرقاق وعلم الحرب إذا لم تستند إلى روحية قوية من الأخلاق والمبادىء والمناقب كانت عديمة الجدوى. وليست المبادئ بمانعة من امتشاق الحسام. والسيف، في الحالات المؤاتية، يؤلف جزءاً من الأخلاق والمبادئ، فلا وجه إذن للأخذ بذاك وترك هاته.
وقوله في الأغنياء ومصير أموالهم بعد موتهم1:
لم يمنعوا الناس يوماً بعض ما جمعوا إلا لكي يمنحوهم كل ما جمعوا
ليس سوى نظم فكرة عامية متداولة عند البسطاء يسمعها المرء في مجالسهم وسمرهم، وليس فيها مغزى مفيد في مجتمعنا العصري المركب.
وفي قصيدته «هنا وهناك» من سخف الفكر ما يحار المرء في بلوغه هذا المبلغ الزري2:
إن كرموا العجم ولّوهم ظهورهم وملّكوهم رقاباً حقها النطع
والنظّام يشرح قوله «ولّوهم ظهورهم» هكذا: «من عادات شعبنا أنهم يحملون من يرومون تكريمه على أعناقهم أو يجرون مركبته» فهل هذا صحيح؟
صحيح أن من عادات شعبنا أن يرفعوا أبطالهم على أيديهم وأكتافهم في ظروف من حماس شديد ولكنه ليس صحيحاً أن «من عادات شعبنا» أن يجروا مركبة من يرومون إكرامه من العجم، ولا عبرة بحادث من هذا النوع جرى في زحلة وكان خروجاً على عادات شعبنا، لا عملاً بها.
والظاهر من هذا الاختلاق ومن غيره أن الناظم يروم رمي شعبه بكل حقارة ونسبة كل صغارة إليه، ليظهر هو بمظهر الأبي الأوحد وليتمكن من القول3:
ألا ذوّقتهم ألمي فثاروا فيا رباه لست أنا البلادا
وهو يريد أنه الوحيد من أبناء الشعب المتألم تألماً شديداً لما حلّ بالوطن وأن الله قد حمّله وحده عذاب البلاد كلها!
الناظم يحقر الشعب كله ليظهر بمظهر وطني كريم فيقول في قومه4:
يرنو الإباء إليهم، دمعه بركٌ ،أنفاسه لهبٌ، أحشاؤه قطع
وهو دائماً ينعي لبنان ويرى في عدم ثورانه انتفاء الإباء والكرامة منه، لا حالة سياسية ــــ اجتماعية خاصة، فيقول فيه1:
لبنان يا لبنان بل ما ضرني لو قلت يا بلداً بلا سكان!
ثم يسمع الناظم أن مصيبة الشعب من تفرّق مذاهب دينية فيقول2:
بلادك قدِّمها على كل ملّة ومن أجلها افطر ومن أجلها صم
* * *
فقد مزقت هذه المذاهب شملنا وقد حطمتنا بين ناب ومنسم
سلامٌ على كُفرِ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
وفي قصيدة «الشهداء» يقول الناظم3:
أكرِمْ بحبل غدا للعرب رابطة وعقدةٍ وحدت للعرب معتقدا
وهو يريد بهذا البيت أن استشهاد الرجال السوريين الذين سعوا للثورة على الحكم التركي، ولتحرير سورية والأقطار العربية الأخرى منه، قد صار رابطة لشعوب العالم العربي. وهي فكرة وهمية خادعة، فكيف وأين وجد الناظم أن أمم العالم العربي تعدّ هؤلاء الشهداء شهداءها هي وتحيــي ذكرى مآتمهم؟!، وهل تقام لذكراهم المجالس والمآتم في مكة والمدينة وصنعاء وفي القاهرة والإسكندرية ودمياط والخرطوم وفي فارس [فاس] والرباط وتونس والجزائر والمرسى الكبير وفي بغداد والنجف والبصرة وكربلاء؟، أوَ يكفي أن يتبع الناظم بالبيت المتقدم بيتاً آخر يقول فيه4:
يا زائر الأرز خبّر زائر البلد الــــ ــــحرام أنّا جمعنا الأرز والبلدا
لتكون الرابطة بين الأقطار العربية قد تمت وتكون معتقدات الأمم العربية قد توحدت؟
وإذا حملنا معنى هذين البيتين على محمل الشعور بدلاً من محمل الفكر فإننا، حينئذٍ نحتاج إلى أحد علماء مدرسة فرويد في التحليل النفسي ليعلل لنا أسباب هذا الاختلال5 الكبير في شعور الناظم وإحساسه، فإن علماء هذه المدرسة النفسية قد أظهروا لنا أمثلة غريبة على استبدال مختلّي الشعور أوهاماً غريبة الأشكال بالحقائق التي هي بالحقيقة غرض شعورهم الأصلي!
روى أحد علماء هذه المدرسة السيكولوجية أن إحدى العوانس كانت تعبّر عن دوافع شوقها وحنينها إلى ولادة ولد بأحلام غريبة، منها حلم هذا مضمونه: حلمت هذه العانس أنها استدعت خبيراً بأوتار البيانو ليصلح خللاً طرأ على الأصوات، فلما فتح الرجل صندوق البيانو وظهرت الأسلاك نظرت العانس فرأت بذوراً كثيرةً تتساقط خلالها!
كانت هذه المرأة تحت مراقبة أحد خبراء مدرسة التحليل النفسي الذي حلل حلمها وأحلامها الأخرى إلى أجزائها، وأبان كيف أن اختلال شعور المريضة النفسي ــــ العصبي جعل صور شعورها الأصلي تضطرب وتأخذ أشكالاً غريبة بعيدة عن الحقيقة.
وافترض أننا وضعنا رشيد سليم الخوري أو واحداً آخر من المصابين بالعيّ والعجز وفقد الرجولة الحقيقية، أما كان تحليله لأقواله يعطي هذه النتيجة؟
إن رشيد الخوري أحد الذين يصبون ويشتاقون إلى الإحساس بأنهم ينتمون إلى دولة سائدة ذات حول وطول، ولكنهم، لعجزهم عن إشباع هذه الحاجة في نفوسهم بممارسة أعمال فيها بطولة وشعور حقيقي بالقوة، فقد اختل شعور الرجولة فيهم حتى إنهم أخذوا يحلمون الأحلام الغريبة، ويتصورون التصورات العجيبة ليستعيضوا عن الحقيقة المفقودة!
هاني بعل
للبحث استئناف
تحية الأندلس
سورية الجديدة
سان باولو،
العدد (105)،
22/3/1941م
«تحية الأندلس» هي القصيدة التي يعدها رشيد سليم الخوري من عيون قصائده الوطنية أو الحماسية، ولذلك حلّى بها جيد ديوانه (الأعاصير)، وقد استوحى الناظم موضوع هذه القصيدة من الحفلة التكريمية التي أحييت للشاعر الإسباني فرنسيسكو بليا اسبسه في مدينة سان باولو ــــ البرازيل، بمناسبة إلقائه محاضرات في تلك المدينة نوّه في بعضها بمآثر العرب في إسبانية وزعم أنه هو يتحدر من أصل عربي.
رأى رشيد سليم الخوري بعين شاعريته أن يتمثل الأندلس في شخص المحتفى به، حتى إنه نسي هذا الشخص بالمرة، ورأى كذلك أن يمثل هو سورية حتى نسي أنه هو المتكلم لا سورية، وإذن فالقصيدة، كما تصورها الناظم، أو كما أرادها تمثل وقفة سورية أمام الأندلس على مرأى ومسمع من العالم.
يفتتح الخوري قصيدته باسم السوريين فيقول، مخاطباً الأندلس1:
خبرينا كيف نقريك السلاما
طيب النشر كأنفاس الخزامى
والشذا المحيــي بسورية العظاما
غادر الشام وبيروت وهاما
في بلاد حرة لم تحنِ هاما
وأنوف لم يقبلن الرغاما
خبرينا كيف نقريك السلاما؟
هذا هو المقطع الأول من هذه القصيدة النادرة، وندورها ليس في جمالها، بل في قبحها، ولا في عزها، بل في ذلها. فقلما وقف إنسان يمثل أمته تجاه أمة غريبة وفاه بمثل هذا القول المخزي.
إن الناظم يقول لإسبانية: إننا نحن السوريين نخجل من أن نقف موقف المسلم عليك أنت الأمة الحرة التي «لم تحنِ هاماً ولم تقبّل أنوف بنيك الرغام» لا يوم افتتح أرضك جدودنا الكنعانيون الفينيقون ولا يوم افتتحها العرب، ولا يوم اجتاحها الوندال ولا يوم أخضعها الرومان، ولا يوم اكتسحها نابليون ولا يوم قهرها الإنكليز. ونحن، نحن الذين ملكنا البحار دهراً وسيطرنا على إسبانية في جملة الأرض الواسعة التي ملكناها، نحن الذين علّمنا أمم الأرض معنى الوطنية، نحن نحار كيف نتجرأ على الاقتراب منك والسلام عليك!!.
نحن لسنا إلا عبيداً، فللّه درّ رشيد سليم الخوري، الذي يمثلنا عبيداً إذ يقول1:
أمن «الميماس» حيث العلج رافع
راية حمراء تحميها المدافع؟
أم من الشام وطرف الشام دامع؟
أم من الأرز وليث الأرز خاضع؟
أم من الأردن والأردن ضارع
خاشع الرأس ذليلاً يترامى
أمن العبدان ترضين سلاما!!
أيتها الأمة السورية العظيمة!، أيتها الأمة السورية العظيمة التي ذقت لذة المجد ومرارة المحن التي تنزل بالأمم العظيمة! ما أسوأ طالعك بفئة زرية من أبنائك!
إن العبد الذليل لا يمكنه أن يمثل أمة حرة، فإنه يذلها.
كم من حر عظيم وقف وقفة أنصف بها أمة منكودة الحظ عاثرة الجد، وكم من عبد ذليل وقف وقفة ظلم بها أمة عظيمة وأذلها.
أجل، أيتها الأمة العظيمة، إن من سوء حظك ونكد الدنيا عليك أن تبني مجداً بلغ الجوزاء وتورثي أجيالك فخراً لم يكن قبله ولا حدث بعده فخر يضاهيه، فيقوم نفر من أبنائك ليسوا أهلاً بحمل اسمك ولا جديرين بالميراث الخالد الذي أورثته فيرتدون عليك في سقطة لك لم تنج منا أمة من الأمم العظيمة، ولكنها أعظم من جميع السقطات التي عرفت في التاريخ، ويطعنونك في أحشائك ويزيدون جراحك ويلطمونك على وجهك النبيل بأيديهم الأثيمة ثم يقفون أمام العالم منحازين عنك متنصلين من كل مسؤولية تقع عليهم، ناعين عليك سقطتك، غاسلين أيديهم من دماء جراحك وقائلين للناس: نحن رجال هذه الأمة وممثلوها ونحن نعلن للملأ أنها أمة عبيد!!.
ما أعظم آلامك أيتها الأمة العظيمة التي يقف ذليل منتسب إليك فيرميك بالعبودية ويضرع إلى الله ، هو الميت الوجدان، قائلاً1:
ألا ذوقتهم ألمي فثاروا فيا رباه لست أنا البلادا(!!)
رجل من رجال البطولة القزمية الميّتي الوجدان، العديمي الشعور بآلامك، يقف فوق جراحك النازفة ويقول: أنا هو المتألم أما هذه الأمة فليست في محنة بل هي أمة عبيد لا تستحق أن تصافح أمة حرة!!.
أيها القارى! إذا كنت حتى الآن لم ترَ عظمة نفس ذليلة في أوج ذلها وتسكعها، فانتبه لئلا يمر بك جلال هذه العظمة الذليلة التي يمثلها «الشاعر الذي ربح الخلود» في المقطع التالي من «تحية الأندلس» دون أن تراه2:
إن بالحمراء أرواحاً مطيفه
لم تزل تحمي ذرى القصر المنيفه
أرسلت من بينها عين الخليفه
نظرات هنّ لعنات مخيفه
لا يحيّيني سوى نفس شريفه!
أبعدوا لبنان عني والشآما
من ربوع الذل لا أرضى سلاما!
أرأيت، أيها القارى السيى الطالع ذلاً أعظم من هذا الذل؟، هل رأيت وتحققت الآن أن للذل عظمة وجلالاً، بعد أن كنت تتوهم أن العظمة والجلال هما للعزة والكرامة والبطولة والإباء؟
يقول هذا الناظم، الذي كان من سوء طالع سورية أن تسمح له عقلية سخيفة بتمثيلها في موقف مثل هذا الموقف، إن بالحمراء أرواحاً مطيفة لم تزل تحمي قصراً زال عز تلك الأرواح منه وأصبح من الآثار الباقية الدالة على عزّ الأمة التي طردت تلك الأرواح.
ويقول أيضاً إن عين «الخليفة» ترسل من بين تلك الأرواح نظرات هن «لعنات مخيفة» تقول: أبعدوا سورية عني فإني لا أرضى سلاماً من هذه البلاد أو الأمة الذليلة!
أما لماذا يجب أن يقول «الخليفة» هذا القول فمن الإبداع الذي يدل على عظمة الذل وذل العظمة، لأنه متى نهض قزم وأخذ يتبختر ويتخيل أنه جبار، فالعز يصير ذلاً والذل يصير عزاً!
إن «الخليفة» الذي يريد الناظم أن يرعبنا «بنظراته» يجب أن يغضي حياءً وخجلاً ويطأطى خشوعاً وانكساراً. فإن عظمة الحمراء لم تبلغ يوماً عظمة سلطان الفيحاء، فإذا كانت الحمراء سيطرت مدة على الأندلس فدمشق سيطرت على جميع الأقطار التي دخلها جيش إسلامي أو عربي، وعلى جميع الجيوش أنّى توجهت.
كيف يحق «للخليفة» الأندلسي أن ينعت سورية «بربوع الذل» وهو يرى ذل الحمراء بعد عزها، أليس الأجدر به أن يوجه «نظراته المخيفة» إلى قومه الذين فشلوا وخسروا ملكاً وبلاداً لم يكونوا جديرين بالاحتفاظ بهما.
ألا يعلم ذلك «الخليفة» أنه سوري أموي وأن الفضل في تبوئه عرش إمارته ومقام خلافته عائد إلى سورية التي كانت أساس الإمبراطورية الإسلامية والقوة الوحيدة التي تمكنت من أن تضم أطراف تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف تحت كنفها، حتى إذا زال الأمر منها وقامت الدولة العباسية في بغداد رأينا تلك الإمبراطورية التي كانت شيئاً حقيقياً تتفكك وتتفسخ ويقبض على مركزها العجم والديلم والترك، بينما اللقاء لاهون بلبس عباءة النبي وبالشعراء والندماء والجواري والقيان؟
[وإذا لم يكن سورياً]1 أفلا2 يعلم ذاك «الخليفة» أن الأرض التي بنيت عليها الحمراء رأت عز الإمبراطورية السورية الغربية (قرطاضة) قبل أن رأت عز العرب وأنه فيها قام قواد سوريون لم يقهرهم قائد أو ملك إسباني قط؟
وأي خليفة هو هذا «الخليفة» الذي يبلغ به التهور حداً تسوّل له نفسه عنده إرسال تلك «النظرات المخيفة»؟ ألعله ذاك الذي قالت له أمه عند وداع غرناطة «ابكِ، أيها الأمير، كما يليق بالنساء، مُلكاً لم تقدر أن تحافظ عليه كما يليق بالرجال!».
