الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 65، 1/9/1943
مما لا شك فيه أنّ الحالة الحربية في سنة 1943 وما يتبعها من الحسابات والتقديرات تختلف كثيراً عنها في السنتين السابقتين. ولا خلاف في أنّ قوة المحور الكلي الحربية فقدت قسماً كبيراً من زخمها في المعارك الكبيرة التي استمرت سنتين كاملتين بلا انقطاع في سهول روسية الشاسعة.
إنّ عدم إمكان سحق الجيش الروسي سحقاً تاماً وانتزاع موسكو ومنطقة الدونتس منه في الهجوم الأول سنة 1941، مع قدوم برد الشتاء باكراً فسح الوقت للروس للقيام باستعدادات جديدة وتجييش جيوش أخرى ونقل مراكز صناعية إلى أماكن بعيدة عن متناول الألمان، وخوّلهم الاستفادة من الاختبارات الحربية وإتقان وسائل الدفاع ضد المعدات الألمانية، وكيفية استخدامها، وضد طريقة القيادة الألمانية في الهجوم وتحريك الجيوش والقوات الجوية.
عاد الألمان إلى الهجوم في صيف سنة 1942 فقطعوا الدونتس وبلغوا الدون وعبروه ووصلوا إلى البلغا عند ستالينغراد وامتدوا إلى القفقاس، استولوا، بعد رسطف على نوبورسيسك وعلى منطقة مايكف الغنية بالنفط. وفي هذه الأثناء نزلت الجنود الأميركية والبريطانية في شمال إفريقيا. والظاهر أنّ ظهور هذه القوات في إفريقيا واستيلاءها على مراكش والجزائر وسنغال، أوجب اهتماماً في القيادة الألمانية وتعديلاً لبعض خططها. فقد لاحظنا أنّ هجومها في القفقاس وغير أماكن هدأ نوعاً باستثناء حركات هجومية مكانية.
لم يطل الأمر على توقف الهجوم الألماني في خريف 1942 حتى ابتدأ الهجوم الروسي الشتائي فارتدّت أمامه القوات الألمانية في القفقاس وفي منطقة البلقا والدون ثم في منطقة الدونتس واضطر، إلى إخلاء مراكز هامة كرسطف وورونيج وبيازمه وخركوف التي كانت آخر نقاط امتداد الهجوم الروسي الشتائي. ولكن الألمان كروا على الروس في خركوف واستعادوها بعد نحو ثلاثة أسابيع من خسارتها. وثبتت القوات الألمانية في رأس كوبان وهو منطقة زراعية غنية جداً. واستعادت مراكزها على مجرى نهر الدونتس وثبتت الخطوط من الجانبين.
هدأت الحركات الحربية الكبيرة في الجبهة الروسية إلى أن كانت معركة أوريل ــــ بيلغورد ــــ كرسك، التي لم تعطِ أحد الجانبين أرجحية حربية، فتوقف الألمان عن توسيع حركات الهجوم بعد النجاح القليل الذي كسبوه في منطقة بيلغورد وعوّلوا على الدفاع.
ولعل إنزال الأنكلوسكسون قواتهم في جزيرة صقلية بعد أيام قليلة على ابتداء معركة أوريل ــــ بيلغورد ــــ كرسك في روسية كان ذا تأثير على الجبهة الروسية وعلى خطط القيادة الألمانية. فإن ألمانية اضطرت إلى إنجاد حليفتها. والظاهر أنّ الروس قرروا الاستفادة من الحالة الجديدة التي خربت مدناً كثيرة وعطّلت مراكز صناعية عديدة ومن استئناف العمل، فابتدأوا أعمالاً هجومية في منطقة أوريل اضطرت الألمان لإخلاء هذه المدينة الهامّة، ويتجه الهجوم الروسي نحو خركوف من جديد.
