نسر الزعامة السورية القومية الاجتماعية ووحل التوكومان وذبابها (4)(1)

 "فوضى مديرية تكمان الأولى"

الزوبعة، بوينُس آيرس، العدد 88، 20/1/1947

 

في هذا الأثناء كانت قد جرت حوادي هامة في مديرية توكومان يجب إيضاحها لأن لها علاقة وثيقة بموضوع هذه السلسلة التي تتناول أوحال البيئة السورية التوكومانية.

لم تكد تتشكل مديرية توكومان بعد زيارة الزعيم الأولى إليها بتعيين المدعو كامل عواد مديراً ونجيب ندره بوظيفة في هيئة المديرية، حتى ابتدأ الصراع بين النهضة وعوامل النفسية اللاقومية القديمة في نفوس المسؤولين وعدد من الأعضاء الجدد الواقعين تحت نفوذهم. ولما كان الزعيم مقيماً في بوينُس آيرس، بعيداً عن الاحتكاك اليومي بالمنضمين حديثاً إلى الحركة السورية القومية الاجتماعية في توكومان، ولم يكن قد قضى بينهم سوى أيام معدودة لم تكن كافية لإرساخ العقيدة ومبادئ النظام فيهم، ولما لم يكونوا هم من المتعلمين علوماً عالية تساعدهم على فهم القضايا وأصولها بمجرّد الاطلاع، لم يكن أن يتحولوا من روحية الخمول والفوضى إلى روحية النهضة والنظام، وحالاً أخذت عوامل هذا الصراع المتصادمة تتمركز في بعض القضايا التي كان يجب على الفروع في الأرجنتين عضد موقف الإدارة العليا وتدابيرها في صددها. فظهر أنّ الأعضاء في توكومان وخصوصاً المسؤولين منهم أسرع إلى التمسك بالاعتبارات القديمة اللانظامية منهم إلى الأخذ باعتبارات النظام. وقد تمركز الاصطدام المؤدي إلى إظهار ضعف نفسيات المنضمين حديثاً إلى الحزب في توكومان في قضايا رئيسية أربع وفي مسائل أخرى فرعية وإفرادية.

كانت المسائل الرئيسية الأربع:

1 - مقاطعة جريدة سورية في بوينُس آيرس تنشر الإشاعات الملفقة وأنواع التحامل على الزعيم وعلى الأعمال السورية القومية الاجتماعية في الأرجنتين.

2 - تدابير للزعيم تجاه جريدة سورية الجديدة لتي خرجت في عهدها الأول على الخطة التي كانت تقررت لها وعصت أوامر الزعيم وتوجيهاته في صدد سياستها ونهجها. 3 - زواج الزعيم. 4 - فرع الجمعية السورية الثقافية في توكومان.

نبتدىء بالمسألة الأولى: إحدى الجرائد السورية في بوينُس آيرس وقفت منذ بدء وصول الزعيم إلى الأرجنتين من أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي موقفاً غير موافق، وكانت في هذا الشأن مثل غيرها من الجرائد السورية التي لها في العيش نهج خاص. فلم يكترث الزعيم لموقفها. وكان يحرر فيها شخص أخذ يتصل بالحركة القومية الاجتماعية إلى أن انضم إليها. وبعد مدة قليلة ظهرت منه أعمال تدل على أنه يريد استغلال الحركة لمنافع خصوصية مادية، واستولى مع شريك له على بعض مبالغ مالية يريد استغلال الحركة لمنافع خصوصية مادية، واستولى مع شريك له على بعض مبالغ مالية خاصة بالحزب وزعيمه، فطرد من الحزب فقام يشتم الحزب ويناوئه في الجريدة التي يحرر فيها ويحاول تشويه حقيقة كل أمر يأتيه الحزب أو الزعيم. ولم يردعه أصحاب الجريدة عن ذلك مما يدل على أنهم راضون عن تلفيقاته المشوهة الحقيقة فنظر الزعيم في أمر هذه الجريدة ووجود عدد من القوميين الاجتماعيين وأصدقائهم والمحبذين مشتركين فيها. فرأى أن مقاطعة الجريدة من قِبَل القوميين الاجتماعيين والمحبذين يجعل أصحاب الجريدة يشعرون بغضب القوميين الاجتماعيين لما فيها ‎‏ من التلفيقات والتأويلات الفاسدة والضرر الذي يتعرضون له بمتابعة السماح باستمرار المقالات العدائية للحزب السوري القومي الاجتماعي، فأصدر الزعيم تعليماته إلى جميع المديريات والرفقاء المنتشرين في هذه البلاد بوجوب مقاطعة الجريدة المذكورة. فامتنع مدير مديرية توكومان آنئذ المدعو كامل عواد عن العمل بالتعليمات المرسلة رسميًّا إليه ووافقه على موقفه المخلّ بالنظام واليمين وقسم الوظيفة ناموس المديرية نجيب ندره. وعلى الرغم من تشديد الزعيم بوجوب تنفيذ المراسيم والتعليمات الإدارية ظل الشخصان المذكوران متشبثين بموقفهما اللانظامي وأخذا يصوران تشديد الزعيم في وجوب طاعة الأوامر والمراسيم العليا بصورة "الاستبداد بالرأي"، خالطين بين المراسيم والتعليمات الإدارية من جهة والآراء من جهة أخرى. وتطرفا إلى حد القول إن نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي – إذا ‎ ‏كان يصلح للسوريين في للوطن فهو لا يصلح للسوريين المهاجرين الذين زادت‎ ‏الفوضى فيهم على ما كانت عليه في الوطن، وصار كل نظام وكل تنظيم وكل تقييد‎ ‏لانفلاتهم من المسؤوليات والأوامر والمحاسبات في عرفهم "استبداداً" مخالفاً ‏"للحرية والديموقراطية".

