[10/4/1938]
النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 1، 1/3/1948
(ملاحظة: كان ظهور تعاليم النهضة السورية القومية الاجتماعية في هذه البلاد حادثاً خطيراً جداً، لأنه أوجد، لأول مرة في تاريخ هذه الأمة الحديث، قضية الفكر الفلسفي الأساسي، ووضع أمام العقل السوري قضايا الحياة والوجود الأساسية الكبرى وقضايا الحياة العملية. ولكن الغفلة عن قضايا الفكر والحياة العظمى أبقت هذه الحقيقة محجوبة عن الإدراك والمعرفة. ولم تتمكن الحركة القومية الاجتماعية، في بادىء عهدها، من الانصباب على قضايا الحياة والكون والفن، التي تقدم تعاليمها نظرة واضحة إليها، نظراً للظروف السياسية العنيفة ـ ظروف العراك السياسي الشديد الأول ـ التي لازمتها في بدء عملها. مع ذلك فإن الحركة القومية الاجتماعية، وهي الحركة السلبية بطبيعتها التي لا تخضع لأمر مفعول، ولا تسلم لقوة أخرى أو فرض غريب، لم تقف جامدة تجاه القضايا الكبرى ولم تتخلَّ عن إثبات نظرتها إلى الحياة والكون والفن، بالفعل والقول، حتى في أشد الظروف حراجة.
في عرزال ناءٍ عن العمران، وفي كوخ حقير في بيروت قائم وراء دار المرحوم الأستاذ جرجس المقدسي في الشارع المسمى "جان دارك" في رأس بيروت، وفي طرقات حديقة الجامعة الأميركانية، كان الزعيم يعلّم ويلقي دروسه على تلاميذ دعوته الأُول. وفي ذلك الاجتماع القومي الاجتماعي الأول الذي حضره وفود من فروع الحركة القومية الاجتماعية، المنعقد في أول يونيو/ حزيران 1935 ألقى الزعيم خطابه المنهاجي الأول (انظر ج 2 ص 2) الذي هو شرح مثبت لمبادىء الحركة القومية الاجتماعية وأظهر فيه نواحي هامة من النظرة القومية الاجتماعية. ثم تلا ذلك تأليف الكتاب الأول من مؤلف نشوء الأمم في ربيع سنة 1936 في سجن الرمل. وتلاه كتابة شرح المبادىء في صيف سنة 1936 في سجن الرمل أيضاً. ثم أنشئت الندوة الثقافية في الحركة القومية الاجتماعية في خريف سنة 1937 للأبحاث الثقافية ولِنَقْل الفكر من السطحيات ومسائل الإدراك العادي إلى الأساسيات وقضايا العقل العلمي والفلسفي.
في سنة 1937 ظهر في بيروت الدكتور شارل مالك (دكتور في الفلسفة) وارتبط بالجامعة الأميركانية لتدريس الفلسفة في صفوف التمهيد العلمي، على أن يصير للفلسفة فرع تخصصي كامل لرتبة البكلوريا. واتصل الدكتور شارل مالك بالزعيم في أواخر سنة 1937 وأوائل سنة 1938. وفي أول مقابلة جرت بين الزعيم وبينه، في منزل الأمين السابق فخري معلوف، طرح على الزعيم أسئلة في صدد القضية القومية الاجتماعية، ذات طبيعة فلسفية. وبعد أن أجاب الزعيم على أسئلته أعلن الدكتور مالك أنه قد وجد نفسه أمام قضية واضحة كاملة لها كل الجذور والفروع الفلسفية التي تجعلها قضية صحيحة ذات نظرة واضحة. وقد تأسف جداً أفراد عائلة معلوف، لأنهم لم يفطنوا لوجوب تدوين الأسئلة التي طرحها الدكتور مالك وأجوبة الزعيم عليها.
على أثر تلك المقابلة نشأت بين الزعيم والدكتور مالك صداقة. واقترب الدكتور مالك بالفكر والروح من النهضة القومية الاجتماعية التي أوجدتها تعاليم سعاده واهتم كثيراً لها. ولما أنشأ نادي الأبحاث الفلسفية في الجامعة الأميركانية في أواخر سنة 1937 أو أوائل سنة 1938 صار الأمين السابق فخري معلوف وغيره من القوميين الاجتماعيين أكثر المقربين إليه، حتى أنه اعترف أكثر من مرة للأمين السابق معلوف أنه يرى في القوميين الاجتماعيين ميزة فكرية صحيحة، ويجد فيهم أقوى عناصر الفكر. ولمّا قدم بيروت صديق أميركاني للدكتور مالك تخصص في الفلسفة وفي الأدب اهتم الدكتور مالك بجمعه إلى الزعيم، وقدم به في موعد معيّن ذات مساء إلى بيت معلوف حيث جرى بعد العشاء بحث فلسفي طويل كان الزعيم في جهة منه والدكتور الأميركاني (الذي لا يحضرنا اسمه الآن) والدكتور مالك في جهة أخرى. واستمر البحث إلى ما بعد انتصاف الليل. وفي ختامه قال المفكر الأميركاني للزعيم: "إنني لم أجد في جميع من اجتمعت بهم وناقشتهم من قبل ما وجدته في نظراتك وحججك من قوة البيان ودقة النظر ومتانة الفكر والحجة". وصار الدكتور مالك يقول: "يتضح أنكم تأملتم ملياً تأملاً عميقاً في هذه القضايا الأساسية".