إن الناظم الذي لا يعرف للخيال علاقة بالحقيقة يخاطب الأندلس كما لو كانت لا تزال في قبضة العرب، وينسى أنه يحيــي الآن أندلس الأمة التي طردت العرب.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يتابع خياله ويخاطب سورية كما لو كانت لا تزال قاعد الإمبراطورية الإسلامية، من عاصمتها تصدر الأوامر إلى قادة الجيوش والحكّام، وإليها تجبى الضرائب ومنها تسير الجيوش الظافرة التي تخضع حتى مكة نفسها؟
أخشفاً وسوء كيلة؟
أإلى هذا الدرك الذليل يريد أن ينزلنا «الشاعر الذي ربح الخلود» باختلال شعوره واضطراب خياله أم يظن أن بليا أسبسه عالم بالأمراض النفسية والعصبية وكذلك جميع القرّاء فيستخرجون الحقائق من فوضى خياله وشعوره؟
بعد بلوغ الأوج في المقطع المتقدم يأخذ الناظم يسير الهويناء في المقطع الآتي:
يا ابنة الزهراء يا أندلسيه
لم تزل فيك من المجد بقيه
لمعت فيها السيوف المشرفيه
ضاربات بزنود عربيه
فعلى مثلك لا تلقى التحيه
بأكف لم يجردن حساما
خبرينا كيف نقريك السلاما؟
ولعل الناظم يريد، بهذا المقطع، أن يقول إنه لما كان بعض الإسبان فيه عرق عربي بما حدث من الامتزاج في أثناء قيام الدولة العربية في الأندلس، وبما أن هذا البعض الذي له صلة بدم عربي هو اليوم جزء من أمة حرة، فهم يمثلون بقية المجد العربي الذي زال. وفي هذا الاستنتاج تأويل غريب ضرب بكل منطق عرض الحائط. فإسبانية الحرة اليوم ليست مدينة بحريتها لبقية المجد الذي يشير إليها الناظم، بل للزنود الإسبانية التي انتصرت على الزنود العربية. وبقية هذه الزنود في إسبانية لا تمثل مجداً، بل تمثل ما أصاب ذلك المجد، لأن مجد إسبانية الحاضرة قام على خذلان مجد الزنود العربية، إلا أن يكون سقوط غرناطة نتيجة خلاف بسيط بين أبناء أعمام وخالات وعمات، وليذهب التاريخ إلى جهنم!
وهذه البقية من المجد الزائل العائشة في كنف المجد الإسباني الحديث لا يجوز لنا أن نلقي عليها السلام، لأننا لا نعيش في إسبانية مساهمين في مجد الزنود الإسبانية!
ولكي تقبل إسبانية، التي يتخيلها الناظم، في اضطراب فكره، لا تزال معلوة بالسيوف العربية، أن نلقي عليها السلام يجب أن نرجع إلى الوراء، لا أن نتقدم إلى الأمام1:
فإذا بغداد عادت كالقديم
موطن الشعر وديوان العلوم
وإذا رنّ بها عود النديم
مرجفاً بالحب أعصاب النجوم
ومثيراً لوع الليل البهيم
ومديراً أدمع الفجر مداما
عند هذا سوف نهديك السلاما
لا يرى الناظم أن تنهض سورية وتبني مجداً جديداً كما كان لها مجد قديم، بالعكس يرى أنه يجب أن ترجع إلى عهد قديم. ومع ما في هذه الفكرة من العجز والخمول فلنفرض أنها فكرة جميلة، ولكن ماذا تمثل هذه الفكرة لنا نحن السوريين، الذين كان من نكد الدنيا علينا أن يقف هذا الناظم للتكلم باسمنا في مثل هذا الموقف؟. بل ماذا تمثل للعالم العربي إجمالاً؟
إن الرجوع إلى بغداد هو رجوع إلى عهد انحطاط الدول الإسلامية، فبينما كان الخلفاء في بغداد لاهين عن إدارة المُلك بقصائد الشعراء وأعواد الندماء، كانت عوامل التفكك تتناول أجزاء الإمبراطورية بالهدم. هذا من الوجهة العربية العامة، أما من الوجهة السورية فماذا تمثل بغداد لسورية؟، أتمثل شيئاً غير زوال سلطة دمشق وتأخر البلاد السورية عمرانياً وأفول نجم عزها؟
فكيف يعتز السوريون بقيام الدولة القديمة التي تمثل مجداً غير مجدهم، وقيام أمراء عليهم من الذين خاطبهم الحجاج في خطبته المشهورة التي أولها: يا أهل العراق!، ولو أن الناظم قال: فإذا الفيحاء عادت كالقديم، لكان هنالك وجه، ولكنه لا يرى الفيحاء تستحق هذه العودة. ولعل الزلفى لفيصل أو لغازي أو لبعض أهل الأمر في العراق هي التي دفعته إلى هذا التفضيل لبغداد على دمشق. فانظر إلى المنزلة التي يضع دمشق فيها1:
وإذا بيروت، أم النور، ولّى
عن سماها أثقل الرايات ظلا
وإذا السيف من الصحراء سلا
نافضاً عن أربع الفيحاء ذلا
وإذا لبنان بالأمر استقلا
فلبسنا العز أو متنا كراما
عند هذا سوف نهديك السلاما!
لا ندخل هنا في بحث سبب جعل ظل الراية الفرنسية أثقل من ظل الراية الإنكليزية وظل الراية التركية، ولكننا نتناول ما يتعلق بنفض الذل عن أربع الفيحاء، فالناظم بعد أن يجعل لبغداد حظ العودة إلى سالف عزها دون حاجة إلى سيوف الصحراء يجعل دمشق في مقام العجز عن النهوض بنفسها، فهي لا رجاء لها بنفض الذل إلا أن تفد عليها جنود الوهابية. وبهذا يكون الناظم قد بلغ ما قصد من الزلفى إلى أهل العراق وإلى ابن السعود، ولكن ألا تبقى الفيحاء ذليلة بعد أن يقع عليها ظل الراية العربية السعودية بدلاً من ظل الراية الفرنسية؟، أولاً تبقى سورية أمة ليس لها في نفسها زنود جديرة بالمجد؟، وكيف يجوز حينئذٍ أن يستأهل السوريون شرف إلقاء السلام على إسبانية وهم لا يزالون كما يقول فيهم الناظم، ظلماً وعدواناً، «أكفاً [بأكف] لم يجرّدن حساما»؟
وأما قوله «وإذا لبنان بالأمر استقلا» فظاهر فيه استرضاء اللبنانيين بإقراره فصل لبنان عن سورية، وهكذا يكون قد أرضى المسلمين العروبيين والمسيحيين المتلبننين و«ربح الخلود»!
إن هذه القصيدة الحقيرة «تحية الأندلس» كان يجب أن يكون عنوانها «نفس ذليلة تتسكع أمام الأندلس». ولقد رأى ما في هذه القصيدة من العيب والعار إلياس فرحات، الذي أخذ درساً في الماضي في وجوب المحافظة على الكرامة القومية، فنظم قصيدة بعنوان «تحية الأندلس» عارض فيها قصيدة الخوري، وعلت روحيته على حساب سقوط روحية الخوري، وقد جاءت قصيدة فرحات حسنة الروحية ولكنها لم تخرج في فكرتها عن استمرار بعض التقاليد المكتسبة.
هاني بعل
للبحث استئناف
أسباب وأسباب أيضاً وأيضاً
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد (108)،
12/4/1941م<
رأينا في المقالة السابقة نبالة الأسباب التي دعت الزعيم إلى الإغضاء عن زلات رشيد سليم الخوري ومحاولة إنقاذه، ودناءة الأسباب التي حملت رشيد الخوري على اختلاق المطاعن في الزعيم ودسّها سراً في أوساط السوريين المهاجرين، وخصوصاً النازلين في البرازيل. وفي هذه المقالة نتابع درس هذه الأسباب ونتائجها.
وقد أعدنا، في المقالة الأخيرة، نشر التأويل الفاسد لرحلة الزعيم إلى المهجر الذي أخذ رشيد الخوري ينشره بين معارفه ولكننا لمّا ننته من تحليله.
في التأويل المشار إليه يقول الخوري إن شأن الزعيم في أميركة كشأن رجل هجر بلاده متخلياً عن امرأته وأولاده، وهذا القول كله تغرض. الزعيم لم يهجر وطنه قط، فقد جاء سعاده المهجر السوري مرة أولى وهو في نحو الخامسة عشرة من عمره، عملاً بدعوة أبيه الذي كلفه جلب إخوته الصغار معه بعيد الحرب العالمية الماضية، ولكنه لم يتخذ لنفسه صفة المهاجر، بل أخذ يعمل مع أبيه الطيب الذكر العلامة الدكتور خليل سعاده في سبيل وطنه، ويترقب الفرصة السانحة ليعود إليه ويعمل على إنهاضه، حتى سنحت هذه الفرصة السعيدة سنة (1930م) فسافر من البرازيل تواً عائداً إلى وطنه وكان وصوله إلى بيروت في (30) يوليو/تموز من السنة المذكورة.
وكان الزعيم قد كرّس نفسه لتوحيد شعبه وإنهاضه وتحريره فاندفع في هذا السبيل مدركاً كل الإدراك وعورة المسلك وأن عليه أن يقتحم شباك الجواسيس ومعاقل الرجعيين وفخاخ النفعيين ولدغ السعاة، وألف ألف لون من ألوان الانحطاط المناقبي الذي أصاب الشعب السوري في زمن فقده سيادته القومية. فعمل عملاً، إذا قيس بأعمال أبطال الأمم الحية السابقة في الارتقاء عُدَّ معجزة من المعجزات النادرة.
وقد أثبتنا فيما تقدم من هذه السلسلة أن الزعيم لم يأتِ أميركة مهاجراً، بل جاءها بناءً على خطة مرسومة قرر تنفيذها ليشرك السوريين المهاجرين في نهضة أمتهم، ولينقذهم من الطبقة النفعية المفسدة التي تتلاعب بشعورهم الصادق.
وإذا كان الزعيم قد اضطر للبقاء في الأرجنتين بسبب رفض الفرنسيين، الذين لا يزالون أصحاب الأمر في شمال سورية، تمديد جواز سفره، فهو مقيم إقامة مضطر، لا مختار، أضف إلى ذلك الأحكام العرفية الأخيرة، الصادرة من المحكمة العسكرية في بيروت بسجنه عشرين سنة ونفيه عشرين سنة.
ولكن المهاجر الحقيقي الذي هجر بلاده مختاراً سعياً وراء النفع الشخصي، لاعناً أمته، شاتماً وطنه، متنقلاً سليماً في أميركة «مغرداً» لآلام سورية، مبتعداً عن الجلّى ومسرعاً إلى الخنا، كما تدل قصيدته «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك» هو رشيد سليم الخوري نفسه. ومن نكد الدنيا أن هذا المهاجر الذي أنفق شبابه في التجول التجاري ونظم القصائد التقليدية ابتغاء حظوة في عين امرأة، أو زلفى إلى مجتمع بقصد كسب المنافع المادية التي كرّس نفسه لها، يريد أن يعيّر الزعيم بما يجب أن يكون عاراً عليه هو نفسه، رشيد الخوري، دون أن يحمرّ له وجه أو يندى له جبين. ولو كان في رشيد الخوري مقدار حبة خردل فقط من ضمير حي لكان كافياً لمنعه عن تناول سعاده بمثل هذا القول اللئيم، إذ إن سعاده هو الرجل الذي يحمل في نفسه آلام أمته، مقدماً نفسه لحمل الضيم عنها، مجاهداً بالفعل لإنهاضها وتحريرها، متعرضاً للدسائس والخيانة من مواطنيه وللسجن والنفي والاضطهاد في سبيل شرف كل سوري مقيم أو مهاجر ورشيد الخوري في عداد المدينين لسعاده بإنقاذه شرف الجنس السوري من حضيض الانحطاط الذي ألقاه فيه مشعوذو السياسة ودجالو الوطنية الذين أحلّوا النفاق محل صحة الأخلاق، وأقاموا الشعوذة مقام الجهاد!
لا تقتصر عبارة رشيد الخوري التأويلية على إفادة ما ذكرناه في المقالة السابقة وفي هذه المقالة، وهو أن الزعيم «تخلى عن رفقائه» وأنه «هجر» وطنه وحزبه، بل تتعدى ذلك إلى معنى آخر مستور، فرشيد الخوري يريد بقوله إن الزعيم «ترك رفقاءه يتحملون ويلات الحالة الحاضرة في الوطن، وجاء يتنقل سليماً في المهاجر الأميركية» أن سعاده هرب من وجه الضغط والمسؤولية.
ولا شك في أن الخوري قصد إدخال هذا المعنى الحاد في أذهان معارفه من المهاجرين، استناداً إلى أنهم يجهلون تاريخ أنطون سعاده وأفعاله الكبيرة الدالة على كرم أخلاقه وشجاعته وعدم مبالاته بالموت. ولكي لا يظن القرّاء أن ما نقوله هنا هو مجرد افتراض نروي لهم كيفية توقيف الزعيم للمرة الثانية في يونيو/حزيران (1936م).
بعد أن قضى الزعيم مدة ستة أشهر في سجن الرمل وهي المدة التي حكم عليه فيها في كانون الثاني (1936م) خرج من سجنه ليرى أن الحزب قد تضاعف عدده مرات، بفضل دفاعه المجيد أمام المحكمة المختلطة. وهذا ما كانت قد تحققته الحكومة أيضاً. وخشي الفرنسيون استفحال أمر الحزب السوري القومي بعد عودة سعاده إلى حومة الجهاد، فأوعزوا إلى الحكومة اللبنانية أن تأمر الصحف بالكف عن نشر تصريحات الزعيم وخطبه وأعمال الحزب وأن تشجعها على نشر الأخبار الملفقة التي من شأنها تشويه سمعته. وفي الوقت عينه كلف المكتب الثاني في دائرة أركان حرب جيش الشرق الفرنسي، العامل لحساب هذا المكتب، المحامي عزيز الهاشم القيام بحملة لتشويه سمعة الحزب، فأخذ المأجور المذكور ينشر في صحيفة (المساء) حكايات غريبة ادّعى أنها وقائع حقيقية، متهماً الحزب بالعمل لمصلحة إيطالية ومدعياً أنه واقف على ما يثبت ذلك. وفي الوقت عينه كان الكاتب المستشرك في صحيفة (الرابطة الشرقية) إبراهيم حداد ينشر في هذه الصحيفة الأخيرة مقالات يدّعي فيها أنه واقف على ما يثبت أن الحزب السوري القومي يعمل بإيعاز من ألمانيا.