‏ابتدآ يبثان بين الرفقاء روح الرجوع إلى الفوضى والحنث بالقسم وخيانة العهد.‎ ‏نننقل الآن إلى المسألة الثانية. جريدة سورية الجديدة التي صدرت في أوائل سنة‎ ‏1939 في سان باولو - البرازيل هي جريدة أنشئت باتفاق أساسي بين الزعيم وبين‎ ‏السيدين الشقيقين فؤاد وتوفيق بندقي للمغتربين في المدينة البرازيلية المذكورة وقد‎ ‏اشتمل هذا الاتفاق على النقاط الأساسية التالية:

‏1 - بأن تكون الجريدة أداة إذاعة لمبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي‎ ‏وتحت مطلق تصرفه وتدابيره.

‏2 - أن يقدّم الحزب المواد الكتابية اللازمة، وأن يتكفل السيدان بندقي بتأمين‎ سير الجريدة من الوجهة المالية إلى أن تصبح قادرة على القيام بنفقاتها وكلما طرأ عليها‎ ‏عجز مالي.

3 - تكون أرباح الجريدة المادية عائدة إلى هذه الشركة، على نسبة ثلثي‎ ‏الأرباح لأصحاب رأس المال أي السيدين بندقي، والثلث الباقي لخزانة الحزب.‎

‏ وبعد الاتفاق على هذه الأصول ومباشرة/لأعمال التمهيدية، إنضم إلى الحزب‎ ‏السوري القومي الاجتماعى السيدان فؤاد وتوفيق بندقي، وصار عليهما واجب خدمة‎ ‏قضية الحزب والاخلاص لغايته وطاعة نظامه، فصارت الصفة القومية الاجتماعية أشد‎ ‏متانة من ذي قبل، وكان ينتظر أن تسير الجريدة بأقوى ما يكون من الانسجام وبأصفى‎ ‏ما يكون من صدق التعبير عن النهضة السورية القومية‎ الاجتماعية وخطط الحزب ‏السياسية. وقام على إنشاء الأعداد الأولى الزعيم نفسه والرفيق المرافق أسد الأشقر، وعيّن لناموسية التحرير بصفة موقتة عضو انضم إلى الحزب في سان باولوا إسمه رشيد شكور. وما إن صدرت الأعداد الأولى من سوريا الجديدة حاملة التعاليم السورية القومية الاجتماعية وروحية النهضة ومثلها العليا وتفكيرها السياسي الجديد حتى سرى في مجموع النزالة السورية في البرازيل تيار أشبه شيء بالتيارات الكهربائية، فحركت النفوس واتجهت نحو الحركة القومية الاجتماعية وأخذت تفهم عنها غير ما لفقته في صددها إشاعات الرجعة وأذناب المستعمرين.