هذه الحالة الحربية في روسية لم تقتصر فوائدها على الاستعدادات الروسية، بل شملت بريطانية وأميركانية أيضاً، خصوصاً الأولى. فقد تمكنت بريطانية بين سنة 1941 و1943 من ترميم الشيء الكثير مما هدمه الألمان بحملاتهم الجوية الهائلة، التي خربت مدناً كثيرة وعطّلت مراكز صناعية عديدة، ومن استئناف العمل الصناعي، بينما القوات الألمانية الجوية منشغلة كل الانشغال في الحملة على روسية. وانشغال ألمانية في روسية لم يسمح لها بتوجيه القوة اللازمة إلى معركة الأطلسي. وهذه الحالة مكّنت الولايات المتحدة من إيصال الجيوش والطيارات ومراكب النقل والحراسة إلى بريطانية، حيث تجمعت قوة أميركانية كبيرة أصبح في إمكانها، بالاشتراك مع القوة البريطانية التي تمرنت وتجهزت بأحدث المعدات، القيام بالحملة على شمال إفريقيا ــــ تلك الحملة التي نجحت كل النجاح بفضل الدور الذي لعبه أمير البحر الفرنسي درلان وعدم وجود قوة حربية تصد المهاجمين.
كان من نتائج احتلال شمال إفريقيا أنّ المحور البريطاني ــــ الأميركاني اكتسب مناطق كبيرة صالحة لحشد قوات كبيرة، وموانىء كافية لجميع المواصلات ولخطط الحركات الحربية في البحر، ومطارات كثيرة تفسح مجال السيطرة الجوية في إفريقيا والبحر المتوسط، وتهدد شبه الجزيرة الإيطالية وجزر البحر المتوسط. ولم تكن إيطالية قادرة على مواجهة هذه الحالة في المتوسط وحدها. فأوجب الموقف إنسحاب قوات رومل ومن مصر من ليبيا إلى تونس، لأن ألمانية لم تجد إمكانية إرسال مدد جديد لمقاومة الحركات الهجومية المعادية من مصر ومن مراكش والجزائر من غير تعريض جيوشها في روسية والجهات الأخرى التي لا بدّ لها من حمايتها كنروج وبلجيكيا وهولندا وفرنسة لخطر كبير.
رأى الأنكلوسكسون، بعد استيلائهم على كل إفريقيا الشمالية، أنّ الفرصة سانحة لضرب المركز الضعيف في المحور الألماني ــــ الإيطالي ضربة قد تكون القاضية. فتقرر إنزال حملة قوية في جزيرة صقلية وتشديد الحملات الجوية على إيطالية في الوقت الذي تحتشد فيه قوات روسية كبيرة أمام الخطوط الألمانية فتمنع سحب قوات كبيرة من تلك الجبهة لنجدة إيطالية.
كانت الخطة جيدة وكادت تعطي النتجية المرغوبة، فتزعزع الحزب الفاشستي في إيطالية وفشل فشلاً كبيراً فاضحاً، فاستعفى موسوليني وحكومته وتسلّم الحكم المارشال بدوليون. كما وصفنا في العدد السابق (ص 498 أعلاه) وامتدّ الفشل من الدوائر الفاشستية العليا إلى جميع الحزب والشعب الإيطالي فحدثت فوضى عامة. وقامت الإذاعة الأنكلوسكسونية العظيمة تستغل البلبلة الإيطالية إلى أقصى حد، فخُيّل لكثير من الناس أنّ الانهيار الإيطالي التام صار مسألة أيام، بل ساعات معدودة. بيد أنّ الحكومة الإيطالية الجديدة استعادت رباطة الجأش ووصول إمداد ألمانية إلى إيطالية، مع إعلان الإنكليز والأميركان أنهم لا يقبلون بغير التسليم بلا قيد ولا شرط، جعل الطليان يوطدون النفس على متابعة الحرب.