فأرسلت دوائر حزبية مسؤولة تكاذيب مدعومة ببراهين موثوقة إلى الصحيفتين المذكورتين وإلى صحف أخرى، ولكن الصحف امتنعت جميعها عن نشر التكاذيب واستمرت الصحيفتان المشار إليهما في مطاعنهما. فساء ذلك أعضاء الحزب السوري القومي وأدى التشويش الذي أحدثته مقالات تينك الصحيفتين إلى هياج في الأوساط القومية، كان من ورائه أن عدداً من الأعضاء في بيروت اجتمعوا وقرروا، على مسؤوليتهم، تأديب صاحب صحيفة (المساء) عارف الغريب، كما اجتمع عدد آخر وقرروا تأديب الكاتب في صحيفة (الرابطة الشرقية) إبراهيم حداد. وسعى هؤلاء لتنفيذ قصدهم في الحال فتعقبوا إبراهيم حداد ولكنهم لم يظفروا به في فرصة مناسبة فأضرموا النار في مطبعة صحيفة الرابطة الشرقية وأحرقوها. وواحد منهم كان سائق سيارة اتفق له أن رأى إبراهيم حداد في الشارع فهجم عليه بسيارته يريد دهسه فانحاز عنها حداد فأصابه جانبها وألقاه وأصيب برضوض. أما الأُوَل فراقبوا عارف الغريب حتى رأوه يدخل بيته ليلاً فاقتحموا المنزل ودخلوا غرفته وأخرجوه من سريره وضربوه ضرباً مبرحاً أبقاه طريح الفراش نحو عشرة أيام في أحد مستشفيات بيروت.
وقد أعطى هذا التأديب نتيجة جيدة، فالصحافيون الآخرون الذين كانوا يفكرون باختلاق الإشاعات الكاذبة عن الحزب السوري القومي تهيبوا الموقف وسكتوا سكوتاً عميقاً مدة طويلة.
سعت الحكومة وراء الذين نفذوا التأديب، وبواسطة إفشاء امرأة أحد الذين اجتمع الأعضاء في منازلهم تمكنت من إمساك طرف الحبل. وبالتدريج أخذ التحري يقبضون على من تبلغهم أسماؤهم من رجال الحزب وعلى غيرهم ممن يظنون به. وذات يوم دهموا مكتب جورج حداد وقبضوا عليه1 ووجدوا في جيب جبته نسخة «مرسوم الطوارى» المشار إليه. وقد وجدت هذه النسخة معه خلافاً للتعليمات الصادرة إليه بإخفائها في الحال في مكان أمين، فساقوه إلى السجن وصادروا المرسوم الذي كان وسيلة لفتح تحقيق جديد في قضية الحزب السوري القومي، وبما أن المرسوم يحمل توقيع الزعيم فقد صدرت أوامر الحكومة اللبنانية بتوقيفه.
وفي صباح الخامس والعشرين أو السادس والعشرين من حزيران (1936م) خرج القومسيار فريد شهاب في نحو عشرين من رجال التحري يقصد منزل الزعيم تجاه الجامعة الأميركانية في بيروت، فلما بلغه، وكان الزعيم فيه، وضع عدداً من الرجال حول المنزل وأخذ عدداً آخر وتقدم بهم من باب منزل الزعيم وطرقه، فلما فتح الباب دخل تواً برجاله إلى داخل المنزل. وكان دخوله مجازفة كبيرة، لأن منزل الزعيم كان مخفوراً من الداخل بجريدة من الأشداء المسلحين بالمسدسات الأوطماطية [الأتوماتيكية]، فما كاد القومسيار يصبح في بهو الدار حتى هبّ الحرس بصفرة من حارس الباب وخرجوا من الغرفة الأمامية وأحاطوا برجال التحري، فارتفعت ضجة جعلت الزعيم يخرج من غرفته ليرى ما الخبر، فوجد رجاله يطوقون رجالاً غرباء دخلوا بلا استئذان وهم معهم في جدال وللحال تقدم كبير الحرس من الزعيم وأخبره بحقيقة الأمر فتقدم الزعيم وسأل من هو المقدم على التحري فأجابه شاب أنه هو، وقال آخر من رجال التحري مشيراً إلى الشاب: «هذا القومسيار المير فريد شهاب» فسأله الزعيم: «ماذا تريد وما شأن هؤلاء الرجال هنا؟» فقال: «نحن مرسلون من قبل العدلية لسؤالكم الحضور أمام قاضي التحقيق». فقال الزعيم: «وما شأنكم مع رجال الحزب هنا ولماذا تثيرون هذه الضجة وكيف تجرؤون على دخول منزلي دون استئذان»، فأجاب القومسيار: «قلنا لهم أن لا يعترضونا وأن يدعونا ننفذ مهمتنا».
فغضب الزعيم لهذه الوقاحة وانتهر قومسيار التحري قائلاً: «في هذا المنزل لا يحكم أحد سواي وعلى هؤلاء الرفقاء لا يوجد أمير غيري، فإذا كنتم ترغبون بتجنب العواقب الوخيمة التي لا بد أن تعود عليكم فأنصح لكم بالخروج من حيث أتيتم في الحال قبل أن يمزقكم هؤلاء الأبطال، ومن كان منكم يحمل رسالة إليّ فليس له طريقة غير الاستئذان حتى يأتيه سماحي، فماذا تختارون؟».
وكان عدد من رجال الحرس قد أخذوا مراكز يتمكنون من السيطرة منها بمسدساتهم على الموقف، فخاف رجال التحري العاقبة فانسحبوا وبعد قليل أقبل القومسيار وحده مستأذناً بالدخول فجاءه الإذن بالدخول إلى غرفة الانتظار. وفي هذه الأثناء وفد على الزعيم بعض العمد كالأمين مأمون أياس والأمين جورج عبد المسيح، ثم وفد رئيس مجلس العمد الأمين نعمة ثابت وناموس الزعيم الأمين فخري معلوف، وجرت مخابرات تليفونية بين مقر الزعامة وبعض مراكز الحزب واتخذت تدابير احتياطية عظيمة وجاءت قوة من رجال الحزب ورابطت على مقربة من منزل الزعيم، وجاء قائد القوة ليخبر الزعيم بالتدابير التي اتخذت وبأن القوة القومية مستعدة لتنظيف شوارع بيروت من الناس ليتوجه الزعيم أن يشاء. وكان هذا القائد يحمل رجاء الرجال المرابطين إلى الزعيم ألا يسمح هذه المرة بوصول يد الحكومة إليه.
الموقف أصبح واضحاً: الزعيم يعلم أن التحري جاؤوا لتوقيفه، لأنه بلغه توقيف جورج حداد وعيونه أخبرته بوقوع مرسوم الطوارى في يد التحري، ولكن قوة الحزب مسيطرة على الموقف والنفوس مستعدة للثورة. وإذا شاء الزعيم أمكنه شق طريقه إلى الجبل حيث تجتمع لديه قوة مسلحة لا تقل عن ثلاثة آلاف في يوم أو يومين. والزعيم يعلم أنه لو أن الأمر مع الحكومة اللبنانية وحدها لكانت مسألة انتصار الحزب النهائي مسألة ساعات أو أيام قليلة، ولكن المسألة ليست مع الحكومة اللبنانية وحدها بل مع الدولة الفرنسية المتسترة وراء الحكومة اللبنانية. وكان الزعيم يعلم أيضاً أن قوة الجيش الفرنسي في البلاد تبلغ نحو الستين ألفاً مجهزين بأحدث الأسلحة وبأدق وسائل المخابرات والمواصلات وبالخبراء لكل نوع من أنواع السلاح، وأن قوة الحزب السوري القومي المادية ليست شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى الفرنسيين، مع العلم أن المدد يمكن أن يأتي الفرنسيين بسرعة من إفريقية أو فرنسية. وأن نوع السلاح الموجود في سورية هو البنادق وهي كلها من الطراز القديم، لأنها بقايا ما خلّفه الجيش الألماني ــــ التركي في الحرب الماضية. فالثورة في هذه الظروف لا سبيل لفوزها النهائي ولا نتيجة لها غير تقتيل عدد كبير من رجال الأمة، كما جرى في الثورات الاعتباطية التي نشبت في الماضي في الشام وفلسطين. ولم يكن غرض الزعيم إنشاء بطولة وهمية على جماجم الأبطال فدرس الموقف مع الأركان الذين حضروا، وقرر ألا يجيب رجاء العمد وضباط الحزب أن يصون نفسه. فوضع الزعيم المراسيم التي يعيّن فيها مجرى الأمور في أثناء توقيفه ويعيّن الهيئات المتعاقبة على الأمر، ثم أذن لقومسيار التحري بالدخول عليه فدخل، فسأله ما يريد بلّغه رسالة قاضي التحقيق فنهض الزعيم وهو هادى مبتسم ابتسام الظافر على الجبن والخوف ودعا الفومسيار ليرافقه وتوجه معه إلى دار القضاء حيث أصدر قاضي التحقيق مذكرة غير موقتة بتوقيفه وأودع السجن.
هذه البطولة الهادئة الحكيمة التي تظهر لنا نفساً عظيمةً تأنف من الالتجاء إلى المحاولات العقيمة التي يستر بها الصغار ضعفهم وجبنهم، هي أعظم من كل بطولة ظهرت في المعارك الدموية الهزيلة التي جرت في سورية تحت الانتداب.
إن سعاده لم يشأ أن يجعل الحزب حامياً له، بل شاء أن يكون هو حامياً للحزب بنفسه. ولو شاء الزعيم لأضرم ثورة لم ترَ لها سورية مثيلاً، ولما عاد إلى السجن ثانية.
إننا وجدنا رجالاً آخرين يهربون عند كل شدة ويتخلون عن مسؤولياتهم، هم أصحاب البطولة القزمية، أما أنطون سعاده فيعلو علواً كبيراً على هذه البطولة الحقيرة.
فهل يوجد ما هو أشد مضاضة على النفس الأبية من رمي الرجل الذي شق طريق النهضة السورية القومية بنفسه وجسده، مهاجماً بتلك ودافعاً بهذا، بتهمة الهرب التي يجب أن تلصق بجميع المتزعمين المشعوذين الذين لا محل لهم في النهضة السورية القومية.
وهل توجد في العالم قباحة أشد من قباحة الطعن من الوراء في كرامة أعظم قائد ظهر في سورية منذ عهد هاني بعل إلى اليوم؟
أهكذا يكافأ البطل الذي أجود القومية وقام يدافع عن كرامة الأمة بنفسه، مقدماً للجيل الجديد أعظم أمثولة في النزاهة والشجاعة والإقدام التضحية والصبر والمثابرة؟
هاني بعل
للبحث استئناف
أسباب وأسباب رسالة الزعيم إلى القروي
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد (106)،
29/3/1941م
من قراءة النقد المستعجل لديوان (الأعاصير) خاصة «ولشعر» رشيد سليم الخوري عامة، الذي تقدم هذه المقالة، يدرك القارى الأسباب الجوهرية التي دعت الزعيم لمنع قراءة (الأعاصير) في الأوساط القومية، ودفعته إلى محاولة إنقاذ صديقه قديماً الذي كان أديباً بسلوكه، عارفاً حده قبل أن يأخذه الهوس «بالخلود»، رشيد سليم الخوري، فكتب إليه من الأرجنتين الكتاب الآتي نصه:
»صديقي العزيز رشيد سليم الخوري،
لم أسرع في أمر الكتابة إليك، لأن أموراً ملحةً كانت تتطلب عنايتي واهتمامي كل المدة التي مضت على مغادرتي سان باولو، والأمور الملحة في شعبنا المائع النفسية، المبلبل الفكر، كثيرة جداً ومعقدة جداً ويزيدها تعقداً كثرة من يعيث فيها من السفسطائيين والنفعيين والرجعيين المولّدين فوضى تضيع فيها المناقب والأخلاق والمواهب والمطالب.
كان سروري كبيراً بإعادة عهد صداقتنا الأولى، صداقة الثقة والحب والأخلاق، وهذه الصورة هي التي أريد أن أحتفظ بها لما فيها من دقائق جمال سوري نفسي. إنها صورة يمتزج فيها مظهر الوطني والشاعر امتزاجاً لا يؤثر على خصائصها المستقلة، وأنا أفهم الوطنية غير السياسة، وأفهم الشعر هنا غير المواضيع التي تعالجها الشاعرية.
إنك أهديت إليّ (الأعاصير) وأنا بعد في الوطن، لا يعرف أصدقائي الأُول عني سوى أني «أديب وطني»، ولكنك لم تتناول مني كتاب شكر أو تهنئة أو ترحيب، ولا رأيت لي مقالاً أو كلمة في ديوانك الجديد، كما كان ينتظر من «أديب وطني» وصديق للشاعر، ثم كان أنك أهديت إليّ نسخة ممتازة التجليد في سان باولو سأحتفظ بها ما أمكنني ذلك وسط هذا الاضطراب العظيم في حياتي وشؤونها.
إني أقدر هذه الهدية وأرى فيها روح الصديق الشاعر، ولا أكتمك أني لا أود أن أقرأ مقاطع معينة من (الأعاصير) كالتي تجعلنا أحقر من أن نهدي إلى الأندلس السلاما ولا تشير، ولو من طرف خفي، إلى القوى الكامنة فينا وقرب نهضتنا التي نؤمن بها، وعندما أقول «فينا« أعني نحن بالحقيقة، أي نحن السوريين الذين أنت أيضاً تعنيهم حين تقول «خبرينا كيف نقريك السلاما».
«إني أرى حال انحطاط شعبنا قد طغت على شاعريتك وخنقت الشعور بقوى الأمة السورية الكامنة وبوجود الطبيعة السورية. فخرجت (الأعاصير) وغيرها من شعرك الجميل شعراً جميلاً من حيث هو مظهر فني من مظاهر الشعور، ولكنه شعر مؤلم للنفس السورية المستفيقة لأنه شعر يصفعها ويرذلها ويحقرها ويزيد في إفقادها الثقة بنفسها. وكم وددت أن يتناولك الوعي القومي فتستفيق شاعريتك لنفسيتك السورية وللنفسية السورية بذاتها فيخرج لنا شعر آخر امتزج فيه الوعي بالشاعرية، فإذا هو مزيج متجانس تجانساً بعيداً ينتج حرارة لذيذة مقوية ونوراً هادياً، وهو غير المزيج الذي لا يولد غير اللهيب اللاذع، القاتل.