‏لم يبقَ الزعيم في سان باولو – البرازيل بعد إصدار سورية الجديدة سوى مدة قصيرة لأن الستة أشهر التي كان مرخصاً له بها، بصفة كونه زائراً فقط كانت قد انتهت، ولما كان غرضه زيارة النزالات السورية في أقطار أميركة الأخرى، اضطر لترك البرازيل قبل تثبيت إداره سورية الجديدة كما كان يريد، وكان غرضه أن يستقدم أحد مفكري النهضة السورية القومية الاجتماعية من الوطن ليقوم على إدارتها فلم تمكنه الظروف من ذلك. فقدم الأرجنتين، وبينما هو لا يزال في مخابرة مع المركز في الوطن لتعيين بعض المرشحين لإدارة الجريدة، إذا بالحرب تنشب بسرعة، وتلغي فرنسة حالة "الاستقلال" والحكم الذاتي. ويتسلط الجيش الفرنسي على الادارة المدنية في الوطن، ويبتدىء بملاحقة أركان الحزب السوري القومي الاجتماعي فتبقى سورية الجديدة في حالتها الادارية الضعيفة.

وسافر الرفيق أسد الأشقر عائداً إلى أفريقية الغربية ثم إلى الوطن وبقي الزعيم يهتم وحده بإمداد سورية الجديدة بما يمكّنه منه الوقت من مقالات وبالتوجيهات التي يراها ضرورية لمصلحة القضية القومية الاجتماعية. فقام بذلك بهمته المعروفة على الرغم من سوء حالة صحته وأعصابه.

لم يطل الوقت على قدوم الزعيم إلى الأرجنتين، حتى أخذ يلاحظ شذوذاً في إدارة سورية الجديدة عن الخطة السياسية والإذاعية التي رسمها لها، وعن الروحية‎ ‏السورية القومية الاجتماعية البحتة التي كان يتوقع ظهورها في العضوين اللذين تعهدا بتأمين صدور الجريدة، وفي العضو الذى عهد إليه الزعيم القيام بوظيفة ناموس تحريرها، فجرت بينه وبين الرفيق العامل المخلص جورج بندقي الذي كلفه الزعيم أن‎ ‏‏يكون صاحب امتياز الجريدة وهو ابن عم السيدين فؤاد وتوفيق بندقي، وبين الزعيم وبعض الرفقاء الآخرين، وبين الزعيم والمكلف بناموسية التحرير السيد رشيد شكور مراسلات، انتهت في الطور الأول بطرد السيد رشيد شكور من الحزب السوري القومي الاجتماعي وعزله من وظيفة ناموس التحرير.

ولكن الجريدة بقيت في شذوذها، وصارت تهتم بنشر صور الجيوش الألمانية وقوادها وزعيمي ألمانية وإيطالية أكثر من اهتمامها بنشر صور الحركة السورية القومية الاجتماعية وأركانها، وكثرت فيها المقالات الإذاعية لمصحلة المحور الألماني – الإيطالي، وفاقاً لخطط الإذاعة الألمانية، وظهر اهتمام الجريدة بمحاربة

اليهود في العالم، وإظهار عيوب السياسية الأميركانية والسياسة البريطانية وقلة اكتراثها بالمواضيع السورية البحتة وسياسة الحركة السورية القومية الاجتماعية التي تقول بمحاربة الصهيونية ومطامع اليهود في سورية، ولا يهمها بعد ذلك أن تحارب اليهود من أجل مصالح الحركة الألمانية الاشتراكية القومية، أو من أجل مصلحة الحركة الإيطالية الفاشستية وما لها من أغراض سياسية أخيرة لا تتفق مع أغراض النهضة السورية القومية الاجتماعية.

أرسل الزعيم ملاحظات عديدة على سياسة سورية الجديدة غير المنطبقة على سياسة الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولكنها جميعها أهملت بتاتاً، ولما رأى الزعيم أن لا سلاح للجريدة فى وضعها ذاك، وأنّ وراء الستار غايات وسياسات أخرى، أرسل كتاباً إلى الرفيق جورج بندقي يكلفه تبليغ إبنيّ عمه العضوين فؤاد وتوفيق بندقي أن الزعيم لا يقبل ولا بوجه من الوجوه ان تحمل الحركة السورية القومية الاجتماعية تبعة السياسة الشخصية التي يسيران بها في سورية الجديدة بما لهما من سيطرة مادية ولعدم وجود مدير سياسي للجريدة من مفكري الحزب الراسخين في العقيدة والنظام وأنه يحسب الاتفاقية الأساسية بينه وبينهما ملغاة، وأن الجريدة وسياستها تصبح على مسؤوليتهما الشخصية الخصوصية.

