المجلة،
بيروت،
المجلد 8،
العدد 4،
1/6/1933
مضى في أول أبريل/نيسان المنصرم مئتا سنة وسنة على ولادة الموسيقي الكبير يوسف هيدن، واضع قواعد الموسيقى الكلاسيكية الفيينية (نسبة إلى فيينة)، ولقد نبَّه مرور قرن ثانٍ على ولادته خواطر الدوائر الموسيقية في العالم إلى محل هذا الرجل من الفن العالي وخدمته إياه خدمة تدعو إلى التقدير والإعجاب. وليس من العجب أن يفهم العالم هذا الموسيقي الكبير الآن أكثر مما فهمه عصره، لأن يوسف هيدن كان من الأشخاص الذين لا يمكن تقدير قيمة العمل الذي يعملونه إلا من خلال التاريخ.
كان يوسف هيدن إبن عامل فقير، وكان عدد إخوته إثني عشر. فلما بلغ الثامنة من عمره دخل مرتلاً في كاتدرائية القديس أسطفان في فيينة. ولم يحل نجاحه في الغناء وظفره باستحسان الامبراطورة صوته دون استمرار جوعه، وكان في شيخوخته يذكر بسرور كيف كان يغني بعض الخبازين غناءً جميلاً ليعطيه خبزاً، وكيف كان أحياناً يخرج من بعض بيوت ذوي اليسار، بعد غنائه، وقد ملأ جيوبه «معكرونة». كان الغناء في الشوارع والبيوت عملاً ضرورياً لمعاشه. ثم أجريت له عملية لترفيع صوته صيّرته غير صالح للاشتراك في الأجواق. ومن ثم صار يعتمد في تحصيل رزقه على إعطاء دروس خصوصية والضرب على البيانو في بعض الأحيان، وكانت حياته في هذا الدور حياة تنقّل مملوءة بالمصاعب والهموم، وظلت هذه حاله إلى أن اتصل في سنة 1759 بنبلاء النمسة والمجر الذين كانوا، في ذلك الحين، السند الأولي للموسيقى. فدخل في سنة 1761 مديراً لجوقة الأمير استرهاتزي وبقي حتى سنة 1789 فكان يصرف أيام الصيف في أملاك هذا الأمير وأيام الشتاء في فيينة. وكان قبل ذلك قد تزوج ولكنه بعد زواجه أحب أخت امرأته وكان زواجه سبب شقاء له لا سبب سعادة، لأن امرأته كانت، على ما يظهر، لا يهمّها من أمر مؤلفاته الموسيقية إلا أن تتفق مع تعقيص شعرها وتزيين وجهها.
في تلك الحياة الهادئة ابتدأ صيت هيدن ينمو حتى عمَّ أوروبة. لم يكن نبوغه من ذلك النوع الذي يدخله محيط العالم الواسع بواسطة إبداعه في المؤلفات، بل من النوع الآخر الذي ينمو بالعمل الهادىء الطويل المستمر وهو ما صيّر هيدن ما هو. لم يكن لنوع عمله أقلّ شبه بالاختلال العبقري الذي هو من مزايا نبوغ موزارت أو بيتهوفن: فهو كان يسير في عمله بموجب برنامج حدد فيه أوقات العمل، ولم يكن يجلس للتأليف إلا وهو بلباسه الرسمي وبعد أن يكون قد حضر القداس الكنسي. كان عمله قانونياً نظامياً، ليس فيه شيء من اختلال العبقرية التي لا تعرف الترتيب ولا النظام. ومؤلفاته نفسها لم تكن نتيجة عوامل داخلية فيه بقدر ما كانت نتيجة أسباب خارجية مما كانت تقتضيه جوقة الأمير والتوصيات. ولقد سئل هيدن يوماً لماذا لم يؤلف في حياته قطعة موسيقية لجوقة أوتار خماسية فأجاب بكل بساطة «لم يطلب مني أحد قطعة من هذا النوع»! ومع أنّ في هذا القول ما يدعو إلى العجب فالغريب أنّ كثيرين من الموسيقيين قبله كانوا يسيرون على هذه الخطة، حتى أن يوحنا سباستيان باخ الموسيقي الروحي الخالد كان يتّبعها وهو قد اتّبعها في نظم أبدع قطعة موسيقية طلبت منه للقداس الكاثوليكي. وقد حبانا اجتهاد هيدن الهادىء بثروة لا يستهان بها ولا يمكن الإغضاء عنها مؤلفة من 150 سيمفونية و83 رباعية 24 ثلاثية ومثلها من الكنسيات و44 لحناً للبيانو و15 قداساً و19 أوبرا وتمثيلاً غنائياً و5 تسابيح وعدد كبير من الأناشيد.
إنّ أهمية هيدن قائمة في دائرة الآلات الموسيقية: فالرباعية الوترية والسيمفونية هما في شكلهما الحالي من صنعه في النسق، وموزارت وبيتهوفن اللذان كانا تلميذيه (وإن تكن تلمذة بيتهوفن قصيرة الأمد) يقفان بمؤلفاتهما في هذا النسق على كتفيه. أما في التمثيل الغنائي والأوبرا فمن المحتمل أن يكون قد دخل عليهما تطور جديد. ولكن التسبيحتين «الخلق» و«فصول السنة» كانتا الأساس الذي استندت إليه حركة الأجواق الغنائية الألمانية في القرن التاسع عشر، ويمثّلان أعلى نقطة في حياة هيدن حين افتتح بهما قلوب الإنكليز في سفرتيه 1791، 1792 و1794، 1795. فقد منحته جامعة أكسفورد لقب دكتور وأغدق عليه القصر الملوكي الإنعامات، وزاره الأميرال نلسن الشهير في أيزنشتط في سنة 1800.
كان لهيدن أخلاق طبعت موسيقاه بطابع النقاوة والإخلاص: فإن في موسيقاه ثباتاً يوازي أناقة الشعر الأبيض الأرستوقراطي، وفيها أنواع كثيرة من الفكاهة من أكثرها خشونة إلى أشدها لطافة، وهي تمتاز بصفة السرور الداخلي الذي لم تقطعه الحاجة. ولمّا عاب بعض الناس على هيدن الحبور المتجلي في قداديسه أجاب «لا يمكنني أن أغيّر ذلك. فمما عندي أعطي. إني حين أفتكر بالله أشعر بقلبي ممتلئاً حبوراً حتى كأن الأنغام تجري كينبوع. ولمّا كان الله قد أعطاني قلباً فرحا فهو يغفر لي خدمتي إياه بسرور». ومن هذه الجهة نجد أنّ هيدن فتح الطريق لشوبرت وبروكنر، وجعل لأنغامه سبيلاً إلى قلب الشعب وليس من العبث أن يكون لحن الأنشودة التي ألّفها هيدن للامبراطور في الحرب ضد نابليون المبتدئة بــ«إحفظ يا الله القيصر فرنتز» قد صار لحن النشيد القومي الألماني «ألمانية، ألمانية فوق كل شيء».