كان موقف سعاده، في البحث المتقدم ذكره، قوله بضرورة المعرفة للحقيقة وعدم كفاية الوجود غير العاقل في ذاته لتكوين قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة فكرية تحصل في العقل أو الضمير بواسطة المعرفة فقط. وكان موقف الدكتور مالك والدكتور الأميركاني أنّ الحقيقة تقوم بلا معرفة، كالافتراض أنّ جبلاً في القمر قد اندكّ ببركان أو زلزال أو ما شاكل فلا حاجة لرؤية ذلك ومعرفته ليكون قد حصل. وقد وجّه الدكتور مالك إلى الزعيم فعلاً هذا السؤال: "إذا افترضنا أنّ زلزإلا حدث في القمر ودكّ جبلاً فهل يكون الجبل اندكّ أو لا يكون"؟ فأجاب الزعيم: "إنّ افتراض المجهول لا يكون حقيقة. فلا أستطيع القول إنّ جبلاً في مكان ما اندكّ أو لم يندكّ، وإنّ زلزإلا حدث، إلا بالمعرفة الصحيحة فقط". وواضح أنّ موقف سعاده هو موقف الفيلسوف المعتمد العقل والمعرفة بينما موقف مناظريه كان موقف المعتمد الحدس والتخمين الذي يجعل افتراض المجهول قاعدة للحكم.
مع ذلك فإن مثل المحادثة المتقدمة لم يباعد بين الزعيم والدكتور شارل مالك، بل بالعكس قرّب بينهما.
(حوالى هذا الوقت ألقى الدكتور شارل مالك، في كلية البنات، الجامعة الأميركانية، خطاباً بالإنكليزية عنوانه "معنى الفلسفة" وقد قدم نسخة منه هدية إلى الزعيم. فقرأه الزعيم وكتب إلى الدكتور مالك الكتاب الذي نثبت نصه في ما يلي. وهو كتاب يعدّ وثيقة فكرية هامّة تظهر اهتمام الزعيم بقضايا الفكر والتوجيه الفلسفي، وفيه من الملاحظات والإرشادات الدقيقة ما يجعل قيمته عالية جداً. وإنّ من حسن التقادير أن تكون نسخة كتاب الزعيم إلى الدكتور مالك، التي نسخها الأمين السابق فخري معلوف، قد بقيت محفوظة مع أوراق حزبية فننشرها الآن حرصاً عليها من الضياع وإظهاراً لقيمة الكتاب):
عزيزي الدكتور مالك،
بسرور شديد تسلمت هديتك الثمينة "معنى الفلسفة". وقد قطعت مطالعتي جمهورية أفلاطون ومجرى أعمالي التفكيرية لأقرأ هذا الخطاب الجديد الذي تستحق زبدته أن تكون قسماً من مجرى بعثنا القومي الفكري، أو ظاهرة من ظواهر هذا البعث. وإني أحسبه أحد أدلة يقظة الأمة السورية الفكرية.
لست أقصد القول إنّ "ما تعني الفلسفة" خطاب خطير إلى الدرجة القصوى في حد ذاته، بل إنّ خطورته قائمة في أنه يمثل أحد اتجاهات البعث القومي الفكري الفاعلة الموجهة. وكونه شيئاً في بدء البعث أو في نقطة الابتداء من التوجيه عظيماً بقدر عظم القصد منه.
ولست آخذ عليك محاولتك العظيمة التوفيق بين الفلسفة والعقل العادي حين تتكلم عن الشرق الأدنى بمعنى العالم العربي، وحين تحاول أن تخاطب الشرق الأدنى كله كما لو كنت تخاطب وحدة ثقافية فكرية يمكن أن تسمع خطابك وتتأثر به. فتنسى أنّ فاعلية الفكر هي التي تفرض نفسها واتجاهها على النطاق الذي تشمله، كما امتد الفكر السوري قديماً إلى الإغريق من غير أن يخاطبهم، وكما امتد الفكر الإغريقي إلى الأمم الغربية وشرقي المتوسط من غير أن يتصور إقليماً معيّناً من أقاليم العالم ويخاطبه. وتنسى أنّ هذا الإقليم الكبير "الشرق الأدنى" ليس إلا شتاتاً من العمران ومن الاجتماع ومن الثقافة. فتخاطبه كما لو كان مجموعاً واحداً متجانساً متلاحماً فيذهب خطابك في دورة واسعة، فتقع بعض حباته على الصخر، وبعضها على الرمال المحرقة، وبعضها يذرّ من غير فلح وزرع، فإذا نبت أعطى غلة قليلة.
ولست آخذ عليك هذه المحاولة العقيمة حين تلومنا إهمالنا فلسفتنا الكلاسيكية "الخاصة" العربية والإسلامية، ولا تلومنا لإهمالنا فلسفتنا الكلاسيكية الخاصة، السابقة الفلسفة العربية (المحمدية).