قبل السيدان فؤاد وتوفيق بندقي ذلك، والظاهر أنهما عدّا هذه النتيجة انتصاراً لنظريتهم وسياستهما. فقد قامت فروع الحزب في جميع المهاجر بدعاوة واسعة للجريدة وتعيّن في هذه الفروع مراسلون ومخلّصو اشتراكات، وتطوعت اقلام عدد من أدباء الحزب ومفكريه المغتربين لتدبيج مقالات كثيرة، وأصبحت الجريدة تتمتع بمركز ممتاز في جميع المجاميع السورية عبر الحدود. فإذا أمكنهما الاحتفاظ بهذه النتائج المعنوية والمادية، وبهذا الانتشار الواسع بالمشوقات الشخصية، فيكونان قد ملكا قوة معنوية كبيرة ذات تأثير في جميع النزلات السورية في الأميركيتين وفي أفريقية.

‎ هل كان يجب أن ينتهي أمر سورية الجديدة عند هذا الحد؟

يمكن لكثير من البسطاء أن يقتنعوا بوجوب ذلك. ولكن المسألة كانت تقتضي عدم إنهاء عند ذاك الحد. فإن مصلحة الحزب السوري القومي الاجتماعي، التي هي مصحلة الأمة السورية، كانت تقضي بعدم تسخير المنظمة السورية القومية الاجتماعية لمصلحة أفراد، وكان هنالك اتفاق منقوض، وكانت واردات الجريدة تأتي من اجتهاد القوميين الاجتماعيين الذين خدموا الجريدة ظنًّا منهم أنها جريدة لحزبهم، ومن الذين كُلّفوا تكليفاً رسميًّا من قِبَل الزعيم بنشر الجريدة وقبض اشتراكاتها، وكان الزعيم نفسه وعدد من المفكرين والأدباء السوريين القوميين الاجتماعيين يذيبون أدمغتهم لتغذية الجريدة بالمبادئ والمقالات التي أكسبت الجريدة منزلتها. ولما كان السيدان الشريكان الماليان في الجريدة قد خرجا على الاتفاق الأساسي وخطة الجريدة وتوجيهات الزعيم، صار يجب أن يتحملا وحدهما تبعة ذلك وتبعة الأضرار المعنوية والمادية التي لحقت بالحركة السورية القومية الاجتماعية في الوطن وعبر الحدود، من جراء شذوذ الجريدة الأخرق على الخطط السياسية السورية القومية وسيرها في تيار الدعاوة المحورية أو الألمانية خلافاً لتوجيهات الزعيم.

لم يكن الزعيم ليترك هذه المسألة الخطيرة عند ذاك الحد. فعزم على إيقاف المد المالي عن سورية الجديدة ومنع التعاون الأدبي معها. فأصدر مرسوماً بمصادرة أموال الاشتراكات المجيبة للجريدة في جميع فروع الحزب عبر الحدود. وبمنع تعاون المنشئين السوريين القوميين الاجتماعيين مع الجريدة، وبُلّغ مرسوم الزعيم إلى جميع المنفذيات العامة والمديريات المستقلة ومن جملة هذه المديريات مديرية توكومان.

نُفّذ قرار منع التعاون الأدبي تنفيذاً عامًّا، فانقطع جميع الأدباء السوريين القوميين الاجتماعيين عن إرسال مقالات وأخبار إلى سورية الجديدة، وفي المنفذيات العامة والمديريات المستقلة التي مارست النظام بدقة ورسخ فيها، وتمكنت العقيدة كان تنفيذ وقف المدد المالي ومصادرة الجباية للجريدة تامّين. أما في المديريات

الضعيفة النظم والمعنويات فقد ظهر فيها تردد وميل إلى عدم تنفيذ مرسوم الزعيم. والحمد لله أنّ هذه المديريات الضعيفة العقيدة والنظام كانت قليلة فلم يحل ترددها دون حصول النتيجة التي أراد الزعيم بلوغها.

بين المديريات القليلة التي أظهرت عدم نظاميتها بل في مقدمة هذه المديريات عبر الحدود كانت مديرية توكومان. وقد ترأس المعارضة فيها العضو المعيّن مديراً كامل عواد والعضو المعيّن في وظيفة إدارية ثانوية في هيئة المديرية نجيب ندره.

إبتدأ هذان الشخصيان يؤوّلان أوامر الزعيم تأويلات غريبة وصارا يقولان بعدم إطاعتها، وإنهما يريان أنّ "اشتراك الجريدة يجب أن يذهب إلى الجريدة" مهما كان وراء ذلك من إجحاف بحقوق الحزب ومن أضرار معنوية ومادية بالحركة السورية القومية الاجتماعية في الوطن وعبر الحدود. وإننا نورد على سبيل الإيضاح مثالاً واحداً من أضرار خروج سورية الجديدة عن خطة الحزب السياسية والإذاعية وإرادته، وهو استخدام الفرنسيين سورية الجديدة في جملة الحجج لملاحقة القوميين الاجتماعيين في الوطن وكل قومي اجتماعي ترسل إليه الجريدة المذكورة، حتى أن المطران حريكة ‏أرسل إلى الأرشمندريت إيصائيا عبود المطران اليوم – في سان باولو – البرازيل وإلى غيره يسأل إبلاغ إدارة سورية الجديدة وجوب قطع الجريدة عن القرا، في الوطن شفقة عليهم لما بلغه من تعقّب الفرنسيين لهم وتعذيبهم!

