«ترجيح أنه مترجم عن العربية«
ــــ 2 ــــ
«إنّ الحجة الأولى في القول بوجود أصل عربي لسفر أيوب مأخوذة من النص الذي يظهر فيه ما يمكن تسميته «عبرانية مترجمة». إذ ليس بخافٍ أنه مهما كان المترجم مقتدراً، ومهما كان مدققاً في ترجمته، فهو قد يعرض لخصائص يظهر منها أنّ نتاجه ترجمة لا أصل. وإليك أهم الأغلاط الإنشائية:
1 ــــ إذا كانت اللغتان متشابهتين، كما هي الحال في كتاب أيوب، حدث نقل كلمات من اللغة المترجم عنها إلى اللغة المترجم إليها لا تتناسب مع عبارة هذه اللغة.
2 ــــ يغلب نقل كثير من التراكيب الخاصة بصورة يلتبس فيها المعنى ويكثر الإبهام في الترجمة.
3 ــــ نقل أمثلة لا مثيل لها أو غير شائعة في اللغة المترجم إليها.
4 ــــ استعمال تعابير قد تكون صحيحة من حيث القواعد اللغوية ولكنها تبقى مبهمة إذا لم يظهر الأصل الذي يفيد معناها في اللغة الأصلية.
5 ــــ إساءة الترجمة، أو إساءة فهم الأصل.
6 ــــ عدد الدورات حول المعنى الدالة على أنّ المحيط الذي نشأ فيه الأصل هو غير المحيط الموجود فيه الفرع.
7 ــــ إستحالة تغيير المشهد الأصلي.
«إنّ جميع هذه المناظر التي تظهر بها «لغة الترجمة» قد تظهر في كل ترجمة تقريباً. فإذا نظرنا في الترجمات الإنكليزية عن الألمانية نرى من مثل هذه الأمثلة شيئاً كثيراً، لأن الإنكليزية والألمانية لغتان لهما من صلة القرابة ما للعبرانية والعربية. وإنّ من الكتب اللاهوتية المترجمة عن الألمانية ما يكثر فيه الأغلاط إلى حد أنها تجعل فهمه أصعب من فهم الأصل الألماني، وأمامي الآن مثال من ترجمة مقال يتعلق بفلسفة كلفين الأخلاقية. والذي أراه أنّ المترجم قد يكون يعرف اللغة الألمانية معرفة تؤهله للقيام بهذا العمل لو أنه كان يعرف من أصول الترجمة أكثر مما برهن عنه في هذا المقال. ففي السبعة والأربعين صفحة التي أمامي نجد إثنين وثلاثين مثالاً من «الإنكليزية المترجمة» حتى أننا نكاد نلمس المحيط وا لتعبير الألمانيين في جميع أقسام المقال، ومن ذا يشك في أهمية المعنى المترتب على هذه الحقيقة؟ إنّ الأدلة المتقدمة هي نتيجة الحقيقة أنّ المقال بالإنكليزية هو ترجمة لا أصل، وهي برهان قاطع على الترجمة ولا حاجة إلى البراهين أو الوسائل الأخرى التي توصلنا إلى هذه الحقيقة.
«وإننا سنقتصر الآن على الصنف الأول من خصائص الترجمة التي ذكرناها في بدء هذا القسم ونبدأ بالكلمات المنقولة:
وإنّ المبدأ الذي يستند إليه هذا الصنف هو أنه إذا وجدت كلمة عبرانية نادرة (خصوصاً الكلمات التي لم ترد أكثر من مرة) وكان معناها مجهولاً أو أدى الافتراض أنها عبرانية صحيحة إلى إكسابها معنى لا يتفق مع الوضع الذي هي فيه، ثم إذا كان في اللغة العربية أصل لفظي مماثل لها أو صيغة تتفق مع صيغتها وتعطي المعنى المطلوب في العبارة، فاللفظة العبرانية إذن هي «عبرانية مترجمة» وبناءً عليه يجب الاعتراف أنّ المعنى العربي هو المعنى الصحيح، وقبوله.
1 ــــ إني لعالم بأن فاديَّ «حيّ» وسيقوم آخراً على التراب، الخ (19: 25).
«إنّ هذه العبارة المشهورة كثيراً لمن أغرب أمثلة الإبهام التي تنجي حقيقتها بردّها إلى أصل عربي مفترض. وإنّ إساءة ترجمة «تراب» في العبرانية قد أوجدت مشكلاً إذ نّ اللفظة العبرانية لم ترد بهذا المعنى في أي قسم من أقسام العهد القديم. فمعناها هنا، كما هو في كل مكان «الغبار» وهي هنا تعني «الغبار» (التراب) الذي ينحل إليه الجسد في القبر. لذلك فإن الجملة يجب أن تكون هكذا «وإنه سوف يقف على ترابي». وإنّ الضمير المفقود من الجملة الأولى يجب أن يثبت لكي يتلاءم مع الضمير عينه في الآية السادسة والعشرين حيث يقول «جلدي» أي «غباري» (ترابي). والمعنى يدل على شفيع والعادة عند العرب أن يأتي إلى قبر الميت شفيع يصلي من أجله. ومثل هذا المعنى يرد في القرآن الكريم، [سورة التوبة، الآية 84]: {ع>1.
