الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 32، 15/11/1941
في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني من كل سنة، يقف الذين اعتنقوا الإيمان القومي وثبتوا على عهودهم التي قطعوها في الحركة السورية القومية للحياة الجديدة والنظام الجديد، ليتذكروا نعمة انبثاق فجر النهضة القومية التي عمدتها السجون وقدستها آلام الزعيم والأبطال الذين قرنوا الإخلاص بالتضحية والإيمان بالصبر والعزم والجهاد، وباركتها تضرعات ألوف الأمهات وهتافات ألوف الفتيان ودعاءات آلاف الشيوخ.
الحقيقة في أمر نشوء الحزب السوري القومي وتاريخه هي أنّ اليوم الذي جمع فيه الزعيم تلاميذ فكرته لينظمهم في حزب يقوم بأعباء القضية ويتولى الجهاد لتحقيقها ليس معروفاً بالضبط لأنه لم يسجّل. وكيفية نشأة الحزب والحوادث الصغيرة التي جرت له في بدء تأسيسه، وبعضها مذكور في خطاب الزعيم سنة 1938، جعلت من الصعب ضبط تاريخ اليوم الذي ابتدأ فيه الحزب السوري القومي حياته وأعماله. ولكن من المؤكد أنّ هذا الحادث التاريخي الذي بعث الأمة السورية حية جرى في يوم بين أواسط أكتوبر/تشرين الأول وأواسط نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1932. ولمّا كان اليوم السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني هو اليوم الذي أوقف فيه الزعيم وأركان إدارة الحزب، أعضاء مجلس العمد، وأودعوا سجن الرمل في بيروت سنة 1935 ليجري التحقيق في أمر الحزب وحركته، فقد قرر الزعيم اختيار هذا اليوم عينه من عام 1932 ليكون تاريخاً لتأسيس الحزب السوري القومي، لأنه في هذا اليوم عينه من سنة 1935 أعلن للشعب السوري وجود الحزب السوري القومي بواسطة المذكرة التي وضعتها دائرة الأمن العام التي تولّت توقيف الزعيم وأعوانه، ومذكرة التوقيف غير الموقت التي أصدره قاضي تحقيق المحكمة المختلطة السيد تمبال.
في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 أزيح الستار لتظهر النهضة السورية القومية للملأ. فاستعر هذا اليوم لسنة 1932 نظراً لقوّته الرمزية. فأصبح السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني يوماً تاريخياً مشتركاً بين سنة 1932 وسنة 1935.
إنّ الذين ماتت في نفوسهم الحياة الروحية وتحطمت قيمة المثل العليا عند أقدام ماديتهم المستهزئة، الباردة، الساخرة والذين لم تأخذهم هزة البعث القومي الذي جرى في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1932، ولا شعروا بروعة البشرى القدسية التي أخذت تنتقل من فم إلى فم في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1935 لا يفهمون ولا يمكنهم أن يفهموا المعنى العميق الذي يملأ نفوس القوميين الحقيقيين في هذا اليوم، فتخشع لذكرى ولادة الإيمان القومي وتغتبط بالأمل المجيد الذي يوقظها هذا اليوم لتراه.
الحقيقة أنه لا يمكن كاتباً، مهما اتسع خياله، أن يصف بالعبارات مبلغ تأثير ذكرى 16 نوفمبر/تشرين الثاني في نفوس القوميين الذين شهدوا البعث القومي ورأوا بعين اليقين أمّتهم، التي صرعها البرابرة الغزاة وكفّنها التاريخ الذي دوّنه وأوّله أعداؤها، تختلج بروح جديدة ثم تنهض في يوم مشهود تشق أكفانها وتقف في وجه أعدائها وسالبي حقوقها قائلة لهم: لقد طننتموني ميتة وما كنت إلا نائمة الآن قد استيقظت وأريد حقي!
في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1932 ابتدأت الحياة القومية تدب في جسم الأمة الصريعة. وفي 16 نوفمبر/تشرين اثاني 1935 كشف عن النهضة القومية لجيل يتصور الأفعال الخارقة والنهضات الجبارة قصصاً خرافية وأحاديث عن الأزمنة الغابرة ويعدّها شؤوناً وهمية بعيدة عن الحقيقة، غريبة عن المعقول. جيل علّمه حكماؤه أن يرى الفناء حكمة والمجد سخرية والطموح أحلام كسالى!
إنّ من أبناء هذا الجيل الملعون من يقول بملء صوته إنّ العنكبوت أفضل من الذي يقف نفسه على بناء أمة عظيمة وتشييد وطن جبار!
ومن غرائب لعنة هذا الجيل أنّ الذي يقول هذا القول الحقير المجبول بلؤم نفس انحدرت إلى قعر الحياة المادية يعدّ نفسه ويعدّه الناس شاعراً!
وأي لعنة أعظم من لعنة تصيب الجيل في شعرائه، الذين ينتظر أن تحملهم أجنحة الرؤيا إلى جو النور فيبصرون ويدعون إلى ما لا تراه الخفافيش، لا أن تكون أجنحتهم جلدية كأجنحة الخفافيش فلا تطير بهم إلا حيث تمد العناكب أنسجتها، فإذا أبدع رؤى هؤلاء الشعراء وأسمى طموحهم أن تكون الأمة مكتفية ببيوت العناكب التي يحومون حولها!