كل تشديد من قِبَل الزعيم على مديرية توكومان بوجوب تنفيذ المرسوم بالحرف كان يقابل من العضوين الشاذين المذكورين ومن حملاه على الموافقة على رأيهما بالتصلب والمعاندة حتى آل الأمر إلى جهرهما بتلك السفسطة التي يستعملها الجهال بلا حساب وهي "نحن هنا في أميركة تعوّدنا على الحرية والديموقراطية فلا نطيع طاعة عمياء".

صارت مراسيم الزعيم القانونية التي حلفا الأيمان على تنفيذها وتأييدها "سيطرة طاغية"، وصار حنثهما باليمين وخروجهما على النظام «عملاً بالحرية والديموقراطية"، فشوشا مديرية توكومان تشويشاً أوليًّا مزعجاً، وولّدا في الأعضاء الباقين روح العبث المستور والقوانين. والميل إلى الإخلال بالنظام والعصيان وراء ستار "الحرية والديموقراطية" التي لم يفهما منها غير الفوضى والانفلات من القوانين والواجبات.

ولكن المبادىء النظامية لم تكن في جميع الفروع في مثل هذا التهدم الذي ظهر في مديرية توكومان، فأطاع معظم السوريين القوميين الاجتماعيين في البرازيل والمكسيك والولايات المتحدة الأميركانية وأفريقية وبعض أنحاء الأرجنتين مرسوم الزعيم طاعة مطلقة، يسنها محبو الفوضى والانفلات من الواجبات والمسؤوليات‎ ‏ "عمياء"، وأدّت هذه الطاعة إلى انتصار خطة الزعيم "الاستبدادية"، وكانت النتيجة أنّ العضوين شريكي الجريدة الماليين قررا بعد أخذ ورد ترك سورية الجديدة لإدارة الحزب المطلقة لأنهما لم يشتركا في إنشاء الجريدة إلا لتكون وقفاً على غاية الحزب، واشترطا فقط إعادة مبلغ مالي معيّن، فقبل الزعيم وعيّن لجنة من الرفقاء في سان باولو البرازيل تتولى الاتفاق مع السيدين فؤاد وتوفيق بندقي على جميع تفاصيل تسلّم سورية الجديدة تسلمًّا تامًّا وإلغاء كل علاقة لهما بإدارتها أو ماليتها، وأرسل الزعيم فاستدعى الرفيق وليم بحليس من ولاية مينس وعهد إليه بتولي إدارة سورية الجديدة، فضحّى هذا الرفيق المخلص بأعمال تجارية ذات أهمية اقتصادية وفسخ عقد شركة تجارية، وأتى سان باولو تاركاً في مينس عائلته، وقام بإدارة الجريدة بكل أمانة

‏ ‏وإخلاص، وعمل دائماً بتوجيهات الزعيم، فزالت عن سورية الجديد تلك الصبغة‎‏ ‎‏الاذاعية للسياسات الأجنبية. وسار يصح أن يقال إنها جريدة من جرائد الحركة‎‏ ‏السورية القومية الاجتماعية المعبّرة عن اتجاهات هذه الحركة، فكان هذا فوزاً ذا نتائج‎ ‏جيدة لمصلحة الحزب السوري القومي الاجتماعي. وكم كانت تكون النتيجة‎ ‏بالعكس لو كان أكثر القوميين الاجتماعيين في المغترب من نوع عقلية السيدين كامل ‏عواد ونجيب ندره السفسطائية في العقيدة والنظام وفي "الحرية والديموقراطية".‎

‏من أغرب المسائل التي ظهر فيها انحطاط النفسية بصورة رائعة مسألة زواج‎ ‏الزعيم. فما كاد يذاع خبر خطبة الزعيم حتى قام نفر من خسيسي النفوس والغايات‎ ‏انضموا إلى الحزب القومي الاجتماعي سعياً وراء غاياتهم الانتفاعية الحقيرة. لا وراء‎ ‏غاية الحزب السامية النبيلة، وأخذوا يشيعون في بوينُس آيرس أن زواج الزعيم يجب أن‎ ‏يؤدي حتماً إلى سقوطه من الزعامة لأن عائلته ستأخذ بعض وقته وهو لا يجوز للزعيم!‎