تجاه التطورات السياسية الحربية الجديدة يحسن أن نثبت حديث الزعيم مع أحد أساتذة جامعة كوردبة في صيف 1941 ــــ 1942. ففي اجتماع على «أسادو» في «تكية سعاده» حضره الزعيم وجمهور من الأساتذة والأطباء والمحامين، سأل أحد الأساتذة، الذي كان عميداً لكلية الحقوق والعلوم الاجتماعية، الزعيم عن رأيه في سير الحرب، ولمن يكون النصر الأخير. فقال الزعيم إنّ قوات المثلث الألماني ــــ الإيطالي ــــ الياباني قد أحرزت إنتصارات كبيرة وأدخلت في حوزة هذا المثلث مناطق كبيرة غنية بالمواد الأولية الصناعية والزراعية ولكن لا بدّ من الانتظار قبل إعطاء الرأي الأخير. فقال الأستاذ المشار إليه إنه يرى أنّ بريطانية قد خسرت الحرب نهائياً، وإنه لا يرى إمكانيات إنقاذ الجبهة «الديموقراطية» من الانكسار الأخير. فقال الزعيم «إنه لا تزال في حوزة الجبهة الديموقراطية إمكانيات كثيرة ولا تزال هنالك دول محايدة يجب معرفة موقفها الأخير. قد تخسر بريطانية وأميركانية الحرب إذا تمكنت ألمانية من سحق روسية وإخراجها من المعركة، ولكن ذلك ليس شيئاً أكيداً. فالمعارك الجارية في روسية تكلف كثيراً، واتساع نطاق المناطق المحتلة يستدعي وقف قوات كبيرة للمحافظة عليها، وليست مسألة مهاجمة الجزيرة البريطانية أو أميركانية أمراً هيناً يؤكد فوز المهاجم. ولا بدّ من انتظار نتائج الحرب في روسية وأحداث أخرى قبل إبداء الرأي الأخير، فحرب كهذه تحتمل تقلبات كثيرة غريبة».
وجرى مؤخراً مجلس عند الزعيم تحدّث فيه بعض الحضور عن الانقلاب الأخير في إيطالية بما يدل على الاقتناع بأن انكسار المحور الألماني ــــ الإيطالي الأخير وتسليمه أصبح مسألة أيام قليلة أو أسابيع، على الأكثر. فذكر الزعيم جوابه لأستاذ كوردبة وقال: «إنّ رأيــي في هذه الحالة الجديدة يشبه رأيــي في الحالة السابقة المخالفة. يمكن أن يخسر المثلث الألماني ــــ الإيطالي ــــ الياباني الحرب، ولكن لا يمكن القول إنه خسرها نهائياً. إنّ الحالة الحربية قد تغيرت وحصلت للمثلث البريطاني ــــ الأميركاني ــــ الروسي إمكانيات الهجوم وبلوغ إيطالية، ولكن انتصارات هذا المثلث الحديثة ليست فاصلة، فلا بدّ من الانتظار ولا ننسى أنّ حظوظ الحرب لا توافق دائماً التكهنات والتقديرات».
كان الهجوم الأنكلوسكسوني على صقلية بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على زيارة تشرشل لواشنطن. وحملت إلينا أنباء أوائل الشهر الحاضر خبر وصول تشرشل إلى كندا، وعزم روزفلت على موافاته هناك لمقابلة جديدة. وعلى أثر هذه الأخبار وردت أنباء حصول محادثات ومؤتمرات في طوكيو اشترك فيها وزير خارجية اليابان وسفيرا ألمانية وإيطالية. وتقول برقيات هذا الجانب إنّ الدول الثلاث المشتركة في المحادثات تثبت المعاهدة الثلاثية وتضامن هذه الدول في الموقف الحربي.
ولا بدّ من انتظار أحداث خطيرة في المستقبل القريب. فأحد مراسلي الصحافة الأسوجية في برلين أوصل إلى جريدته في مطلع هذا الشهر، يقول إنّ في ألمانية شعوراً عاماً بأنه تجري فيها استعدادات عظيمة لهجوم هائل صاعق يصدّ العدو وينزل به خسائر كبيرة. ونظنّ أنّ هذا الكلام ليس بعيداً عن المعقول. وهناك أسباب كثيرة لحسبان اليابان قائمة باستعدادات من هذا النوع. إنّ هذه الحرب ستكون عنيفة في المستقبل، كما كانت في الماضي وستجري معارك عظيمة قبل إمكان التحدث عن النصر الأخير بمستند غير عاطفي.