منذ آخر مرة تحدثت فيها معك في شؤون الوطن مرّ وقت تطور فيه الموقف تطوراً خطيراً، من نظرة تلقيها على الموقف الجديد تدرك أن جميع تقديراتي لمؤتمر مصر ومؤتمر لندن، في صدد مسألة جنوب سورية وغيرها من المسائل السياسية، قد أصابت كبد الحقيقة، وأتمنى أن تكون قد اقتنعت كل الاقتناع بأن القضية السورية هي قضية قومية يجب أن يقوم بها السوريون باعتبارهم أمة موحدة المصالح والحقوق والإرادة. وإنه إذا كان سياسيو الأقطار العربية يريدون نجاح قضيتنا فما عليهم إلا أن يؤيدوا مواقفنا، لا أن يتناولوا هم أنفسهم قضيتنا ويجعلوها جزءاً من قضاياهم الخاصة. ألم يؤلمك أن يتبادل وزير خارجية مصر ووزير خارجية تركية الأنخاب بزوال وحدة الشام وفكرة الوحدة السورية في الوقت الذي يسلّم فيه لواء الإسكندرونة الغني إلى الأتراك؟
قد قدرت موقفك في رد أكاذيب الذين أرادوا أن يستغلوا اسمك كما استغلوا أسماء غيرك للطعن في الحزب السوري القومي وزعيمه (إشارة إلى تكذيبه في (سورية الجديدة) ما نشر في صحافة الوطن من الأخبار المغرضة التي قالت الصحافة المذكورة إنها واردة في كتاب من السيد رشيد الخوري إلى أحد أصدقائه في الوطن) ووصول الموسى إلى ذقنك بجعلك تدرك بوضوح نوع السلاح الذي يحاربون به الحزب السوري القومي ونهضة الأمة السورية».
وتاريخ هذا الكتاب في (16) آب سنة (1939م). وقد ورد الزعيم جواب السيد رشيد سليم الخوري وهو مؤرخ في (20/9/1939م) وقد قلد فيه الخوري أسلوب الزعيم وانتحل بعض مواقفه. فقال إن كتاب الزعيم ورده وهو «في غمرة من الشؤون المرهقة التي لا تقبل التأجيل» وقلّده في الإشارة إلى تبلبل الحالة النفسية. وإننا نقتبس القسم الأخير من كتاب الخوري وهو القسم الذي له علاقة بالموضوع العام:
«لقد بسطت من أمري لك ما لا يهم غير الأصدقاء مثلك وفيه إقامة العذر لتأخر جوابي. ولا أكتمك أني كنت شديد الرغبة في معرفة أخبارك ومدى رجائك انتصار قضيتك التي أسفت أسفاً شديداً أنني لم أقتنع بصواب كل نظرياتها لأقف عليها جهدي الأدبي والروحي، وأرضي نفسي بالعمل لجانب الصديق الحميم القديم السوري الأبيّ الخليق بالزعامة. ولكني مع هذا الأسف أتعزى برباطتي واحتمالي الوخزات المباشرة وغير المباشرة من جانب بعض كتّاب الحزب، وإني كنت ولا أزال أحاول تهدئة ثائر بعض الرفاق الناقمين ومنعهم بدالة الإخاء عن إشهار الحرب على الحزب خوفاً من أن يكون صوابه أكثر من خطأه فنضر من حيث نقصد النفع ومرجع هذا التردد هو إلى سبب اختلاط الأمور وتشعب المذاهب السياسية وعدم استقرار الحالة في هذه الأيام البابلية.
إني بإهدائي كتابي إليك لم أفعل غير واجبي نحو كل أديب وخصوصاً إذا كان صديقاً، وأما نقدك بعض النقط الفكرية في شعري فأشكره لك بناءً على حسن ظني بغايتك وعسى أن يتاح لنا الاجتماع مرة أخرى ليتسع مجال القول في هذا الموضوع وسواه، فإلى اللقاء أيها الصديق بإذن الله .
أخوك المخلص
رشيد سليم الخوري
من مقابلة هذين الكتابين تتضح عظمة نفس الزعيم وقوة مناقبه وكرم أخلاقه، وينجلي موقف رجل مشوش الفكر مضطرب النفس يحاول التوفيق بين الضلال والهدى وترقيع حالة رثة ظهرت فيها الخروق وكشفت ما تحتها.
قلنا إنه كان قد بلغ الزعيم، وهو بعد في سان باولو، بعض ما كان رشيد سليم الخوري يغتابه به ولكنه لم يشأ أن يدع صديقه القديم ينحدر إلى هاوية المنافقين والزنادقة، من غير أن يحاول إنقاذه ورده إلى جادة الصواب وقد تحققنا أن رشيد سليم الخوري أنكر في حضرة الزعيم أنه يغتابه ويغتاب الحركة القومية واعترف فقط بموقف المتردد الذي يثبته في كتابه المتقدم. ومما يجدر بالذكرل أنه حين قدم الزعيم البرازيل، وبعد أن فرغ من الاستقبالات الأولى لوجوه الجالية السورية في سان باولو وأدبائها افتقد صديقه القديم رشيد سليم الخوري، فبلغه أنه مريض ملازم فراشه. فخفّ إلى زيارته والاهتمام بأمره فما كاد يستقر به المقام ويتطرق الحديث إلى المسألة القومية حتى قدم لزيارته الأديب السيد ميخائيل فرح صاحب «مكتبة فرح». وبعد جلوس هذا الأخير عاد البحث إلى المسألة القومية، فأخذ الزعيم يشرح حقيقة الحركة القومية ومراميها. وللحال أخذ رشيد الخوري يسأل لماذا «العداء للعرب والعروبة» الأمر الذي دل على أن الخوري كان يقبل بلا رواية أو فحص ما يختلقه أعداء الحزب السوري القومي عنه، فاستغرب الزعيم ذلك وشرح موقف الحزب من العالم العربي وأوضح أن غايته إنهاض سورية أولاً لتصير قوية وقادرة على معالجة شؤون العالم العربي البذي هي فيه، وأن مبادىءالحزب وشرحها تعلن أن سورية إحدى الأمم العربية وأنها لن تتنازل عن مركزها في العالم العربي وعن رسالتها إلى العالم العربي. وعتب على الخوري لقبوله الإشاعات من غير روية ولا بحث عن الحقيقة حينئذٍ اعتذر الخوري بأن المهاجرين كانوا يجهلون حقيقة الحزب السوري القومي وغايته، وأنهم قرأوا كتابات كثيرة ضده، وبهذا الاعتراف من الخوري غادره الزعيم وخرج معه السيد فرح الذي رافقه إلى مركز المدينة.
في الأيام التالية، بعد أن تعافى الخوري وأخذ يجتمع بإخوانه، أخذ يطعن سراً في الحركة القومية ويؤيد موقف المقاومين الذين كانوا يتخذون من الإشاعات الملفقة عن «عداوة» الحزب السوري القومي للعرب وللإسلام سلاحاً يحاربونه به عند العامة الجاهلة حقائق الأمور. وحين يجتمع بالزعيم كان يطري على مواهبه ومقدرته وجهاده، ويمدح الحزب السوري القومي وغايته بشي من المواربة و«دهاء» الدبلوماسية العتيقة. فكان الزعيم يحاول دائماً أن يجد في تردده ومواربته نتيجة قصر مداركه في الأمور الاجتماعية والسياسية وقلة علومه وسطحية تفكيره.
وبينما كان الخوري يدسّ على الزعيم في الأوساط البعيدة عنه، كان يتظاهر في الأوساط العالية القريبة منه بتقدير عظيم للزعيم وحركته وتحبيذه كما جرى تكراراً في منزل الأديب والتاجر المعتبر السيد إلياس عاصي وبحضور عدد من الأصدقاء. وأحياناً كان الخوري يتجاوز هذا الموقف إلى التظاهر بالحملة على ناكثي عهد الصداقة مع الزعيم، كما حصل في أثناء رده زيارة الزعيم لبعض الصحافيين. ما حمل على «صديقه» إلياس فرحات وأخذ يغتابه. وحكاية الأمر أن الزعيم قرر رد الزيارة لأحد الصحافيين السوريين وكان رشيد سليم الخوري يغتاب هذا الصحافي ويطعن في سلوكه. فلما استقر به المقام عنده إذا برشيد الخوري يدخل الغرفة من الشرفة المطلة على الحديقة وهي غير عالية. فتعجب الزعيم من هذه الحالة، وازداد تعجبه من أمر الخوري حين أخذ، في عرض الحديث، يغتصب المواقف لإطراء الصحافي المشار إليه. وفي أثناء الحديث روى ذلك الصحافي قصة نشر كتاب فرحات إلى صديق له وفيه طعن في الزعيم وفي الحزب السوري القومي. وقال إن فرحات ألّح بطلب نشر كتابه «لأن له مصلحة في ذلك». عندئذٍ صاح الخوري «أهذا هو الوفاء للصداقة التي يذكرها فرحات في كتابه إلى الزعيم في سجنه معلناً أنه جندي من جنود سعاده؟».
تجاه هذه المظاهر من رشيد الخوري كان الزعيم يعتقد أنه يمكن انتشال الخوري من حضيض المثالب الانحطاطية الذي انحدر إليه، وتلمس له الأعذار وحمل بعض ما بلغه على محمل المبالغة ولذلك وجدنا الزعيم في كتابه المثبت آنفاً يتجاوز عن كل ما سمع ويخاطب رشيد الخوري مخاطبة من هو في منزلة الصديق.
هاني بعل
للبحث استئناف
أسباب وأسباب أيضاً
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد (107)،
5/4/1941م
قلنا في المقالة السابقة إن الزعيم أراد، وقد بوغت بترجرج نفسية رشيد سليم الخوري وتبلبل أفكاره، أن يقوم بمحاولة أولى وأخيرة لإنقاذه من حمأة النفاق والزندقة التي أخذ يتمرغ فيها ويهبط غائصاً في أرضها الدلغانية، فكتب إليه كتابه البليغ المنشور في عرض المقالة السابقة. وكان ذلك قبل أن يقف على مبلغ تورطه في حمأة النفاق بدخوله في مسألة المعتقدات الدينية في خطبه و«محاضراته» التعصبية، وإثارته الفتنة بين أبناء أمتنا السيئة الطالع به وبأمثاله واستحقاقه القول: «الفتنة نائمة لعن الله موقظها». وقبل أن يقف على قصيدته التي نشرها بعنوان «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك». ومما لا مشاحة فيه أن الزعيم لو كان وقف على هذه القصيدة المثالبية لما كان أقدم على محاولته المذكورة، ولما كان كلّف نفسه عناء الكتابة إلى شخص زال من نفسه كل شعور بالكرامة الإنسانية فاندفع في طريق المثالب لا يبالي بشي جميل أو قبيح، لقاء إشباع شهواته.
وإن من تأمل في أبيات القصيدة المذكورة المعبرة عن نفسية الناظم تعبيراً صادقاً يكشف عن شهواتها الدنيئة التي تقز منها النفس، شعر أنه تجاه نفسية فقدت كل إدراك للقيم الروحية وكل شعور بجمال المثل العليا. وقد نشرنا في المقالة الثانية من هذه السلسلة أهم أبيات القصيدة المشار إليها. ومنها يظهر جليا أن رشيد الخوري لا يهمه شعور أي شخص آخر وإحساساته، ولا يهمه شي آخر غير قضاء لبانته منه فإذا قضاها، حتى ولو كان ذلك بواسطة التذلل والتزلف والمداهنة، وقف وقفة الجبان المنتصر وأخذ يباهي ويعتز. وأي جبن أذل من وقفة جبان غدر بفتاة ركنت إلى الثقة بضمير امرى فسلبها عاطفتها قسراً ثم وقف محتقراً شعورها، مزدرياً آلامها ونظم في حيوانيته القبيحة قصيدة حاول أن يضاهي بها قصيدة بشر بن عوانة بعد قتله الأسد! وأي جبان أنذل من جبان يعتز باستضعافه امرأة ويفاخر بغلبها بالحيلة والمراوغة والغدر.
وإن رجلاً لا يستنكف مع هذه القباحة مع امرأة ساقها نكد طالعها إلى الوثوق بوداده أية فضيلة إنسانية بقيت في قلبه؟ وماذا يقصد حين يقف متودداً إلى جماعة دينية، مثيراً الفتنة بينها وبين جماعة دينية أخرى؟ وإن الذي يحتقر سلامة نية امرأة وشعورها هل يحترم سلامة نية رجل وشعوره حين تكون له غاية خصوصية؟
أجل، إن الزعيم لو كان وقف على حقيقة نفاق رشيد الخوري وتدجيله الديني الذي سيجيء تحليله، لما كان خطر له، ولا في الحلم، أن يكتب إليه، لأن من بلغ في النفاق والتدجيل هذا المبلغ فقد أضله الله {أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً}1.
وظاهر أن الزعيم لجأ، في كتابه إلى الخوري، إلى الصراحة، فأشار إلى فساد السفسطائيين لينبّه «القروي» ويحمله على تجنب الوقوع فيه. وصرح له أنه لا يعلق أهمية ما على «شاعرية» الخوري الموهومة، وأنه يريد أن يرى فيه الصديق الحبيب ذا الأخلاق، الجديرة بالثقة. وأعلن له بصراحة نادرة المثال أنه غير راضٍ عن «شعره الوطني» السخيف وبيّن له الأسباب الجوهرية التي أوجبت عدم رضاه وأهمها: إهانته الأمة السورية التي ينتسب إليها تجاه أمة غريبة، وتحقيره السوريين وعدّهم عبيداً أذلاء وبثه روح القنوط والخيبة وفقد الثقة، إلخ. وقد تجنب الزعيم، ما أمكن، إبداء رأيه في «شاعرية» الخوري، لكي لا يصغر «القروي» في عين نفسه ويقع في مرض المكابرة العسير الشفاء. فواضح إذن أن الأسباب التي دعت الزعيم إلى كتابة كتابه المشار إليه إلى رشيد الخوري هي أسباب إصلاحية فيها قول الحق بصراحة وبما أمكن من اللطف.
وواضح أيضاً أن الزعيم لم يلجأ إلى خداع رشيد الخوري بعبارات دبلوماسية مفعمة بالإطناب الكلامي الفارغ «بشاعريته» كما فعل عدد من المشتغلين بالسياسة الشخصية، بقصد اكتساب مودة «القروي» واستغلال موقفه.
وإن الأسباب الجوهرية التي عمل بها الزعيم تختلف كل الاختلاف عن الأسباب التي دعت أمثال المير شكيب أرسلان وأمين الريحاني المتوفّى حديثاً إلى كتابة كتب دبلوماسية العبارة في مديح (الأعاصير). ولا حاجة للإطالة في أن هذه الكتب الدبلوماسية دعت إليها السياسة الشخصية. فقد ظهر من الأمثلة التي قدمناها في المقالات السابقة أن نظم «القروي» لا يمثل غير الصخب والعي والزحير. وإذا نظرنا إلى الحملة اللاذعة التي قام بها أمين الريحاني في خطب وفي كتابه (أنتم الشعراء) على الباكين والنائحين وجدنا أنه في كتابه إلى رشيد الخوري، قال غير ما يعتقد في الشعر ومدح الخوري لأسباب سياسية شخصية، لا لأسباب شعرية أو أدبية، وقس على ذلك.