‏وسرعان ما انتشرت هذه الفكرة المنحطّة بين المنظمين إلى الحزب في ‎‏توكومان، وقام كثيرون منهم يقولون إن زواج الزعيم يلغي زعامته لأن مركزه قائم على ‏عزوبته، وجرى في هذا الاعتقاد المنحط كامل عواد المعيّن مديراً وإن يكن ترك الجهر ‏به بعد مدة وجيزة. ولم يوجد في توكومان من قاوم هذه الأفكار الوحشية أو البربرية‎ ‏الحقيرة. وكانت بذور الفوضى التي بذرها كامل عواد ونجيب ندره بقولهما بعصيان ‏المراسيم والأوامر لأنها "استبدادية"، وبعدم مناسبة دستور الحزب للسوريين ‏المغتربين لأن هؤلاء يقولون إن كل فرد يجب أن يكون حرًّا ليقبل ما يريد هو قبوله‎ ‏ويرفض ما يريد رفضه، ليس فقط في الآراء بل في المراسم والتعليمات الإدارية أيضاً،‎ ‏وإنّ هذه "الحرية" الفوضوية الهدّامة للنظام الإجتماعي هي "الحرية الديموقراطية".‎

‏الأمر الرابع هو أمر إنشاء فرع للجمعية السورية الثقافية في توكومان لتقوم‎ بالمساعي والحركات الثقافية الضرورية لفرع الحزب وللمجموع السوري إجمالاً. فإن الزعيم كان قد أعلن لمديرية توكومان في أوائل سنة 1940 أنه في القريب العاجل سيتمكن من إرسال نسخة عن دستور الجمعية السورية الثقافية في بوينُس آيرس الذي وضع‎ هو خطوطه الأساسية، وأوكل إلى لجنة من القوميين تفصيله على ما تقتضيه ‏قوانين هذه البلاد وإكمال فرعياته. فلما حصل الدستور في شكله الأول قُدّمت نسخة منه إلى إدارة شرطة بوينُس آيرس لتأخذ علماً به ففعلت واشارت على المتقدمين بالنسخة بالسير في عملهم بلا مانع. حينئذٍ ارسل الزعيم نسخة عن هذا الدستور إلى مديرية توكومان لتؤسس فرعاً للجمعية التي مركزها بوينُس آيرس. فما كان من المدير كامل عواد إلاّ أن شكل لجنة لدرس دستور الجمعية السورية الثقافية الذي أصبح نافذاً وابداء الملاحظات عليه! وبعد أن درست لجنة مديرية توكومان دستور الجمعية الثقافية أرسل المدير إلى الزعيم ملاحظات عليه طالباً تعديل بعض المواد التي تعتقد اللجنة أنّ مفوضي السلطة الأرجنتينية لا يسمحون بها. وأوقف تنفيذ مشروع إنشاء فرع للجمعية بانتظار تعديل الدستور! فأجاب الزعيم أن الدستور قُدِّم إلى مفوضي السلطة الأرجنتينة في بوينُس آيرس فلم يعترضوا على مواده أو على بعضها، وإنه يجب على مديرية توكومان أن لا توقف تنفيذ المشروع الذي أصبح نافذاً في بوينس آيرس. فلم تعر عظمة المدير و"ديموقراطيته" ملاحظات الزعيم أي اهتمام.

بعد مدة جاء الزعيم بنفسه إلى توكومان وبحث مسألة فرع الجمعية السورية الثقافية في اجتماعات المديرية وأظهر الأضرار الكبيرة التي تنزل بالحركة السورية القومية الاجتماعية في توكومان من جراء إهمال هذا المشروع الحيوي، وحمّل المدير كامل عواد تبعة التأخير والتأجيل والتسويف، وعيّن لجنة قوامها كامل عواد وميكال ملحم عواد وبطرس جميل نعمة وغيرهم ليسعوا لتحقيق المشروع بأسرع ما يمكن. ونظراً لإخلال كامل عواد المتكرر بالنظام والقسم الحزبي عزله الزعيم من المديرية وعيّن بدلاً منه بطرس جميل نعمة، أما نجيب ندرة فكان قد سقط قبل ذلك.

‎ لم تجتمع اللجنة التي عيّنها الزعيم للاهتمام بمشروع فرع الجمعية السورية الثقافية مرة واحدة، ومات المشروع في مهده في المديرية الأولى في عهد السعيد الحظ الوافرالفهم والنعمة الغزير الحرية والديموقراطية كامل عواد.