لا. لا آخذ عليك شيئاً من هذا لأني أوقن أنّ الفيلسوف المؤمن بحقيقته وحقيقة فلسفته لا يلبث أن يدرك عدم حاجته إلى وسائل العقل العادي ليشق الطريق لفلسفته، التي هي، في ذاتها، خروج على المعتاد. ولكني آخذ عليك هذه الحملة العنيفة علينا من أجل ما حلَّ بأمتنا، في العصور المتأخرة من الظلم والطغيان، اللذين أفقداها حيويتها الفلسفية، حتى ابتذل فيها لفظ الفلسفة وأصبح من تعابير الإدراك العادي. والإدراك العادي ليس مصيبة حلّت بنا وحدنا، بل حقيقة، عندنا منها ما عند غيرنا، مع اعتبار فارق المرتبة الثقافية بيننا وبين غيرنا.
إنك، يا أخي، تجور علينا كثيراً حين تستعمل هذه العبارة:
“I hardly think I am mistaken when I say that we do seem to have
a very strong antiphilosophical streek in our very being”.
وحين تقول إنه من المستحيل علينا أن نرتفع عن شهوات الجسد إلى الأفكار والحق والحب والوجدان. فقد جرى في الماضي، قبل نكباتنا العظيمة، أننا ارتفعنا فوق هذه الأمور الدانية إلى المرامي السامية من الفكر والحق والحب والوجدان. وها نحن نعود، وأنت في عداد حججنا، إلى الارتفاع من القاع الذي ألقتنا فيه النوازل التاريخية.
أرى جلياً أنك، بهذه الحملة الشديدة على شعبنا، تريد أن ترفعه وأن تعيد إليه حقيقته التي أضاعها. ولكني أرى أنّ في تعابيرك أحكاماً عليه تصغّره في عين نفسه وتجعله يفقد ثقته بحقيقته وبمؤهلاته للنهوض. إنك تكاد تنتقم منه، بدلاً من أن تؤدبه وتعلمه.
ومع ذلك، فإني أرى كيف تعود فتدرك ذلك وتحاول أن تنتشله وتريه اتجاه النور. ولكني أعتقد أنه يكون قد خاف كثيراً من نفسه حتى لم تعد له بها ثقة ولم يعد يصلح لشيء سوى أن يكون قطعاً تحرك بالسياط والعصيّ.
كم أحببت حملتك على الإدراك العادي والتفكير المعتاد المسيطرين في مجتمعنا. وكم أحببت اتجاهك الصحيح نحو نور الحقيقة والجمال والحب والعدل. وثق أنّ شعبنا كله، كل الشعب السوري، مؤهل للأخذ بها بهذا الاتجاه بقيادة فلاسفته الذين يدركون حقيقة نفسيته التي كادت طبقات الحوادث التاريخية تطفىء نورها.
إذا كان معنى الفلسفة الفلاسفة أنفسهم، كما تقول، فأشد حاجة شعبنا إلى هذا المعنى. إنّ الإدراك العادي سيظل إدراكاً عادياً، مهما تثقَّف وارتقى، والفلسفة تظل فلسفة. والعالم لا يحتاج فقط إلى الفلسفة، بل يحتاج إلى الإدراك العادي أيضاً، لأنه حيث يوجد معطٍ يجب أن يكون هنالك متسلم يقبل.
وإنه من الحسن أن يفكر الإدراك العادي بديمكريطس وصكرات وأفلاطون وأرسطو وأغسطين وزينون ونيتشه. ولكني حين أفكر أنا في الفلسفة لا أفكر بهذه الأسماء، بل في الحقائق الأساسية والمرامي النفسية الأخيرة عينها التي فكّر فيها هؤلاء الفلاسفة.
وأعتقد أنك أنت أيضاً ستظل تحدق، من خلال هذه الأسماء، في الحقائق النفسية الأخيرة، حتى تغيب من أمام باصرتك هذه الأسماء، وتغوص على هذه الحقائق والمرامي في أعماق نفسك وتحس تياراتها الخفية الجارية من تحت الطبقات التاريخية المطبقة عليها، فتكتشف نفسك ـ نفسيتك الأصلية بكل جمالها وكل قوّتها ـ فتخرج وتدرك الرابطة بين الفيلسوف وأمته، وبين حيوية أمته وقبول الشعوب القريبة منها. حينئذ لا تعود بك حاجة لمناداة الشرق الأدنى أو العالم العربي لأن فلسفتك، فلسفة أمتك، تكون قد أصبحت فاعلة.
هذا هو فكري وشعوري في صدد خطابك الثمين، أقوله من أجل "نظام العقائد الأساسية" الضروري لتسديد حياة الأمة. واقبل احترامي الكلي وإخلاصي.
ولتحي سورية
في 10 أبريل/ نيسان 1938
الإمضاء: أنطون سعاده
(إنّ قيمة هذا الكتاب التوجيهية عظيمة جداً ويظهر أنها لم تبق بلا اثر في نفس المرسلة إليه).