ماذا كانت المقابلة من جانب الخوري لإغضاء الزعيم عن هفواته الأدبية وسقطاته الأخلاقية، ولمقابلته مواربة الخوري ورياءه بالصراحة والحق، ولاهتمامه بأمر إصلاحه وإنقاذه؟
كانت أن رشيد الخوري أخذ يمعن في اغتياب الزعيم والطعن به والدس عليه في أثناء تجواله التجاري في أنحاء البرازيل!
وإذا قابلنا بين كتاب رشيد الخوري إلى الزعيم والمطاعن التي كان يدسها بين معارفه ضد الزعيم، تبين لنا أن الخوري كان، في كل موقف، ذا وجهين ولسانين، فهو في كتابه يعترف أن سعاده هو «السوري الأبي الخليق بالزعامة». ولكنه كان يريد، قبل الإقدام على العمل «إلى جانبه»، أن يعرف «مدى رجاء الزعيم انتصار قضيته». وهذا يعني أنه لو رأى رشيد الخوري الجماعات السورية في المهجر تترك عنعناتها الدينية بسهولة وتقبل على النهضة القومية بسرعة لكان له موقف غير هذا الموقف. ثم هو يتظاهر بالغيرة على الحزب السوري القومي، ويدّعي أنه «كان ولا يزال يحاول تهدئة ثائر بعض الرفاق الناقمين ومنعهم بدالّة الإخاء عن إشهار الحرب على الحزب، خوفاً من أن يكون صوابه أكثر من خطأه فنضرّ من حيث نقصد النفع». وفي القسم الأول من عبارته شي يشبه التهديد كأنه لم يقرأ في (سورية الجديدة) قول سعاده المنشور تكراراً: «إني لا أريد انتصاراً بارداً، هيّناً دون حرب» وكأنه لم يقرأ أيضاً أن سعاده يرفض التوفيق بين النفسية الجديدة والنفسية العتيقة، ويرفض إيقاف الصراع بين جيلين «جيل قديم يريد مقوياً ينعش قواه المنهوكة ويساعده على الاستمرار في خصوصياته، وجيل جديد يريد سحق الخصوصيات ويشعر في قوّته القدرة على تنفيذ ما يريد».
إن الحركة السورية القومية التي هي حركة محاربة، مهاجمة لا تخشى «إشهار الحرب» من قبل بعض «رفاق» الخوري. ولكن رشيد الخوري كان مراوغاً ومنافقاً في ما يقول. ففيما هو يتظاهر بأنه لا يريد مقاومة الحزب السوري القومي، كان يدّس على الزعيم سراً ويعدّ العدة «لإشهار الحرب» على الحزب في «المحاضرة» التعصبية التي أعدها لمولد النبي محمد، وطعن فيها الإسلام والمسيحية معاً كما سيجيء!
وقد تقدم لنا القول إن أسباب الهوس «بالخلود» هي التي دفعت رشيد الخوري إلى الجهر بعداوته للحزب السوري القومي، الذي يعترف هو صراحة بجهله «صوابه وخطأه»، والذي يطعن عن جهل بداع غير داعي الحق ما هي قيمته؟ ولكننا قد اكتشفنا أسباباً أخرى هي أسباب سياسية، لا علاقة لها بالمبادىء والنظريات. وحقيقة أمر هذه الأسباب أن رشيد الخوري يخدع المير شكيب أرسلان، بمقدرته على استغلال فكرة المؤتمر السوري الذي نشرت (سورية الجديدة) منذ نحو سنة أو أكثر أن عناصر سورية قومية ولا قومية تسعى لعقده بمناسبة وجود زعيم قضية الشعب السوري وحقوقه في هذا المهجر. وأخذ يغري المير شكيب بمزاحمة الحزب السوري القومي على هذا المؤتمر. وفي الوقت عينه، وبعد أن نال شيئاً من التحبيذ، أخذ يشدد كلامه لإثارة فتنة التعصب الديني، خادعاً أحد الفريقين الدينيين أنه يفضل دينه على دين الفريق الآخر ليستند على حركة تعصب ديني يستغلها لمآربه المستورة، كما سيجيء درسه.
ولما كان رشيد الخوري عاجزاً، كما كان عاجزاً غيره، عن نقد مبادىءالحزب السوري القومي وإظهار أي ضعف فيها، فقد كانت دعاوته مبنية على الاختلافات التي لا يوجد نص أو حادث يثبتها. وكان الدس السري أهم سلاح استعمله للطعن في شخصية الزعيم. وقد أثبتنا في المقالة الأولى من هذه السلسلة نسخة من أهم أقوال الخوري ضد الزعيم والحركة القومية ولا بد لنا من تناولها هنا، لأنها أصبحت مثالاً لما يشيعه أعداء الحزب السوري القومي عنه.
من أهم مطاعن رشيد الخوري في الزعيم قوله: «ما معنى هجر سوري بلاده، تاركا وراءه امرأته وأولاده أليس هذا شأن أنطون سعاده، وقد ترك رفقاءه يتحملون ويلات الحالة الحاضرة في الوطن وجاء يتنقل سليماً في المهاجر الأميركية؟».
رشيد الخوري الذي هجر بلاده، بعد أن منّت عليه بكل سعاده، وهو يشتمها ويلعنها ويقول فيها: «أبيت جوارها أرضاً بغير الذل لا ترضى» وأمّ أميركية سعياً وراء الأرباح التجارية وأخذ يتجول للتجارة في أنحاء البرازيل يّعي أن هجره وطنه وسعيه وراء الربح الشخصي هو «تكريس نفسه لتحرير شعبه». ويقول في أنطون سعاده الذي جاء المهجر السوري عملاً بخطة مرسومة ومقررة في الحزب السوري القومي، حاملاً الحرب بين النهضة القومية و«النهضة الرجعية» إلى الجاليات السورية ليشق طريق العمل القومي الصحيح أمام عناصرها الجيدة، ويضرب بيد من حديد على أيدي تجار الوطنية وبضاعة الأدب الفاسد، إنه قد تخلى عن رفقائه في الوطن وجاء أميركة ليتنقل سليماً(!) فيها بينما رفقاؤه في الوطن يتحملون جور الحالة الحاضرة!
ولا يستحيــي رشيد الخوري من الحقائق التي تجي كل يوم بالشاهد تلو الشاهد على إفكه وبهتان قوله فقد أذاع الحزب السوري القومي في الوطن، بعد سفر الزعيم إذاعة رسمية تعلن للقوميين أسباب رحلته إلى أوروبة والمهجر. وهذه الإذاعة الرسمية وزعت في جميع أنحاء الوطن ونشرتها صحف في الوطن والمهجر. وقراءة هذه الإذاعة تثبت أن الزعيم على اتفاق تام مع رفقائه وأنه لم يتركهم ولا يتركهم ولن يتركهم وأنهم هم لم يتركوه ولا يتركونه ولن يتركوه.
أنحتاج، لإثبات هذه الحقيقة وتكذيب مطاعن رشيد سليم الخوري الأثيمة، إلى غير إذاعة الحزب السوري القومي نفسه المشار إليها، وغير البيان الذي أذاعه ناموس المجلس الأعلى العميد الأمين مأمون أياس ونشرته (الزوبعة) في أول عدد صدر منها نقلاً عن صحيفة (البشير) الصادرة في بيروت في الثامن من شهر نوفمبر/تشرين الثاني (1939م)؟
إننا نعيد، هنا، نشر الفقرتين الهامتين من البيان المذكور لكي لا يبقى وجه للتأويل المغرض:
«إنني أتحدى الصحافة أن تنشر صور الوثائق التي تدعي وجودها لتثبت أن مؤسسة الحزب السوري القومي تعمل لسوى المبادىء الصحيحة التي أعلنتها مراراً... أو تثبت أن للحزب علاقة بدولة أجنبية».
«إن السوريين القوميين عموماً يضعون بزعيم نهضتهم ثقة تامة لا تتزعزع، وإنني أصرح باسمهم أننا نشارك زعيمنا الحر كل مسؤولية يتعرض لها، إن سعاده والحزب السوري القومي وجميع القوميين يشكلون وحدة لا تتجزأ».
الإمضاء
مأمون أياس
الناموس الأول للحزب السوري القومي
والآن يمكن القرّاء أن يحكموا بين الحقيقة الصادرة من مراجع رسمية في الحزب السوري القومي والأكاذيب التي اختلقها رشيد سليم الخوري ليُظهر الزعيم بمظهر من قد تخلى عن رفقائه وتخلى رفقاؤه عنه وأن ينصفوا بين كلام سوري قومي حر، شجاع، وسوري لا قومي ذليل جبان.
وكم هو ظاهر اللؤم في قول رشيد سليم الخوري إن الزعيم «جاء يتنقل سليماً في المهاجر الأميركية» وليس أبعد عن الحقيقة المؤيدة بالوقائع من هذا الإفك. فقد تعرض الزعيم ويتعرض في المهاجر الأميركية لمثل ما تعرض له في الوطن من خيانة الخائنين وسعي الساعين أمثال رشيد الخوري. وقد سجن في البرازيل موقوفاً بتهم غريبة دسها دساسون سوريون أمثال «الشاعر القروي»، ولم يطل الأمر حتى أظهر التحقيق بطلانها. أيعقل أن رجلاً يعرف الحق، وهو غير لئيم، يعود، بعد قيام هذه البراهين الساطعة، إلى اختلاق مثل هذه الإشاعات المغرضة، الأثيمة؟
إننا نعلم أنه يسوء كل منافق دجال في الوطنية أن يوجد الزعيم في المهجر الآن يحارب حرب القضية القومية ويعمل على شق طريق الحركة القومية بين المهاجرين ويقضي على تدجيل الدجالين، ولكن ذلك ليس بمانع الزعيم من متابعة عمله.
ليقل لنا رشيد الخوري ماذا يعمل هو نفسه في المهاجر الأمريكية، غير المتاجرة بالبضاعة الصناعية وبصناعة الأدب وغير سرقة أفكار الآخرين ونظمها وانتحالها لنفسه، وليقل لنا كم مرة سجن ونفي واضطهد وذاق غير لذة الفخر بغدره بامرأة في ساعة ضعفها؟
هاني بعل
للبحث استئناف
الباطل سلاح العاجز
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد (109)،
19/4/1941م
تناولنا في المقالين السابقين أهم قول حاول رشيد سليم الخوري أن يطعن به سراً الزعيم، محاولاً أن يلصق به تهمة الهرب من الوطن والتخلي عن رفقائه. وإذا كان لا بد من قول كلمة ختامية للبحث المتقدم فليس أجدر من الإشارة إلى أنه لا يمكن رشيد الخوري، ولا بوجه من الوجوه، أن ينفي أنه هو قد تخلى عن وطنه منذ زمان وأنه كان أبعد الناس عن الجهاد في سبيل عزّه، ومن أكثرهم عملاً على إذلاله.
وإذا كان يوجد سياسيون سوريون هربوا من حومة الجهاد هرباً فعلياً لا شك فيه، فهم السياسيون الذين يريد رشيد الخوري أن يجعل الإيمان بهم شرطاً للإيمان بسعاده!
ننتقل في هذه المقالة إلى تناول الأقوال الأخرى التي أوردها الخوري في معرض الطعن بسعاده، من غير أن نقف طويلاً عندها ليتسنى لنا إعطاء وقت أكثر للبحث الرئيسي المقصود من هذه السلسلة.
يقول الخوري: «إذا كان سعاده لا يؤمن بأعمال الأحزاب السورية الأخرى ورجالها، فنحن أيضاً لا نؤمن بأعماله» وهو قول لا يدل، بسذاجته، إلا على قصر مدارك قائله.
جعل الخوري الإيمان برجال الأحزاب السورية الذين أوصلوا الشعب السوري، بشعوذاتهم، إلى حضيض الفقر والعجز شرطاً للإيمان بسعاده وأعماله، ولكن الخوري لا يقيم دليلاً واحداً على السبب الموجب لهذا الشرط، فضلاً عن أنه لا يبين لنا من هم الرجال الذين يعنيهم، فإذا كان يعني رجال «الكتلة الوطنية» المرحومة فأين هم هؤلاء الرجال الذين ادعوا، ليخدعوا الشعب، أنهم لن ينفكوا عن محاربة فرنسة حتى ولو لم يبقَ من خلاف بينهم وبينها إلا على عقال؟!.
هؤلاء الرجال هم في طليعة السياسيين الدهاقنة الذين هربوا وتخلوا عن مسؤولياتهم في ساعة الشدة، وألقوا سلاحهم أمام الأجنبي المحتل ورموا بما ادعوا أنه قضية يعملون لها إلى الأرض.
وإذا كان يعني غيرهم فليذكرهم لنا بأسمائهم وليبين لنا ما وضعوا من مبادىءوقواعد وما قدموا به من أعمال غير تحريض الغوغاء المتعصب على القلاقل وبلبلة الحالة، ليستطيعوا أن يقولوا إنهم ذوو تأثير وشأن.
العميان، فضلاً عن المبصرين، يدركون أنه لو كان لسعاده شي من الثقة بهذه الطبقة السياسية التي تحسب نفسها فوق الشعب وتتخذه وسيلة لقضاء لباناتها لما كان وجد حاجة به لإنشاء الحزب السوري القومي، وشق طريق جديدة تسير عليها الأمة السورية نحو المستوى اللائق بها، بل لكان تبع رجال الطبقة المذكورة وانخرط في إحدى الشركات السياسية التي أنشؤوها للمضاربة في المساومة والبيع والشراء.
أليس مجرد إنشاء الحزب السوري القومي على أساسه القومي المتين دليلاً كافياً على أن سعاده قد رفس برجله كل ركام البضاعة السياسية التي جمعها أولئك المشعوذون، وجميع العقاقير وقشور البطيخ التي وضعوها عند سرير الأمة المريضة يجرعونها منها السموم المخدرة والقاتلة، مدّعين أنها أدوية ناجعة لجميع الأمراض والأوصاب، فكيف يعقل أن يعود باعث النهضة السورية القومية إلى التأمين على تدجيل أولئك الدجالين والقول بحسن علاجهم وصواب طرقهم؟
إن عقلاً سخيفاً؟ عاجزاً كعقل رشيد سليم الخوري، فقط يجيز مثل القول الواهي الذي أراد أن يطعن به الزعيم في ناحية منيعة من نواحي تفكيره وعمله.
لا نتناول بكثير ولا بقليل امتعاض رشيد سليم الخوري من الاستحسان الذي لاقاه إهداء الأديب القومي الكبير جبران مسوح كتابه (القاموس الحزين) إلى الزعيم.
كذلك لا نقف كثيراً عند قوله: «من أين للقوميين هذا المال الكثير؟» فقد علّقنا على هذا القول في الحلقة الأولى من هذه السلسلة بهذه العبارة: إن الخوري لم يبين مقدار ما سماه «المال الكثير» ولم يكلف نفسه سؤال دائرة التحقيق في سان باولو، حيث أوقف الزعيم، عن مصدر «المال الكثير»!