وهذا الإهمال والتراخي والعبث بالقسم والنظام جرّ بقية الأعضاء إلى الفوضى وعدم التقيد بالواجب، وشيئاً فشيئاً أخذت تموت روح الحماس الأول التي ظهرت عند أول تأسيس مديرية توكومان الأولى.

ومما لا شك فيه أنّ عدداً من الأعضاء، كان ذا استعداد نفسي خاص للتراخي والانفلات من القيود والحنث بالقسم، والهرب من المسؤوليات المعنوية والمادية، فلما ظهر في إدارة المديرية ضعف أخلاق واعوجاج سلوك اغتنموا الفرصة للحنث بإيمانهم وخيانة القضية.

‎ كان في مقدمة هؤلاء الخائنين أمين إبن جبران مسوح وأمه. والأسباب التي دعت هذين الشخصين لارتكاب الخيانة هي أسباب الحرص المادي. فقد مر وقت كثرت فيه الإشاعات عن وشايات سافلة بالحزب القومي الاجتماعي إلى حكومة الأرجنتين وعن احتمال حدوث تفتيش لمنازل القوميين الاجتماعيين في التوكومان أيضاً بحجة تعقّب الحركات "المضادة للأرجنتين"، ومع أنّ أمين مسوح وأمه كانا يعلمان علم اليقين أنّ الحركة السورية القومية الاجتماعية هي حركة قومية مستقلة وصديقة للأرجنتين فإن الجبن وحده أوحى إليهما الخوف على التجارة وعلى المال. فتغيّر أمين مسوح وانقلب، وقد اعترفت السيدة بلوميا مسوح للزعيم أنها شجعته على ترك القضية "لأنها غير لازمة لنا"، ونصحته لحصر اهتمامه في تجارته. فلامها الزعيم أمام زوجها وقرّعها على هذه الخطة غير الشريفة، وفي اليوم التالي جاء زوجها جبران إلى الزعيم (وكان الحادث في حمامات ريوهندو) وقال له "إن بلوميا قد بكت في الفندق من تأثير كلام الزعيم، وقالت إنّ الحق معه، ولكننا لا نعرف واجبات الشرف القومي لأننا لم نتعلم ذلك من قبل".

وكان الزعيم قد قابل ابنها أمين قبل ذلك في التوكومان، في الزيارة التي أجراها للمديرية، ووجد منه تبدلاً كليًّا إذ صار يسأل "ما هي الغاية من تكوين فروع للحزب في أميركة"، وكان حين انخراطه فى سلك الحزب وفي أول عهده يقول: "يجب أن ندافع عن أمتنا ووطننا وإذا اقتضى الأمر وحانت الساعة نعود إلى الوطن ونحمل السلاح ونحارب"، فأظهر له الزعيم أنّ سؤاله الجديد الغريب عن الغرض من إيجاد فروع للحركة القومية الاجتماعية في أميركة لا يمكن أن يستر انقلابه. فأخذ يقول إنّ الأعمال التجارية لا تسمح للمرء بالعمل فى الأحزاب، فأظهر له الزعيم أنّ الحزب لم يصرفه قط عن تعهد أعمالهم وطرح عليه سؤالاً واحداً هو "هل تريد أن تكون غاية حياتك مادية تتحدد بجمع المال، أم تريد أن يكون لك إلى جانب مقاصدك المادية

مثال أعلى تجد معنى حياتك في تحقيقه؟" فأراد الشاب المواربة فطلب منه الزعيم جواباً صريحاً على سؤاله وأمهله. فلم يُجب.

‎ ‏كان بعد ذلك أنّ والده جبران وقع في عارض نزيف داخلي بسبب القرحة مصحوباً بعارض ألم الكبد بسبب الحصى في المرارة واشتد عليه المرض، فكتب إلى الزعيم أنه آتٍ إلى بوينُس آيرس لإجراء العملية، واهتم به الزعيم وقرينته كما سيأتي. وكان من نتيجة ذلك أنّ جبران شفي بفضل تدخل الزعيم وقرينته وعاد إلى التوكومان، فكتب إلى الزعيم في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1942 يقول:

"سيدي معالي الزعيم الكريم وصلنا توكومان بخير ولم أكتب إليكم قبل الآن لأن قواي لم تعد تماماً، وأشعر بضعف لحدّ الآن عندما أحاول أن أشغل عقلي وفكري. اليوم عرف أمين (ابنه) اللائحة السوداء (وهي إشاعة روّجها مروجون مفادها أنّ جريدة الزوبعة ستوضع في "اللائحة السوداء" وكذلك مؤيدوها) لأني أنا لم أقل له شيئاً، فهو سمع من السوق، ولأول وهلة أخذ يحسب حسابات، وخاف على أعماله، ولكني شجعته بقدر الإمكان، ولكني أعتقد أنه سوف لا يحتاج إلى تشجيعي ولا سيما إذا نتج شيء عن ذلك فهو إذا ظهرت الشدة يقف أمامها كرجل ولا يهابها مهما كانت".