ــــ 3 ــــ
(نترك المستندات اللغوية العديدة التي لجأ إليها المؤلف وننتقل إلى القسم الثالث من بحثه وفيه زبدة نظريته):
«يحسن بنا أن نقف عند هذا الحد في استعراض الأدلة المؤيدة للقول بوجود نص عربي لكتاب أيوب. ولقد كان في إمكاننا أن نضيف إليها كثيراً مما هو شبيه بها ولكني أعتقد أنّ ما أوردته يكفي للغرض من هذا المقال.
«والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد الانتهاء مما تقدم هو: ماذا يمكننا أن نستنتج من الأدلة المتقدمة؟ والجواب على ذلك ما يأتي:
1 ــــ إنّ المحيط الذي نشأ فيه الكتاب هو محيط الصحراء العربية.
2 ــــ إنّ أيوب يمثّل شيخاً عربياً.
3 ــــ إنّ كلمات كثيرة في الأصل العبراني هي منقولة عن العربية.
4 ــــ إنّ في هذ الأصل لهجات عربية واضحة.
5 ــــ إنّ فيه أمثالاً عربية.
6 ــــ إنّ الواقع الذي يفهمنا الكثير من التعابير الواردة في السفر عربي.
7 ــــ نقص المظاهر الدالة على المدنية العبرانية كالمدن والطقوس الدينية وما شاكل.
8 ــــ الفكرة الممثلة الله هي فكرة عربية.
9 ــــ إنّ تصرف أيوب تجاه الله في نبذه والتجديف عليه وفي التقرب إليه واستعطافه ليس تصرفاً عبرانياً، بل عربياً، لأنه شبيه بتصرف العربي تجاه شيخه.
«بناءً على ما تقدم أطلب أن يجري بحث مستفيض يتسع لأكثر مما اتسع له هذا البحث لنرى ما إذا كان القسم الأكبر من كتاب أيوب مترجماً عن العربية أم لا. أقول القسم الأكبر لأن أقوال أليهو من الإصحاح 32 إلى 37 مستثناة منه لأنه ليس فيها ما يدل على محيط عربي. فلا يقرأ إنسان هذه الإصحاحات وينتقل إلى الإصحاح الثامن والثلاثين حتى يشعر بأنه قد عاد إلى الصحراء الفسيحة التي لا إنسان فيها، فالمحيط تكثر فيه السيول والبقر وحمار الوحش والفرس المنطلق والباشق والنسر والنعامة والغزو. ليست إصحاحات أليهو من بلاد العرب ولا من أصل كتاب أيوب، بل هي أقوال تعترض مجرى القصيدة وتأتي بفكرة جديدة لا وجود لها في سفر أيوب، هي فكرة صداقة الله للإنسان (33: 14) وعنايته به (33: 16).
«إنّ ما تقدم من الأدلة، وهوكثير، لمما يحمل على الاعتقاد أنه يكفي لتقرير صحة الافتراض أنّ الكتاب الذي يرد فيه هذا القدر مترجم. ولكن هل ما تقدم كافٍ فيما يختص بكتاب أيوب؟ ما أجهل الاعتراضات الكثيرة التي يمكن الإتيان بها من تاريخ أدب اللغة العربية ومن مصادر أخرى. ولكن إذا حاز طلبي المشار إليه القبول وأخذ أحد الثقات على عاتقه تمحيص حقائق هذا الموضوع فقد يكون لديَّ ما أقوله بشأن بعض الاعتراضات المذكورة. أوَليست الأدلة المستخرجة من الكتاب عينه هي التي تضطرنا إلى قبول الافتراض الذي نضعه الآن أمامنا؟ أليس من الواجب على العلماء أن يعيدوا فحص الحقائق المفترضة التي يظهر أنها تجعل افتراضنا «مستحيلاً» مستهدين بنور الافتراض المذكور، بدلاً من اقتفاء أثر أولئك المستعدين لرفضه بكل ما له من الأدلة، مستندين إلى «حقائق» قد يظهر أنها ليست حقائق على الإطلاق. ومن المحتمل أن يكون افتراض وجود أصل عربي لسفر أيوب أشبه شيء برفع ستار كان مسدلاً على فصول مهمة في تاريخ اللاهوت والأدب الإسرائيلي والأدب العربي ــــ أو على الأقلّ، شبيه برفع جانب من ذلك الستار، باختصار».
المجلة: لا نعتقد أنّ الإنسان يجد صعوبة كبيرة في قبول النظرية القائلة إنّ سفر أيوب خال من الروح اليهودية وإنّ أصوله قد تكون خارج اللغة العبرانية. وأما مسألة وجود نص عربي أصلي ففيها نظر. وكاتب المقال نفسه يعترف بالصعوبة التي تعترض هذه الوِجهة ولكنه يعد فيقول إنّ لديه ما يقوله بشأن الاعتراضات المستمدة من تاريخ أدب اللغة العربية. ونحن نميل إلى الاعتقاد أنّ عبارته المشار إليها هي من باب الترغيب والحث على البحث أكثر مما هي لإعطاء براهين قاطعة لأن الاعتراضات التي يتخوف منها ويتردد تجاهها من إعطاء القول الفصل هي من الأهمية التاريخية واللغوية بمكان. وقد يكون القول بأصل سرياني مستنداً إلى أدلة تاريخية ولغوية متينة. ومهما يكن من الأمر فإن هذه البحث يتناول موضوعاً خطير الشأن من الوجهات اللاهوتية والتاريخية والأدبية وهو جدير بتحقيق العلماء الاختصاصيين. وقد يكون علماؤنا أقرب إلى جلاء الغموض المحيط بهذه القضية من علماء الغرب الذين كثيراً ما يقعون في حيرة تجاه بعض التعابير.