إن تهمة تسلّم «مال كثير» هي آخر تهمة يمكن أن يلجأ منافق إلى محاولة إلصاقها بالحزب السوري القومي. فإن متتبع تاريخ جهاد الحزب السوري القومي منذ أول نشأته إلى اليوم يجد أن قلة المال كانت أكبر صعوبة واجهها الحزب، وتغلب عليها بتضحيات عظيمة، ولو كان للقوميين «مال كثير» كما يدّعي، باطلاً، رشيد الخوري، لكان الموقف تغير من زمان، من جميع الوجوه، وأكبر برهان على أنه ليس للقوميين «مال كثير» يبذرونه هو أن رشيد الخوري قام يعاديهم ويطعن في زعيمهم بعد أن كان مدحه في مقالة أظهر فيها مناقب الزعيم ومؤهلاته الفكرية والشخصية لإبداع النهضة السورية القومية!!.
ما تبقى من أقوال رشيد الخوري لا يمكن أن يوصف بأكثر من أنه حجة لجأ إليها اللئام، ولا علاقة لها البتة بشأن الحزب السوري القومي، وواضح فيها كل الوضوح الاختلاق بقصد الطعن في شخصية الزعيم كقوله: «وماذا تنتظر من رجل كان يضرب أباه؟» وهو يعني به الزعيم، فماضي أنطون سعاده ماضٍ ناصع كله تضحية في سبيل راحة أبيه وإخوته الصغار الذين كان أباً لهم حين كانوا بعيدين عن أبيهم، وكان ساعد أبيه الأيمن في إنشاء وإدارة (الجريدة) و(المجلة). وجميع المقربين إلى المغفور له العلامة الدكتور خليل سعاده يعلمون أنه توفي قرير العين لوثوقه بأن ابنه أنطون سيحقق ما كان يتوق لرؤياه وما بذل هو كل حياته، عملياً، في سبيل إرضاء نفسه الطموحة به.
ولولا انحطاط مثالبي عظيم في نفس رشيد الخوري لما سولت له رمي الزعيم بمثل هذا الاختلاق الذي يعرف الخوري نفسه بطلانه، وهو الذي كان يزور الدكتور سعاده وابنه أنطون في منزله وفي إدارة (الجريدة). وكان يرى الوئام والتعاون بينهما، وهو اختلاق لا تسول نفس لها مقدار حبة خردل من نبالة الأخلاق لصاحبه إتيانه، من أجل شفاء حزازة صدر أو نيل فائدة مادية. وهذا صحيح، حتى ولو كان المقصود الطعن فيه غريباً وغير ذي تاريخ جهادي عظيم ومقام قومي أعلى في صميم الشعب، فكيف والمقصود الطعن فيه له هذا التاريخ وهذه المنزلة والطاعن يقول إنه صديقه؟!.
ولو كان سعاده كما يرميه رشيد الخوري فكيف يكتب له الخوري بلهجة الصديق الحميم، ويطلعه على ما لا يطلع غير الأصدقاء الشرفاء على مثله من شؤون حياته الخصوصية، كما يقول له في جوابه على كتاب الزعيم إليه المنشور القسم العمومي منه في عرض مقالة سابقة (الصفحة 45 أعلاه)؟
الباطل سلاح العاجز وكيد يرتد في نحر الكائد، وساء مصير المنافقين.
هاني بعل
للبحث استئناف
نثر النظم
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد (110)،
26/4/1942م
إيضاح لا بد منه:
تساءل أناس كثيرون ولا يزالون يتساءلون: لماذا هذه الحملة على رشيد سليم الخوري؟ فكأن جميع الأسباب الأدبية والاجتماعية والثقافية والسياسية الواردة في سياق هذه المقالات ليست سبباً كافياً لاتخاذ هذا الموقف الذي يضع حداً للتدجيل الأدبي والسياسي وللفوضى الثقافية في نطاق واسع في الجوالي السورية.
والظاهر أن هؤلاء المتسائلون لا يزالون يقيسون بالأقيسة العتيقة ويبحثون عن «السبب الشخصي» الذي يبرر إنشاء هذه السلسلة الدراسية. كل مسألة من هذا النوع تقتضي «سبباً شخصياً» عندهم، ولذلك يقولون «إيش عمل رشيد الخوري حتى استحق ها الحملة» وهم يعنون الذنب الذي ارتكبه رشيد الخوري ضد الزعيم شخصياً.
الحقيقة أنه لو بقيت الأسباب شخصية لما كنا نعيرها كل هذه الأهمية ونحن نعلم أن الزعيم لم يبالِ قط بالمطاعن التي توجهها إليه، سراً وجهراً، طائفة من أشكال وطبقات غريبة، من بقية أجيال الانحطاط، وفيها التاجر الأدبي والتاجر السياسي والطامع المغرور والمتعيش الصحافي وغيرهم من النفعيين.
وإننا ما عرضنا في المقالات الثلاث الأخيرة للمطاعن الشخصية التي وجهها رشيد سليم الخوري إلى الزعيم إلا لضرورة كشف ناحية من نواحي نفسية الخوري، لتكمل الدراسة في العقلية المنحطة الفاسدة التي تعرقل نهضة الأمة وسيرها نحو مثل حياتها الجديدة. ورشيد الخوري هو نموذج بارز منها يصح أن يتخذ قياساً لغيره فيها.
فالأسباب الأساسية لهذه المقالات، كما هو واضح، من قراءتها والتمعن فيها، هي أسباب المصلحة العمومية، لا أسباب شخصية.
والآن نتقدم إلى الموضوع.
لم نطل الشرح في المقالات الماضية في تبيان جميع عيوب منظومات رشيد سليم الخوري، والنظر في عيوبها جميعها أمر يطول شرحه. فتكاد لا تخلو قصيدة من قصائده من صورة مشوهة أو فكرة بتراء منتحلة. وقد سبق لنا القول إن الأفكار في منظومات الخوري هي شعث غير ملموم، فليس فيها فكرة واحدة أساسية ترجع إليها الأفكار المتفرقة، أما الصراخ والزحير والتحريض على الاستقلال من غير صورة واضحة أو فكرة صريحة، فلا تمثل غير شأن العاجز الخامل المولول كالنساء الجاهلات.
إذا انتقلنا من نظم رشيد الخوري إلى نثره لم نجد غير ما وجدناه في نظمه، ولعل أهم نثر قاله أو كتبه واجتهد أن يلبسه حلة من سعة الاطلاع ونضج التفكير هو مقدمته لمجموعة (الأعاصير). وقد رأينا في المقالات السابقة ما هي هذه المجموعة التي يقول «القروي» في مقدمته إنها «مختارات من شعره الوطني». ومع أنه نشر قصائد (الأعاصير) في الصحف قبل جمعها فهو يغفل هذه الناحية ويقول إنه «لم يخصها بالنشر» قبل غيرها إلا «لاعتقاده» أن هذه القصائد، التي رأينا في الحلقات المتقدمة كيف تصفع شرف الشعب السوري صفعاً وتطعن الأمة في كرامتها، وكيف تمثلنا كشعبٍ خالٍ من كل كرامة ومن كل شرف، متسكع أمام أي غريب، كما وجدنا ذلك بصورة باهرة في قصيدته، التي حلى بها جيد ديوانه، «تحية الأندلس» هي شي نحتاجه «ليقوي العصبية» فينا. والحقيقة أن هذه القصائد هي لإضعاف عصبيتنا ولبلبلة روحيتنا وأفكارنا، ومراجعة الدورس الماضية في هذه المقالات لا تبقي مجالاً للشك في أنها عامل من عوامل فساد روحية الشعب.
وكما رأينا «القروي» ينتحل أفكار غيره لينظم قصائده كذلك نراه ينتحل أفكار غيره ويمسخها ليجعل منها نثره. ولما كانت حاجة النثر إلى الفكر أكثر من حاجة النظم إليه فقد جمع الخوري أشتاتاً من الأفكار ونثرها في نحو عشر صفحات في مقدمة (الأعاصير).
في الفقرة الثانية من هذه المقدمة الفسيفسائية يمسخ «القروي» أفكاراً وصوراً كثيرة وردت في مقالات عديدة للعلامة المغفور له الدكتور خليل سعاده خصوصاً حيث يقول: «وقد بلغنا من إنكار النفس والتطوع بخدمة الغرباء.. فبدلاً من أن يتكلف القناصون مشقة نصب الفخاخ لنا أو مطارتنا ورهقنا، باتوا وجهادهم محصور في كيف يتقون تهافتنا عليهم ووقوعنا على أقدامهم، إلخ.».
وأية مراجعة مستعجلة لمقالات الدكتور خليل سعاده التي حمل بها على المتزلفين للمستعمرين توضح للقارى من أين أخذ «الشاعر الشهير الأستاذ رشيد سليم الخوري» أفكار هذه الفقرة وصورها غير مجتهد إلا في تغيير بعض الألفاظ.
كذلك قوله في الفقرة الثانية: «ونحن أصح الخلق أبداناً وأرجحهم عقولاً، إلخ»، فهذا القول يكاد يكون مأخوذاً بالحرف الواحد من مقالة فسيولوجية طبية للدكتور سعاده تكلم فيها على السوريين من الوجهة التشريحية وتركيب أجسامهم وحكم، وهو العالم المدقق، بأنهم من أكمل الخلق تركيباً ويمتازون في معظم الأمم من الوجهة التشريحية. ولو لم يكن قال هذا القول عالم كبير كالدكتور خليل سعاده ماذا كانت قيمة هذا الكلام الخطابي الذي يرسله رشيد الخوري من غير تقيد بأصول؟
كان الواجب على رشيد الخوري أن يدرك على الأقل أن الشؤون العلمية لها ضوابط وأصول منها أنه يجب إسناد القول العلمي إلى قائله، بدلاً من طمس اسم القائل وانتحال القول، لأن الانتحال لا نتيجة له غير سقوط القيمة، وإن رجلاً كرشيد الخوري الذي لا دخل له في أي علم اختصاصي يحكم في أي الشعوب أصح أبداناً وأرجحهم عقولاً لا يكون إلا متشدقاً لا يجوز إضاعة الوقت في النظر إلى ما يقول. والحكم في صحة أجسام السوريين ورجاحة عقولهم الذي هو من موضوعات علوم التشريح والإنسان والأقوام البشرية، إذا صدر عن عالم كالدكتور خليل سعاده أو أسند إليه كانت له قيمته العلمية المحترمة، أما صدوره عن رشيد الخوري فماذا يجعل له من القيمة العلمية؟ تخرّص وتبجح لا يليقان إلا بالجهلة من الناس.
في هذه الفقرة التي نحن بصددها يقول «الشاعر الذي ربح الخلود» هذا القول: «أما والله لو كنت شاعراً إفرنسياً أو إنكليزياً لحبست النفس على التبشير بالسلام ووقفت القلم على الدعوة إلى الرأفة والحنان»، وهو في هذا القول يهذي هذياناً كما في أكثر أقواله. وإلا فكيف يوفق بين ما يقول هنا ومدحه الفتوحات العربية التي أخضعت أمماً كثيرة لحكمها، كما لا يزال الإنكليز والفرنسيون مخضعين أمماً كثيرةً لحكمهم؟
وهل صحيح أنه لو أتيح لرشيد الخوري أن يولد في سورية وهي في أوج مجدها وأساطيلها البحرية تسيطر على البحار، وأعلامها الظافرة تسير إلى الهند، وجيوشها تسيطر على إفريقية وإسبانية ويعبر قائدها العبقري هاني بعل جبال الألب الشاهقة ويجتاح إيطالية ويسيطر فيها عقداً ونيفاً من السنين، مهاجماً الرومانيين في عقر دورهم ومحاصراً رومة العظيمة، بائعاً قصورها من على أسوارها بالمزاد العني، أقول أصحيح أنه لو كان الناظم رشيد الخوري أحد أفراد الإمبراطورية السورية الشرقية أو أحد أفراد الإمبراطورية السورية الغربية لكان صار شاعراً يحبس نفسه على التبشير بالسلام والتخلي عن مجد الأمة وحقوق الدولة؟
بعد القول المتقدم من الفقرة التي نحن بصددها بقول الخوري: «أما وأنا سوري، ومن لبنان، فإني لا غرض لي في الحياة أشرف من دعوة شعبي إلى بغض الشعوب ولا مثلَ عندي أعلى من استنهاض أمتي لمحاربة الأمم»، وهنا يعترف الخوري صريحاً إنه، في الوطنية، سوري وأن شعبه هو الشعب السوري وأن أمته هي الأمة السورية، التي يقوم اليوم، لغرض في نفسه، ينكر وجودها ونسبته إليها ويدّعي أنه ليس سورياً من لبنان، بل وطنياً عربياً، من سورية! وأن شعبه هو «الشعب العربي» وأمته هي «الأمة العربية».
وفي آخر الفقرة الثالثة هذه يجاري الخوري المفكرين السوريين فيقول إن شلل سورية هو من «قيود التقاليد الرثة والتعصبات العتيقة». وهذه العبارة تكاد تكون حرفية من بعض أقوال الدكتور خليل سعاده.
وفي الفقرة الرابعة ينادي الخوري «أبناء وطنه» سورية قائلاً «لَكَمْ تجدون بينكم من دعاة الاستعمار نفراً... يجلس واحدهم... ويقول، خافضاً صوته: ما لكم ولهؤلاء الشعراء، إن هم إلا عصبة أغرار يحرضونكم على المطالبة بالحرية ولا سلاح لديهم غير ألسنتهم، إلخ».
الواضح كل الوضوح في هذا القول أن الخوري يحاول أن يكون لبقاً في لفت الأنظار إليه. فهو لم يقل «يقول واحدهم: ما لكم ولهذا الشاعر؟» إلا لكي يتجنب إبلاغ الوقاحة إلى حد يعكس الآية فجعل التخصيص بالمطالبة بالحرية للشعراء وحدهم. ولما كان يعد نفسه «شاعر الوطنية» لم يجد حاجة لتضييق نطاق التخصيص أكثر من هذا الحد، خصوصاً وخطابه موجه إلى الذين يقرأون قصائده. وهكذا نرى رشيد الخوري المثال الصحيح لطائفة من لصوص الأفكار الذين يتوددون إلى عظماء الفكر أولاً ليتمكنوا من ثقة الناس حتى إذا تم لهم ذلك انتحلوا آراء وأفكار أولئك العظماء ونبذوهم وراءهم ظهرياً، وسارعوا إلى نسيانهم بعد وفاتهم!
أليس هذا ما فعله الخوري في مقدمة (الأعاصير) حين أخذ عبارات الدكتور سعاده وعظاته الوطنية وتناسى إسنادها إلى ذلك الوطني الكبير؟، من أين جاء رشيد الخوري بهذه العبارة التهكمية: «كِلوا أمركم إلى ولية الأمر فيكم إنها أمكم الحنون وحاشا لأمكم الحنون أن تريد بكم شراً» أليس من مقالات الدكتور خليل سعاده المشهورة في هذا الباب؟، ولكن الخوري لا يريد أن يعترف بذلك، لأنه يطمح في الخلود كصاحب دعوة ولهذا السبب مزج بعض ألفاظ قرآنية في القسم التالي من هذه العبارة التي هي من أقوال الدكتور خليل سعاده المشهورة فقال متابعاً: إن الأم الحنون «تهيى لكم خيراً جزيلاً، تدربكم على الحرية فإذا صرتم لها أهلاً وهبتها لكم لوجه الله لا تبغي أجراً ولا شكوراً»1 فأدخل لفظتيّ «أجراً وشكوراً» لكي يضلل القرّاء فلا يعرفون أن القول للدكتور خليل سعاده.
