السياسة الخارجية - عاصفة القتل في روسية

 النهضة، بيروت،
العدد 122،
22/3/1938


تناولت الاعتقالات والمحاكمات في روسية الشيوعية الستالينية عدداً كبيراً من أهم الشخصيات الروسية في السياسة والإدارة والحرب، خصوصاً الشخصيات الحربية الكبيرة. ولا تزال أنباء الاستدعاءات والتوقيفات والمحاكمات ترد حتى أصبحت من الأنباء العادية التي يتوقع القارىء أن يراها في الصحف كل يوم.
يستوقف نظر الفاحص اتساع نطاق الدائرة التي تتناولها الملاحقات، فهي في مركز الدولة وأطراف البلاد وفي مراكز السلك الدبلوماسي في الخارج. وبين الأشخاص الذين اعتقلوا وحوكموا بعض الذين لعبوا دوراً تأسيسياً في الدولة السوفييتية وفي إنشاء عهد ستالين، وإليهم تعود مظاهر القوة والمتانة والاستمرار التي ظهرت لها الدولة السوفييتية.
ومن الأمور التي تثير الدهشة الشديدة هذه الاعترافات بالجملة بالخيانة والتجسس الصادرة من المتهمين أثناء المحاكمة. وواحد فقط حاول أن يشذّ عن هذه القاعدة المتبعة بكل دقة، ولكنه عاد بعد مقابلة زوجته فعدل عن محاولته العقيمة "واعترف" بخيانته وتجسسه لحساب دولة أجنبية. فإذا الكل جواسيس: بعضهم لحساب بريطانية العظمى وبعضهم لحساب ألمانية وآخرون لحساب اليابان والبعض لحساب إيطالية. فهم لا يؤلفون شبكة جاسوسية متصلة الحلقات، بل جواسيس إفراديون يبيعون أسرار دولتهم لأعداء أمتهم ووطنهم!
يصعب كثيراً تصديق هذه "الاعترافات" الإجماعية بخيانة الدولة وخدمة المصالح الأجنبية من أشخاص كبار لهم وزنهم في الدولة، وتاريخ يشهد لهم بمواقف جرأة ونبالة قصد وشرف في العمل. ومنهم من كانوا أشد رجال الحركة الشيوعية حيوية واندفاعاً بعد لينين وتروتسكي، ومنهم من كان فخر الجيش الأحمر ومثاله الأعلى كطوخاشيفسكي.
أجل، يصعب كثيراً التصديق أنّ رجإلا كباراً اشتركوا في المجهودات الرئيسية لإيجاد هيبة الحكم السوفييتي التي أيدوها بشرف تصرفهم يكونون أو يتحولون إلى مجرّد جواسيس، يعملون لمصالح دول أجنبية لقاء بعض الفوائد أو المنافع الشخصية. إنّ تصور مثل هذا الافتراض يتوغل بنا بعيداً في نقض المبادىء النفسية وقوة عواملها ودوافعها، وفي إبطال كلّ ثقة بالأخلاق التي تقوم عليها المصالح والقضايا العامة ونفي كل أمل بالأعمال الإنشائية والإصلاحية في المجتمع.
نعتقد أنّ إدارة السوفييت المركزية لم تكن موفقة في اختيار التهمة التي يجب على المتهمين "الاعتراف" بصحتها، لأن هذه التهمة لو صحت لدلّت على انحطاط أخلاقي وفساد مناقبي عام لا يشرّف المبادىء التي تقوم عليها الدولة السوفييتية، وتدعو إلى الشك في إخلاص كل رجل مسؤول في روسية اليوم للقضية التي يظهر أنه يعمل لها.
وإذا لم تكن التهمة صحيحة فالمصيبة أعظم لأنها تدل على أنّ النظام السوفييتي الحاضر يقوم على الطغيان والإرهاب، وعلى أنّ الحالة الروسية الحاضرة حالة غير قائمة على حاجة عامة إليها واقتناع عام بخيرها وضرورة وجودها لمصلحة روسية.
نحن نميل إلى الأخذ بهذا الوجه الثاني من مسألة "اعترافات" المحاكمين من أركان الإدارة السوفييتية. ونعتقد أن المسالة ليست مسألة اعتراف بالواقع بل مسألة إرهاب أوجب على المتهمين "الاعتراف" بأمور لم يرتكبوها تحت تهديد قوي بالتنكيل بأهلهم وأولادهم أو ما شاكل.
ونذهب أيضاً إلى الاعتقاد أنّ الواقع لا يتعلق بالجاسوسية للمصالح الأجنبية مطلقاً، بل يقتصر على عمل داخلي يتعلق بدكتاتورية ستالين وأغراضه.
ومعلوم أن ستالين لم يكن من الشخصيات القوية اللامعة على عهد لينين، ولا من نوابغ الحركة الذين حازوا إعجاب العاملين. فهو أحد تلك العقليات المتوسطة التي ينحصر تفكيرها في الاستفادة المستعجلة. وهو قد انصرف في أيام لينين الأخيرة إلى الاستفادة من كل ظرف لجمع مناصرين لمطامحه وإعداد العدة للانقضاض على الحكم بعد موت لينين، وهكذا كان ولكن "وسطانية" عقلية ستالين لم تكن تمتاز إلا بهذه الميزة، ميزة العمل للمطامح الشخصية. وكان من البديهي أن تصطدم وسطانيته بالمطالب العليا لأشخاص كبار في الدولة, ومع أنه تمكن من أن يجمع حوله عدداً منالقائلين بقبول الأمر الواقع والعمل به ما أمكن العمل، فإن ظاهرة الدكتاتورية المفروضة أخذت تصبح ظلاً ثقيلاً على القائلين بالدكتاتورية المرغوبة أو الذين يقبلون بها.
ومما لا شك فيه أنّ تروتسكي كان دائماً لستالين بالمرصاد. وتروتسكي شخصية قوية كانت أبرز شخصية بعد لينين عملت للانقلاب الروسي. وقد يكون النافرون من طغيان ستالين اتصلوا به وحاولوا توحيد جهودهم للقضاء على زعامة ستالين المفروضة بالقوة السياسية الإرهابية لا بالعقلية الكبيرة المسيطرة.
تجتاح روسية اليوم عاصفة تقتيل. ومهما يكن من أمر التهم الموجهة إلى المحاكمين والمعتقلين، فالظاهرة ظاهرة محاولة التعويض عن تفسخ النظام السوفييتي الستاليني بالإرهاب، وهي من أعقم المحاولات التي يمكن الالتجاء إليها بقصد شريف.
إنّ الحالة التي نبحثها هي حالة فقدان الثقة بالنفس وبأسس الكيان القائم ومحاولة التعويض عن هذه الخسارة الأساسية بالإرهاب. وهي أيضاً مظهر من مظاهر الانشقاق والتفسخ الداخليين في الإدارة الروسية.

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.