كل شيء، بيروت، العدد 108، 22/4/1949
قلت في مقالات سابقة نشرت في كل شيء إنّ انخذال المجهود السوري في فلسطين يعود إلى النفسية المريضة التي سيطرت على هذا المجهود، وواجهت قضايا العالم الحاضر بقضايا العالم الغابر.
الحقيقة هي أنّ سورية اللاقومية اجتماعية كلها لا تزال تعيش في عالم من القضايا متأخر جداً عن عالم العصر الحديث. فهي لا تزال تعمل في عصر القوميات وتنازع الأمم موارد الحياة والبقاء والتفوق، لقضايا الحزبيات الدينية والحروب الهلالية والصليبية! ولا تزال القضايا الدينية تشغل مركز الشعور من كل سوري وسوريّة، لم يتح لهما أن تمسّ نفسيهما اليقظة القومية، وأن تشغل عقليهما قضايا النهضة القومية الاجتماعية التقدمية.
في هذه النفسية المتخبطة في شواغل الماضي السحيق كان على الحركة السورية القومية الاجتماعية أن تعمل في لبنان وفي بقية الدول السورية. كانت الصعوبة من هذه الناحية هائلة. وأول ناحية من نواحي هذه الصعوبة كانت اللغة، أي المفاهيم. فقد كانت لغة النهضة القومية الاجتماعية لغة غريبة غير مفهومة عند الناس، وكان يجب تعليم هذه اللغة لكل فرد يريد الاقتراب من قضايا هذه النهضة. وكان تعليم المتوسطي الأعمار او المتقدمين في السن من الصعوبة بمكان، فكان من الطبيعي أن تتجه الحركة القومية الاجتماعية إلى الأحداث والشبان لأنهم أقرب إلى قبول التعليم الجديد، وتعلُّم اللغة الجديدة، لغة المناقب القومية الاجتماعية وقضايا الاجتماع النفسية والاقتصاية والسياسية.
طبيعي أنّ سورية التي أخفقت ورجعت منكسرة ومسحوقة النفس من أول محاولة لمواجهة قضايا تنازع الأمم الحياة والتفوق، كانت سورية النفسية القديمة المريضة ـ نفسية التجمهر باسم الدين والقضايا الدينية، بدلاً من الانتظام في عقيدة القومية الاجتماعية، نفسية اتخاذ القومية لباساً فضفاضاً للحزبية الدينية التي ماتت في كل العالم المتقدم ولا تزال تمتص دماء الأمم في العالم المتأخر!
تلك هي سورية التي أخفقت في الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918، فلن تتمكن من انتهاز تلك الفرصة الثمينة النادرة للانتقاض على السيادة التركية واسترجاع السيادة السورية. ورفع "الانتداب" الاستعماري عنها. تلك هي سورية التي خسرت كيليكية والإسكندرونة. تلك هي سورية التي فقدت فلسطين وأذنت بقيام دولة يهودية فيها!
بينما كانت الخطط الأجنبية توضع لسلخ أجزاء من سورية عن جسم الأرض السورية الأم، ولاستعمار سورية واستعبادها، كانت تثار في سورية قضايا الأكثرية والأقلية الدينيتين، وكان السياسيون "الوطنيون" يظهرون مهارتهم الفائقة في استغلال النعرات الدينية لمآربهم الخصوصية، ولتوطيد نفوذهم، وكانت الأطماع الأجنبية الاستعمارية سريعة الإدراك للحالة النفسية السورية وسريعة العمل للانتفاع منها فغذّت فكرة الدولة الدينية في أوساط الشعب، وعجَّل "الانتداب" الفرنسي في إنشاء دولة للمسيحيين ودولة للدروز ودولة للعلويين، وكاد ينشىء دولة مسيحية ثانية للمسيحيين الآشوريين. واستغل الاستعمار الأجنبي، إلى جانب ذلك، الخصومات العرقية من "عربية" وشركسية وكردية وآشورية و"فينيقية" المختلطة اختلاطاً شديداً بالحزبيات الدينية.
بالأحقاد الدينية والاقتتال على الجنة السماوية، واجهنا مشاكل حياتنا القومية. ولا تزال مدارس التقوى والورع عندنا تغذي عقول ناشئتنا بالدروس المسهبة عن الفرق بين "النبي" و"الرسول" والفروق بين مراتب الأنبياء والرسل، ومن منهم يتقدم على البقية عند الإيذان بدخول السماء يوم القيامة والحشر، وكيف أنّ أول واجب على كل متّبع نبياً أو رسولاً أن يحارب في سبيل نبيّه أو رسوله، وكيف يجب أن لا يفكر بشيء إلا بالحظوة بالجنة مستشهداً في سبيل دينه، وكيف أنّ كل مذهب ديني مخالف لمذهبه هو كفر بالله، فالأرثوذكسي هو للكاثوليكي هرطقي وبالعكس، والبروتستانتي هو هرطقي أيضاً وبالعكس، والعلوي هو للسني خارج عن حقيقة الدين وبالعكس، إلخ.
هذه هي القضايا التي تكوّن مدار حياة سورية القديمة الرجعية. فالحرب لا تعني إلا اقتتالاً على السماء. وكل قضية غير قضية دخول السماء، لا محل لها في نفسية القرون الوسطى التي لا تزال مسيطرة في سورية اللاقومية اجتتماعياً. والبلية البعيدة هي في أنّ هذه النفسية لا تكتفي بتسكعها وتخبطها بل تتعدى ذلك إلى محاربة كل فكرة تريد تحويل الناشئة عن قضايا الاقتتال على السماء إلى قضايا الاتحاد لربح الأرض!
قد حاربت النهضة القومية الاجتماعية الاستعباد الأجنبي، وساعدت الظروف على جلاء قواته المسلحة عن أرضنا. ولكن المعركة مع الحزبية الدينية والنفسية الرجعية لا تزال دائرة بشدة وقبل أن تنتهي هذه المعركة بفوز المبادىء القومية الاجتماعية، فمعارك سورية القومية ستظل معارك إخفاق وخسران أمام قضايا الوجود المنتصرة على قضايا الغيب.
ما دمنا نقتتل على السماء فلن نربح الأرض!
النهضة القومية الاجتماعية تقول: إنّ قضايا السماء تحل في السماء. إنها قضايا بين الفرد والله، لا بين جماعة وجماعة، فلا فائدة من اقتتال جماعة وجماعة لأجل السماء ما دام الله هو الديّان الذي يقضي يوم الحشر، وما دام الناس قد أسلموا لله.
لا يمكننا أن نربح الأرض ونحن نقتتل على السماء. والشواهد الأخيرة خير دليل على صحة هذا المذهب. فلكي نربح الأرض يجب أن نقاتل صفوفاً موحدة في سبيل الأرض، وبربحنا الأرض نربح الجنة!
لا خير ولا ارتقاء بلا الأرض. والأذلاء يضمحلون أمام الأعزّاء، والذين يكسبون الأرض يهلكون الذين لم يعرفوا أن يحافظوا عليها. الوصول إلى السماء يقتضي ارتقاءً لا انحطاطاً. السماء بالعز لا بالذل، فصونوا بلادكم عزيزة، واحفظوا أرضكم ففيها السماء والخلود!
القومية الاجتماعية توحدكم وتقودكم إلى النصر والفلاح والعزّ أيها السوريون!