ولكن رشيد الخوري قد صدق في التعبير عن نفسه وأمثاله من غير أن يدري، فقد وصف نفسه ورصفاءه النظامين بهذا الوصف الذي أجراه على لسان من يتهكم عليهم: «إن هم إلا صبية أغرار يحرضونكم على المطالبة بالحرية»، فالتحريض على المطالبة بالحرية مع جهل بالعوامل والأسباب والمقتضيات هو الصفة الثابتة في قصائد الناظمين «الوطنيين» الذين ظنوا «الوطنية» قصائد تحريضية، يطعنون بها كرامة الشعب النبيل الذي لم يمنعه من مجد الجهاد غير الانشقاق الداخلي وفساد النظام الاجتماعي ــــ الاقتصادي، وليس ما يقوله الخوري إننا عبيد وإننا «أسلس المطايا» وغير ذلك من أقواله الوقحة التي يقلل فيها من ثقة الشعب بنفسه.
وهذه العبارة: «إن صراخ سورية وعويلها» أليست هذه للدكتور خليل سعاده؟ ووصف هذا الصراخ وهذا العويل أليس هو أيضاً للدكتور خليل سعاده؟ أليست أفكار الدكتور خليل سعاده هي الأفكار الصحيح الوحيدة الموجودة في «مقدمة» (الأعاصير)» وقد أحاطها رشيد الخوري بطائفة من الألفاظ التي شوّهت معانيها وشوشت جلاءها؟
وبعد كل هذه السرقة القبيحة يجيز رشيد الخوري لنفسه التجاوز عن ذكر اسم الدكتور خليل سعاده، والتجاوز حتى عن وجوب عدّه في مقدمة الكتّاب الذين ما كان يجب أن يبخسهم حقهم، وهم الذين كانوا أسبق من النظّامين الذين يعدّهم شعراء ليحسب نفسه شاعراً بينهم، لولا أنانية حقيرة وخشية من أن يضيع «الشعراء» الذين يسرقون مادة الكتاب ليحشوا قصائدهم بها متى ذكر أرباب الفكر؟
أبهذه القدوة في هضم «أدبائنا» غير الأديبين حقوق أدبائنا الحقيقيين يصير السوريون أمة حية ناهضة؟
إن الأمة التي يكثر فيها أمثال رشيد الخوري الذين يطمسون مآثر عظمائها ليشيدوا لأنفسهم عظمة قزمية حقيرة، ويرمون الأمة كلها بتهمة العبودية ليدعوا أنهم «الأحرار» الوحيدون فيها هي أمة من أتعس الأمم حظاً ونهضتها لا تكون بما يقوله رشيد الخوري، بل برفس هذا الأدب المزيف الذي أنشأه لصوص بارعون كرشيد الخوري وأضرابه!
هاني بعل
للبحث استئناف
التحريض الممل
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد (111)،
3/5/1941م
رأينا في المقالة السابقة أن رشيد الخوري وصف نفسه والنظّامين الذين على شاكلته وصفاً صحيحاً حين نسب إلى من يتهكم عليهم هذا القول: «إن هم إلا صبية أغرار يحرضونكم (أي النظّامون) على المطالبة بالحرية». وقلنا في التعليق على هذا الوصف الذي استسخفه الخوري من غير نظر في انطباقه على الواقع:
«فالتحريض على المطالبة بالحرية مع جهل بالعوامل والأسباب والمقتضيات هو الصفة الثابتة في قصائد الناظمين «الوطنيين» الذين ظنوا الوطنية مجرد قصائد تحريضية، يطعنون بها كرامة الشعب النبيل الذي لم يمنعه من مجد الجهاد غير الانشقاق الداخلي وفساد النظام الاجتماعي ــــ الاقتصادي».
إن اللوم والتحريض ورمي الشعب بطبيعة العبودية هي أبعد الأسباب عن توليد نهضة أو إضرام نار ثورة في شعب عملت فيه أيدي التفرقة الدينية، وسحقه الطغيان الاقتصادي ــــ الاجتماعي الداخلي. فعدم قيام الشعب دفعة واحدة لرفع نير الاستعباد الأجنبي عنه ليس سببه عدم وجود محرض بالقصائد والخطب والمقالات الخطابية، بل كان سببه، قبل نشوء النهضة السورية القومية، عدم وجود قاعدة قومية اجتماعية ــــ اقتصادية ــــ فكرية ــــ حقوقية تقيم العدل على أساس الحق ليطمئن كل ذي حق في الأمة إلى حقه بعد جهاده، ويكون من وراء ذلك غسل القلوب من الضغائن والأحقاد وتوحيد الشعور والإرادة.
النهضة القومية لا يمكن أن تكون مسببة عن بلبلة فكرية وعدم اطمئنان نفسي، ولكن ذوي التفكير الأولي السطحي، أمثال رشيد سليم الخوري، العاجزين عن طلب الحقائق الأساسية، لم يتعلموا شيئاً غير الصخب والضجيج والاستفزاز اعتباطاً. ولا مغالاة في القول إن كثرة الذين اندفعوا يحرضون الشعب ويستفزونه على غير هدى قد زادت البلبلة وصمّت آذان قسم كبير من الشعب، كان من نكد طالعه أن يقع تحت تأثيرهم عن سماع صوت الهداية القومية الصحيحة.
ولو كانت النهضة أو الثورة تقوم بالصخب والتحريض لكانت أطنان المقالات والقصائد والخطب التحريضية التي صبها المحرضون على الشعب السوري وجالياته الموزعة في الأقطار الأميركية كفتنا، من زمان، مؤونة سماع قصائد رشيد الخوري وخطبه التحريضية التقليدية. لو كان التحريض على المطالبة بالاستقلال يولد الاستقلال لكنا استقللنا من زمان!
إن رشيد الخوري ليس أول محرض ظن أن التحريض وطنية وأنه وقع على اكتشاف خطير كان مجهولاً من قبل، ولكنه قد يكون أول محرض أو في عداد أول المحرّضين الضاجين الصاخبين الذين وهموا أن التحريض يقيمهم قاد على الشعب وممثلين لقضيته!، وبناءً على هذا الوهم الفاسد قال في قصيدته على غلاف (الأعاصير)؛
أهيب بهم فلا ألقى سميعاً كأنني المنادي والمنادى
ومع أن هذا القول هو اعتراف صريح بأن الشعب لا يصيخ السمع لكل محرض صخّاب ولا ينقاد لكل دعيّ مغرور يظن أن الشعوب المتمدنة التي تتطلب حكمةً وفهماً وحنكةً في معالجة قضاياها وسياسة أمورها، هي كالقبائل البربرية التي تجمعها الرابطة الدموية فقط، يستنفرها كل صائح ويدفعها كل محرّض، فإن رشيد الخوري عدّ إعراض الناس عن مناداته عيباً فيهم لا فيه هو، وصوّرهم خالين من الشعور في البيت التالي الذي قال فيه:
ألا ذوّقتهم ألمي فثاروا فيا ربّاه لست أنا البلادا
وقد وهم أخيراً «القروي» أن ما لم يتسنَّ له بالنظم يناله بالنثر، فوضع مقدمته لِــ(الأعاصير). ولما لم يكن الخوري من أهل الفكر وكان في هذا الباب كالطفيليات أو كالحلميات يمتص مادة إنتاجه من غيره فإنه سلك في نثره المسلك عينه الذي سلكه في نظمه فعدا على أفكاره غيره، خصوصاً على الأفكار التي كان يستوثق من شدة قبولها عند الشعب وتأثيرها فيه، كأفكار الدكتور خليل سعاده فلم يمهله حتى وفاته وأخذ من أفكاره وأقواله ما شاء معتمداً على سخاء ذلك المفكر الكبير وتساهله في حقوقه مع المستأدبين من مواطنيه، فحشا ببعضها بعض قصائده وحشا البعض الآخر بعض نثره ولم يقتصر على أفكار الدكتور خليل سعاده كما سيجيء.
الاقتباس لا يغير طبيعة المقتبس، وكما أن أشجاراً معينة ليست صالحة لإنبات وإنتاج «طعم» من أشجار أخرى معينة كذلك بعض الكتّاب والشعراء ليسوا صالحين لتنمية الأفكار التي يقتبسونها من بعض الكتّاب الآخرين فيبقون على طبيعتهم التي تطل من ثنايا الكلام المقصود تغطيتها باقتباسه وانتحاله.
هكذا نرى عيّ رشيد الخوري يطل من ثنايا الأفكار والصور التي أخذها عن الدكتور خليل سعاده ليوهم الناس أنه كاتب مفكر فضلاً عن كونه «شاعراً مفلِقاً».
إلى أية نتيجة ينتهي رشيد الخوري من انتحاله تهكم الوطني الكبير، الدكتور سعاده، على الذين طلبوا من الشعب أن يثق «بالأم الحنون»؟
إذا كان مجموعة كتابات العلامة الدكتور خليل سعاده ليست أمامنا الآن فقريباً يكون قسم كبير منها بين أيدينا وحينئذٍ ندل القرّاء على صور الأفكار والمعاني كما رسمها قلم ذلك الوطني الكبير الذي يسميه رشيد الخوري نفسه، في قصيدته التأبينية له «أبا الأحرار». ولكن يحضرنا الآن بيتان من قصيدته الثورية التي نظمها وهو بعد في بوينُس آيرس قبل انتقاله إلى البرازيل وهما هذان:
يقول لكم قوم: نريد حماية وأماً حنوناً تحضن الطفل مرضعا
شببنا عن الأطواق إنّا لأمةٌ لها ساعد يفري الحديد المدرعا
ونحن نعلم علم اليقين أن رشيد الخوري قرأ هذه القصيدة، كما قرأ كل ما كتبه الدكتور سعاده في البرازيل وكثيراً مما كتبه في الأرجنتين.
ومع أن الخوري اقتبس هذا المعنى وغيره من المعاني الروحية الجليلة للدكتور سعاده وانتحلها لنفسه، فإن النتيجة التي انتهى إليها هي نتيجة زرية، هي هذه النتيجة: «ذودوا عن بيوت آبائكم وأجدادكم! وإذا كان يشق على أيديكم الحريرية الناعمة أن تجلد بالسياط وتضرب بالسيوف فحاربوا بسعف النخل وأغصان الزيتون! حاربوا بالسلام! حاربوا بالغندية!»، وهذا القول يقوله الخوري في معرض الكتابة النثرية! والنثر ليس كالنظم فلا أوزان ولا قوافي ولا رويّ تحول دون إفصاح الكاتب عن كيفية المحاربة بسعف النخل وأغصان الزيتون والمحاربة بالسلام، وعن النتيجة العملية التي تؤدي إليها هذه المحاربة!
لقد حارب السوريون حروباً غير قليلة بالبنادق التي هي أفعل كثيراً من سعف النخل وأغصان الزيتون1، فكيف ينكر عليهم «القروي» حروبهم ويجهل أو يتجاهل نتيجة تلك الحروب.
نحن لا نطلب منه أكثر من الاعتراف بهذه الحقيقة، ولا نطلب منه تبيان الأسباب التي انتهت بتلك الحروب إلى الفشل والخسران. إننا لا نطلب من الخوري ما هو فوق طاقته العقلية التي قام الدليل على أنها محدودة جداً ولا يمكن توسيعها.
طبيعة الصخب والزحير والتحريض العاجزة تعود فتظهر من تحت ما جمع رشيد الخوري فوقها من أقوال عظماء المفكرين. وهو، ليستر عجزه، لا ينفك يرمي غيره بالعجز، بل هو يرمي الشعب كله بالحقارة. فهو الذي نادى الله أن يذوق أبناء وطنه ألمه ليثوروا، أما كان الأحرى به أن يلطم وجهه ويندب حظه بدلاً من تعيير الآخرين. انظر إليه يقول:
«فالبلاد ماخضٌ بالحوادث الجسام تنتابها الخطوب عدد أنفاسها وأبناؤها بين متهافت على وظيفة يخسر نفسه ليربحها وعابد بغياً يسفح شبابه على أقدامها و«علاك» أوزان... واقف وقفة الغرّ الأبله».
فأين هو وأين كان هو؟
إن يقول في مقالة أرسلها مؤخراً إلى (العالم العربي) وهي الصحيفة الوحيدة التي بقيت لتعزيته، إن قصيدته المعيبة «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك» هي من منظومات سنيِّ العقد الثاني الأولى من حياته، فإذا كان ذلك صحيحاً فلا يكون هو إلا في مقدمة من ينعي عليهم إضاعة زهرة شبابهم في الرذائل.
إن ابن اثنتين وعشرين سنة إذا كانت له نفس سامية فهي ترتدع عن إتيان المنكر وتتجه نحو المثل العليا الجميلة.
أخيراً لنصغِ إلى الزحير والندب ولنرَ كيف يقدر «الشاعر القروي» على رمي القيم العالية إلى الحضيض، فهو يقول في ختام مقدمته:
«ألا لبيك أيتها الأم الشاكية في وحدتها، الباكية في وحشتها، إننا على ما بيننا من شاسع البعد نتلقى روحك الذائبة بميازيب أجفاننا، ونرافق أنّاتك المذيبة بوجيب صدورنا، نحن بين غربة تدمي قلوبنا، وجهاد يدمي أقدامنا، وحرمان يدمي عيوننا، إلخ».
إن العاجز لا يقدر على مساعدة وطنه بغير النحيب ووجيب الصدر. وهذا أمر مقرر عند علماء النفس. أما تسمية الكدح وراء الرزق والأرباح التجارية «جهاداً» فابتكار في تحقير القيم الروحية العالية يجب أن نسجله لمن قد كوى حب الخلود قلبه.
وإن من الوقاحة المتناهية أن يرمي هذا العاجز عن إنجاد وطنه بغير دموعه زعيم الحركة السورية القومية الذي أجاب استغاثة وطنه بالعودة إليه بعد قضاء واجب عائلي والقيام بأعظم نهضة في تاريخ سورية والشرق الأدنى!