ولكن هذا الدفاع المريض كان مناقضاً لواقع "الخوف" الذي يعترف جبران أنه حدث لإبنه جراء الإشاعة الباطلة المذكورة وقد أبطلته بالكلية العبارة التالية الواردة في كتاب جبران عينه:

وهل ظهر شيء عندكم من نتيجة هذه اللائحة وهل كان لها تأثير؟ مثل احتياطات أولية يريد أمين (البطل الشجاع) أن يرفع الإعلان من الزوبعة فالأمل أن تأمروا برفعه الآن بينما نرى ما يحدث"!

تجاه هذه الأعمال والمواقف الانحطاطية حاول الزعيم في بادىء الأمر الإصلاح فكثرت رسائله وفي زياراته المتعددة إلى التوكومان كان معظم وقته يصرف في معالجة المشاكل الشخصية والإدارية. وكانت هذه المشاكل أكثر كثيراً مما ذكرنا في ما تقدم من هذه العجالة، كل فرد تقريباً من أفراد مديرية التوكومان السابقة كانت له قصة مختصة به، وكان على الزعيم أن يعالجها بنفسه لأن الإدارة المحلية أظهرت إهمالاً وعجزاً وابتدأت هي بالإخلال بالنظام فلم يعد يركن إلى موقفها.

من مشاكل مديرية التوكومان: مشكل شخصي حدث بين عضوين من أعضائها وكاد يؤدي إلى قضية اجتماعية تتناول نزالة التوكومان كلها. المشكل المذكور هو الذي حدث بين بطرس جميل نعمة وتوفيق سعاده بنتيجة تنافسهما على ناموسية الجمعية السورية اللبنانية فى المدينة المذكورة. وخلاصة الحادث أنّ السيد بطرس كان آنئذٍ ناموس الجمعية المذكورة والسيد توفيق سعاده كان ناموسها السابق. ففي أحد الاجتماعات الانتخابية تكلم توفيق سعاده مندداً بالناموس وتصرّفه لأنه قَبِلَ افتتاح الاجتماع بعد مرور نصف ساعة على المهلة المعينة لاكتمال النصاب القانوني وعدّ ذلك سوء تصرف منه.

والظاهر أنّ هذه الحملة مبنية على أسباب شخصية غامضة، وأنّ السبب المباشر تافه. فما كان من السيد بطرس نعمه إلا أن أجاب على التنديد بكشف الستار عن تعديل تزويري لقانون الجمعية في عهد ناموسية توفيق سعاده، وعقد العزيمة على أحالة المسألة إلى القضاء الأرجنتيني. وطلب تدخل مفوضي السلطة الأرجنتينية في الجمعية السورية اللبنانية وتفتيش أعمالها.

بلغت هذه الأخبار الزعيم ورأى ما فيها من ضرر بمركز النزالة كلها تجاه المراجع الأرجنتينية والرأي العام، فضلاً عن ضرر السلوكية السيئة من قبل "رفيقين" في الحزب، فعزم على الاهتمام بنفسه بهذه القضية فسافر إلى التوكومان خصيصاً لأجلها، ولم يرسل يبلّغ المديرية سفره، فوصل إلى التوكومان فجأة وجمع المعلومات والإفادات وأقوال الشهود، وعقد اجتماعاً عموميًّا لمديرية التوكومان، ونظر في القضية في ذلك الاجتماع وبتّ فيها بعدله المشهور فاعترف توفيق سعاده بأن الحق عليه وطلب الصفح متعهداً بعدم العودة إلى سلوكه السابق. واعترف بطرس نعمة بغلطه‎ ‏برفع الدعوى إلى السلطة الأرجنتينية بدلا من عرضها ضمن للنظام القومي الاجتماعي وتعهّد بسحبها، وانتهى المشكل.‎ ‏

في هذا الحادث كتب جبران مسوح مقالة نشرتها له الزوبعة أفاض فيها في ‏‏إظهار عدل الزعيم.

‏للبحث استئناف

 

(1) الحقة (3) نشرة في الزوبعة، العدد 87، 21/9/1946 غير المتوفر.

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.