بقلم أنطون سعاده
كل شيء، بيروت، العدد 114، 2/6/1949
جاء موضوع توقيف الرقيب [أكرم] طبارة والجنود الذين كانوا معه من قبل الدرك اللبناني لأنهم قتلوا فاراً متهماً بالجاسوسية يدعى كامل الحسين ضمن حدود الجمهورية اللبنانية، وما تلا التوقيف من أزمة علاقات بين الحكومتين اللبنانية والشامية، فرصة سعيدة لعمال التفريق والتفكيك القوميين، يغتنمها العاملون بقصد منهم لتحقيق المهمة الرئيسية التي كلّفتهم الثقافة والتوجيه الأجنبيان القيام بها، ويغتنمها العاملون بلا قصد وبغباوة عظيمة لزيادة التخبط والفوضى في الشؤون القومية.
في مقال سابق نشر في كل شيء، فصّلت العوامل النفسية التي تدفع المثقفين في ثقافة السياسة الأجنبية الاستعمارية في لبنان إلى العمل بكل قواهم على تقطيع الوحدة القومية وزيادة التفسيخ الروحي الذي ولدته الحزبيات الدينية وتحويله إلى نتيجة نفسية كاملة تعني للدول الأجنبية الطامعة في الاستعمار المباشر: تمزيق الأمة السورية تمزيقاً نهائياً يجعلها غير قابلة النهوض في وجه المطامع الغريبة، وتعني للذين وجّهتهم الثقافة الأجنبية الاستعمارية وجهة "القوميات الدينية": انتصار أمراضهم النفسية على حقيقة الأمة ووحدة الشعب. (ص 309 ـ 312 أعلاه)
توليد الكره في لبنان للاسم السوري الذي حمله آباؤنا وأجدادنا إلى أقاصي الأرض والذي خفقت له قلوبهم ومثل شخصيتهم هو الغرض الأول من أغراض "القوميين الطائفيين" الذين يعيشون في الطائفية، ومن أجل الطائفية أنكروا الطائفية وبدَّلوا اسمها فسمّوها "قومية"!
كم هي سعيدة للقوميين الطائفيين في لبنان فرصة قتل شرطة الجيش الشامي لرجل فار متّهم بالجاسوسية لمصلحة اليهود ضمن حدود الجمهورية اللبنانية التي يسميها القوميون الطائفيون حدوداً "طبيعية"! فهؤلاء الطائفيون الذين لا يفهمون للسيادة معنى غير المعنى الطائفي الذي يفهمونه وجدوا السيادة اللبنانية قد هددت، والكرامة اللبنانية قد أهينت، ووجدوا أنّ الذين ارتكبوا تينك القباحتين هم "سوريون" أجانب عن "اللبنانيين"، وأدركوا أنّ وضع هذه الصورة "أمام الشعب" يزيد في قوة الموضوع الطائفي القومية، ويأتي بنتيجة باهرة في الاستمرار في تسميم الشعب بالكره لقوميتهم الأصلية عن طريق التلاعب بالأسماء والصفات وعن طريق تسمية الصنعي بالطبيعي وتسمية الطبيعي بالوهمي!
إيجاد الكره يولّد الحقد ويقيم العداوة. والقومية الدينية هي أبداً في حاجة إلى العداوة لتعيش. العداوة هي الهواء الذي تتنشقه الحزبية الدينية، هي الأوكسيجين الذي بدونه تختنق!
الحادث الاضطراري البسيط صار حادثاً تعمدياً يجب أن يقيم الأرض ويقعدها. فالسيادة اللبنانية قد انهارت لأنّ جنوداً من جيش الشام، الذي هو جيش واحد من الجيوش السورية التي منها جيش لبنان الواقفة أمام مآرب اليهود، تعقبوا في أرض إخوانهم اللبنانيين رجلاً وجدوا أنه يهدد سلامة الجيشين الشامي واللبناني بالتجسس لمصلحة اليهود!
أي حادث خرق السيادة القومية كما خرقها هذا الحادث الخطير؟ هل كان احتلال اليهود لنحو خمس وعشرين قرية لبنانية خارقاً حرمة السيادة القومية في لبنان كما هي الحال في قتل جاسوس ضمن الحدود اللبنانية؟ كلا. هذا هو منطق القومية الدينية والسيادة الطائفية عند الذين لا يرون في لبنان غير ملعب لشهواتهم وعنعناتهم الخصوصية السائرة نحو إهلاك الشعب!
هؤلاء الخصوصيون الطائفيون يصرّون دائماً على أن يكون لبنان لبنانهم هم وحدهم من دون اللبنانيين القوميين الذين يرون السيادة القومية التي هي واحدة اللبنانيين والشاميين تخرق من قبل اليهود والمطامع الأجنبية لا من قبل جنود ينفذون أمراً عسكرياً في تعقب فار من قبضة الجيش السوري.
في الشام فئة تلذ لها العداوة الداخلية، كما تلذ للفئة المذكورة في لبنان. فإنّ بعض طرق معالجة الموضوع في الشام كانت مساعدة لطرق معالجة الموضوع بروح التفرقة والتقاطع في لبنان. وبتبادل التّهم تجد الروح الخبيثة الزيت للنار!
إني أقدّر كل التقدير الاستياء الذي أحدثه في الروح الخبيثة رأي الحقوقيين القوميين الاجتماعيين اللبنانيين في حادث اعتقال الجنود الشاميين. فإنّ هذا الرأي الصادر عن قوميين اجتماعيين لبنانيين ينزع من عمال التقاطع والتفكيك القوميين وسيلة جر الناس في لبنان في طريق الحقد والعداوة مع أبناء أمتهم في الشام!
إنّ الذينن رموا أحجارهم في آبار آبائهم وأبنائهم يضجون لأن آبارهم أصبحت ملأى بالحجارة! لا بأس. فليس ضجيجهم بمانع أحجار القومية الاجتماعية من سد آبار الحزبية الطائفية والقومية الدينية!
إنّ لبنان يهلك بالحزبية الدينية ويحيا بالإخاء القومي.