هاني بعل
للبحث استئناف
«علاك» أوزان في مجال محاضر
سورية الجديدة،
سان باولو،
العدد (112)،
10/5/1941م
قلنا في المقالة الأولى من هذا السلسلة إنه لم يكن بأس، حين كان رشيد سليم الخوري ناظماً يحبذ، على طريقته، كل حركة أو مظهر وطني، بسماع منظوماته مع الإغضاء عن عواهنها. وهذا أخذ الخوري يُكثر من النظم، وكان النظامون في البرازيل قليلين. وكانت كل جمعية، خيرية كانت أم أدبية أو سياسية، تدعوه لإلقاء قصيدة في حفلة تقيمها، وذلك جرياً على القاعدة المدرسية القديمة التي تقول بوجوب تخلل القصائد الخطب لكي تأتي الحفلة أنيقة متنوعة مكان لا بد من الالتجاء إلى ناظم يلبّي الطلب، وكان رشيد الخوري أكثر تلبية، لأن الشهرة غرارة مغرية، فصار يقف على المنابر في الحفلات التأبينية والإكرامية وفي الولائم والأعراس. والصحف كانت تنشر في أخبارها المحلية حوادث الحفلات والخطب والقصائد التي قيلت. وبالتدرج صار رشيد الخوري معروفاً في جميع أوساط البرازيل، ثم صار يتصل ببعض الصحف والمجلات في مصر ويرسل إليها القصائد فكانت تنشرها له كما تنشر مقالات لأي شخص يقدر أن يدبر لها مشتركين ويقوم بالإذاعة لها. وكم من قصيدة أرسلها رشيد الخوري إلى أكثر من صحيفة عارضاً عليها أن تنشرها «إذا راقت لها».
والظاهر أن رشيد الخوري نسي هذه الحقائق حين كتب إلى (العالم العربي) في هذه المدينة (بوينُس آيرس) مقالته التي نشرتها له الصحيفة المذكورة في عددها الصادر في (5) آذار الماضي، خصوصاً حين قال هذه العبارة عن نفسه، إنه لا يجوز لأحد أن يظهر عيوب أدبه، لأن ذلك يكون «استخفافاً بعقول عشرات فحول الأدب الذين شهدوا له بالشاعرية وبمئات وألوف غيرهم من الأدباء والمتأدبين الذين يتناسخون قصائده ويحفظونها عن ظهر قلب. وبشتى الصحف والمجلات في الشرق والغرب التي تتناقل شعره ونثره».
أما «عشرات فحول الأدب» الذين يعنيهم فهم أمثال شكيب أرسلان وأمين الريحاني من سياسيــي الأدب، وأمثال حسن كامل الصيرفي المطلوب منه تقريظ الكتب التي ترد إلى بعض المجلات المصرية بقصد اكتساب مودة أصحابها، وبعض أدباء الطراز العتيق الذين لم يكونوا يرون الشعر غير أوزان متناسقة وألفاظ جزلة وقوافٍ سهلة ونسيب جميل وغزل ممتع وهجو شديد، وغير ذلك من الأدب اللفظي الذي لا علاقة له بقوة التصور وابتداع الفكرة. وقد عرضنا لهؤلاء «الفحول» في الحلقة الثالثة فليراجعها من يهمه الأمر هناك.
وأما «شتى الصحف والمجلات» فقد ذكرنا حقيقة أمرها في ما تقدم من هذا المقال وفيه كفاية لمن لم يكن قصده الجدل الممل بقصد المماحكة.
بقي أن نقول إن وردت في مقالة الخوري المذكورة عبارات أرسلها اعتباطاً كعادته، فخرج من دائرة البحث الأدبي إلى دائرة أخرى يلذّ له الدوران فيها، فتكلم على «ناهشي أعراض كأرذل الغوغاء» وهو يريد كاتب هذا البحث، والسبب في التجائه إلى هذا السبب، على ما يظهر، هو تناولنا بالبحث قصيدته التي يروي فيها حادثة وقعت له مع فتاة أو تصور جمال وقوعها له وهي التي يقول فيها: «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك»، والتجاؤه إلى هذه الطريقة لتبرير سبّه ليس سوى دليل جديد على اضطراب شعوره واختلال منطقه. فنحن لم نَقْفِ أثراً من آثار حياته الخاص ولم نرمه، لا سراً ولا جهراً، بشي من أشيائه الخصوصية كما حاول أن يفعل هو ضد زعيم الحركة السورية القومية باختلاقه أشياء عن خصوصياته اختلاقاً ولكننا تناولنا فقط ما أبداه هو من قول أو كتابة مما له علاقة وثيقة بالأمور العمومية.
نحن لم نتناول سيرة رشيد الخوري الداخلية، مع أنه عندنا منها بعض الخبر مما وصل إلينا اتفاقاً. وإذا كانت طبيعة رشيد الخوري قد انكشفت بواسطة هذه المقالات وإذا كانت حيوانية تصوراته قد ظهرت بهذا المظهر الباهر، فذلك لأنه هو الذي هتك ستره بيده وخرق عرضه بقلمه. إنه هو الذي نظم تلك القصيدة الحيوانية المعيبة التي صوّر بها شهواته وإحساسته أبدع تصوير. ونحن لم نتناول الحادثة بالذات، بل تناولنا القصيدة التي نظمها هو نفسه في الحادثة، لأن هذه القصيدة هي جزء من منظوماته التي نعالجها. فإذا كان هنالك نهش أعراض (وهذه العبارة قد نقلها نقلاً، على عادته، عن بعض مقالات قومية كتبت في بعض المطرودين الذين أخذوا ينتقمون بنهش الأعراض) فهو هو الناهش لا غيره.
وقد حاول أن يستر «الشاعر الشهير» فضيحته بنسبته تلك القصيدة إلى «أوائل العقد الثاني» من عمره، إلى سن تتراوح بين الحادية عشرة والثالثة عشرة. ونحن قد لطفنا هذا المقدار في المقال السابق فجعلنا العقد الثالث في مكان الثاني، وتكلمنا عن ابن اثنتين وعشرين سنة من الجهل. فإذا شاء أن نعود عن هذا التلطيف كان ذلك شراً له، لأنه إذا كان صحيحاً أن القصيدة المذكورة نظمت في سني العقد الثاني الأولى وهي بعد سنيّ الطهارة والمحبة الساذجة، فيا بئس ناظم شب على هذه الشهوات والتصورات القبيحة!
وحاول أن يجد «القروي» مسوغاً لنشر تلك القصيدة التي تكشف ناحية عميقة من نفسيته المادية بالقول إنه: «حرص على إثباتها مع ذكريات تلك السن». ولو كان هذا هو الصحيح لكان المنطق يقضي عليه بتخبئتها بين محفوظاته الخصوصية، كما أشرنا منذ البدء، في المقالة الثانية التي ذكرنا فيها هذه القصيدة لأول مرة. فنحن كنا غيورين على عرضه أكثر من غيرته هو عليه حين قلنا في هذا الصدد في المقالة الثانية المنشورة في العدد (102) من (سورية الجديدة)1 هذه العبارة: «والقصيدة كلها تصور شخص لحالة خصوصية تتعلق بالناظم وحده. وكان يجب أن تبقى من خصوصياته الداخلية التي لا لزوم لإطلاع غيره عليها». (الصفحة 13 أعلاه).
ولا نتناول باقي مقال الخوري إلى (العالم العربي) بكثير أو قليل، ونه لا يمثل غير ادعاء سخيف هو مزيج من مكابرة لصغار وحنق القاصرين. وفيه محاولة هزيلة لتقليد كتابة كاتب هذا البحث وانتحال عباراته كقوله «حين أرى وأسمع عرباً يسبّون جنسهم وقومهم أقبح السبّ» الذي ليس سوى تقليد لما أظهرناه في المقالات السابقة من التجاء رشيد الخوري، في كل مناسبة، إلى تحقير السوريين ورميهم بطبيعة العبودية ليظهر هو بمظهر الأبي الأوحد. ولا حاجة للعودة بالقرّاء إلى جميع الشواهد التي تقدمت.
ويجب إضافة هذا التعليق على مقال الخوري وهو أنه يرى الأبحاث الأدبية نوعاً من الترامي الشخص بالمهاترة. فهو يتكلم عن «رشق الناس من وراء جدران الأسماء»، أي خيفة من أن يتعرض الراشقون للرشق. فالمسألة عنده هي مسألة تراشق شخص. وهذا يعني أنه، لعجزه عن الدفاع عن منظوماته ومنثوراته في ذاتها، يريد أن يرشق الذي أبان عيبها للناس كما يثبت ذلك في قوله: «ولقد يروقني أحياناً أن أتسلى بهجو بعض هذه الغيالم التي يزعجني نقيقها ليل نهار، والهجو باب من أبواب الشعر العربي (ومن أبواب النثر أيضاً يا ناسي) ينفتح لي على مصراعيه عندما أريد، إلخ»، فالتطاحن الشخص بالهجو هو كل ما فهمه ويفهمه الخوري من غرض النقد الأدبي. ولقد قلنا في المقالة السابقة إننا لا نكلف الخوري ما هو فوق طاقته فليهجُ سراً وعلناً ما طاب له الهجو وما وجد لتفريج كربه به سبيلاً فليس ذلك بمانعنا عن متابعة بحثنا لإيضاح الحقائق وإرجاع القيم الأدبية إلى منزلتها السامية التي حطها عنها «علاكو» الأوزان الذين يمثلهم رشيد الخوري أحسن تمثيل، وهو ما يجعلنا نسهب في هذا البحث، لأن المسألة ليست مسألة «علاك» أوزان واحد يتهم غيره «بعلك» الأوزان ليدفع الأنظار عنه، بل مسألة «علاكين».
نعود الآن إلى متابعة البحث في غرض هذه المقالات الأساسي الذي هو تبيان الأدب الانحطاطي وأضراره على نفسية الشعب وتبيان عوامل النفسية المخربة التي تدفع أصحاب هذا الأدب إلى العيث فساداً في الشعب، والعبث بمُثله العليا وإرجاعه إلى الفتنة والأحقاد الدينية التي أتلفت الزرع وأهلكت الضرع.
وبعد أن فرغنا من إيضاح حقيقة «شاعرية» رشيد الخوري وإعطاء منظوماته الوطنية واللاوطنية قيمتها، نمد هذا الدرس في الأدب إلى «محاضرته» التي نشرها في صحيفة (الرابطة) التي تصدر في سان باولو، البرازيل، في سلسلة أعداد ابتداءً من العدد (527) الصادر في (8) حزيران الماضي وانتهاءً في العدد (541) الصادر في (14) أيلول الماضي وعدد أقسامها ستة. وموضوع «المحاضرة» المذكورة «المسيحية والإسلام» وغرضها تفضيل الدين الإسلامي على الدين المسيحي.
إن هذه «المحاضرة» التي تعيد تفكيرنا إلى العهود الأولية المشؤومة الجديرة بالنقد الدراسي، لأنها من أفضل الأمثلة على قحة «الواغلين» على الأدب الذين يذكرهم رشيد الخوري ولا يذكر نفسه بينهم، كما أغفل ذكر نفسه مع «علاكي» الأوزان الذين أشار إليهم في مقدمة «أعاصيره»، وعلى سفسطة القافزين فوق سياجات العلم والفلسفة.
إن البحث في طبيعة دينين جليلين كالمسيحية والإسلام يجب أن تستتب له شروط سابقة من التضلع في العلم والفلسفة. ففي هذا البحث لا يكفي الغوص على المفردات اللغوية والتدقيق في أشكال العروض، ولا يفي به الاستعارات من كبار الكتّاب ولا تجدي أساليب البيان والبلاغة في صوغ العبارة.
وقد عرفنا رشيد سليم الخوري ناظماً وناثراً ولكننا لم نعرفه من أهل الفكر والبحث، فهو أبعد ما يكون عن التفكير والبحث والدراسة والاستقصاء. وقد رأينا من الدراسة المتقدمة لمنظوماته أنه ليست لها فكرة أساسية وأن مواضيعها مستمدة من الفِكَر الشائعة في بيئته، ولكنه أبى إلا أن يغل على المباحث الفلسفية والعلمية ظاناً أن الكلام فيها كالكلام في غيرها، «وكله عند العرب صابون».
قرأنا «محاضرة» الخوري في المسيحية والإسلام فوجدناها أبعد ما يكون عن أصول المحاضرات وشروطها وأجدر أن تسمى بالحارضة من أن تسمى محاضرة. وما أقدم رشيد الخوري على حسبان كلامه محاضرة إلا لجهله مفاد لفظة المحاضرة العلمي وأصولها وشروطها. فالمحاضرة اصطلاح علمي يقابل اصطلاح الفرنج على لفظة «كنفرنسيا» وهي عند العلماء في دوائرهم اسم نوع الأبحاث الجليلة التي يقوم بها علماء وأهل الدرس والبحث والتنقيب، بقصد الوصول إلى حقيقة أساسية أو نتيجة علمية بالاستقراء والتحليل والتعليل في جو من العلم والفلسفة هادىء، بعيد عن النعرات منزّه عن التعصب. ومن أهم شروط المحاضرة وامتيازها على الخطاب أنها تكون درساً هادئاً لا التجاء فيه إلى استفزاز الشعور والضرب على الوتر الحساس من حزبية أو عصبية عند الجمهور أو ميول جامحة. ومن شروط المحاضرة أن يتجنب كل ما من شأنه إثارة الشعور والتحريض والتهوس. فإذا خلت هذه الشروط لم تكن هنالك محاضرة. ولما كان رشيد الخوري يجهل هذه الأغراض العلمية السامية ويجهل أصول المحاضرة وشروطها والفرق بينا وبين الخطاب فقد ظن أن الفرق بين المحاضرة والخطاب هو في الطول والقصر وعدد الكلمات. فإذا كان الخطاب طويلاً صار، في عرفه، محاضرة. وإذا كانت المحاضرة قصيرة كانت، في عرفه، خطاباً.
والحقيقة التي نستخرجها من دراستنا لشخصية رشيد الخوري الأدبية هي أنه لا يميز في كل ما يقال ويكتب إلا بين شيئين: النظم والنثر. فما كان مرتباً في أوزانٍ وقوافٍ فهو نظم وما كان مرسلاً عبارات وجملاً تامة بالمعنى والمبنى من غير ترتيب أوزان ولا تنسيق قوافٍ فهو نثر، فكل كلام غير موزون ليس له عنده غير صفة النثر. وهكذا الأدب والعلم والفلسفة والفن ليست عنده سوى أشكال من النظم والنثر، ولذلك سمى نثره في المسيحية والإسلام محاضرة، أي نثراً طويلاً!
يقول رشيد الخوري إن الهجو ينفتح له على مصراعيه عندما يريد، وهذا هو الواقع. والواقع أيضاً أنه ميال إلى الهجو وأنه يتردد كثيراً بين الهجو والمدح. وكلامه على المسيحية والإسلام ليس سوى هجو للمسيحية ومدح للإسلام في شكل نثري، فهو لا يصح أن يسمى خطاباً يثير الشعور الحي لقضية حقة، فضلاً عن أنه لا يصح أن يسمى محاضرة.
وفيما رشيد الخوري يظن أنه يمدح الإسلام صدقاً ويهجو المسيحية حقاً، إذا به يطعن الإسلام في صميم عقيدته من حيث لا يدري، لأنه يعتقد أن التدجيل والرياء يستران القبائح، ونحن لا نصدق أن مسلماً واحداً مدركاً لحقيقة رسالة النبي العربي يقبل كلام الخوري الذي ظاهره تأييد للإسلام وباطنه هدم للعقائد الإسلامية الصحيحة، وسيجيء تبيان ذلك.
هاني بعل
للبحث استئناف