في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 فوجىء الناس بمرامٍ بعيدة تتطلع إليها نفوس كبيرة وآمال عالية تطلبها عزيمة جبارة وأعمال تنظيمية باهرة دهش لها رجال أوروبة فلم يعرفوا كيف يقبلون هذا الحادث وأي محل يحلّونه في نفوسهم. فانتظروا أقوال رجال الشعور والرأي الذين تعوّدوا أن يهتدوا بهداهم فكانوا كمن ينتظر الإلهام من الأصنام، اللّهمّ إلا نفراً قليلاً من أبناء جيل وسط بين الحاضر الزائل والمستقبل الطالع، فهؤلاء لم يروا بيوت العناكب أفضل من مجد النهوض القومي وأبقى من رؤيا نفس سامية رأت إمكانية إنشاء أمة عظيمة وتشييد وطن جبار، ولكن بغير قصائد ذوي الأنفس المتحجرة وبغير عزائم الذين لا يريدون غير بيت العنكبوت ولا يطمحون إلى أكثر من قن دجاج!
في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1932 ابتدأ تكوين جيل جديد يختلف بنفسيته الارتقائية عن النفسية الانحدارية التي كوّنها أصحاب حصر الدنيا وقصر الروح في بيت عنكبوت وقن دجاج. جيل يفهم أنّ إنشاء الأمة الجبارة وتشييد الوطن العظيم يتمّان بعمل أبناء الحياة، وليس بسخرية أبناء الموت، ويدرك أنّ هذا العمل العظيم لا يمكن إنجازه في مدة إنجاز بيت العنكبوت أو قن الدجاج، ويوقن أنّ ما لم يكن ممكناً لأبناء الموت هو ممكن لأبناء الحياة، وأنّ النفوس الجبارة لها طريق غير طريق النفوس القزمية!
في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 ابتدأ الجيل الجديد الارتقاء في طريقه مفارقاً الجيل القديم عند مفترق الصعود والانحدار، تاركاً هذ الجيل الشقي يتابع خطوه، بقوة الاستمرار، نحو وادي ظلال الموت حيث تنسج العناكب أكفاناً لأموات الروح، ليصعد هو، الجيل الجديد، بعامل وعي الروح إلى قمة مطلبه الأعلى حيث النور ساطع والأفق واسع ومجال الحياة فسيح.
إنّ أبناء الحياة يعرفون أنّ الصعود أصعب من الهبوط، وأنّ التعمير يتطلب من الجد والمقدرة ما لا يتطلبه التدمير، وأنّ العمل أشق من السخرية. ولكنهم اختاروا الأنبل والأسمى مفضّلينه، مع صعوبته والمجهود الذي يقتضيه، على الأحقر والأسفل، مع كل سهولته وقرب تناوله.
في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1932 ابتدأ يتكوّن جيل الحياة الجديد في سورية، وفي 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 ابتدأ هذا الجيل يشق طريقه نحو الحياة المثلى. والذين أخذوا نصيبهم من التجارب الأولى يشعرون أنّ 16 نوفمبر/تشرين الثاني يرتبط بكل اختلاجة من اختلاجات حياتهم وبكل هزة من هزات نفوسهم، بكل بارقة رجاء وكل زفرة أسف.
وإنّ جميع السوريين القوميين الذين يدركون قيمة الابتداء في إنشاء تاريخ فخم ويفهمون ولو قليلاً من معنى الجهاد القومي الرائع الذي ابتدأ في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1932، وظهر للملأ بغتة في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 وبلغ معظم روعته في 25 يناير/كانون الثاني سنة 1936، حين وقف الزعيم في قاعة المحكمة المختلطة يقارع أعداء الأمة الجالسين على منصة الحكم ويحمل تلك الحملة التي جعلت ألوف الناس يولدون ولادة جديدة ــــ إنّ السوريين القوميين الذين يدركون ويفهمون ولو بعض معنى هذه الحقائق التاريخة يشعرون أنهم يقفون في هذا اليوم من كل سنة أمام ذكرى مقدسة.
وقد جرت عادة الراسخين في العقيدة القومية والصحيحي الإيمان في الوطن أن يمتنعوا في هذا اليوم التاريخي عن الأعمال والأشغال الخصوصية. فيتزاورون ويتبادلون التهاني وتجري احتفالات خاصة في المديريات تقوّي الروابط الروحية والاجتماعية بين القوميين. وهكذا يفعل القوميون في جميع الأعياد القومية الكبرى، لأن القوميين هم الذين يحيون بالعقيدة القومية ويسيرون في حياتهم بالإيمان القومي.
وفي هذا اليوم الذي تبتدىء فيه النهضة السورية القومية عامها العاشر متغلبة على جميع الصعوبات الخارجية والداخلية، توجه «الزوبعة» إلى جميع السوريين القوميين الذين يصل إليهم صوتها تهانئها الحارة بمرور تسع سنوات على بدء الجهاد القومي، وتمنياتها بازدياد نمو الحركة القومية حتى يأتي اليوم الذي يخفق فيه علم الزوبعة الحمراء في مدن الوطن وقراه وعلى روابيه وحدوده، وعلى سفنه الماخرة عباب اليمّ وفي الساحات التي تستعرض فيها الجيوش القومية وفي المعسكرات وعلى دور السفارات السورية في الخارج.
ولتحيَ الحركة السورية القومية!