‎ إلى أنطون ضاحي


2/3/1946
أيها الرفيق العزيز،
‎ ‏
تسلمت كتابك المختص بالمسائل الادارية والنظامية وسحبت منه سنداً على "المصرف السوري اللبناني" بمبلغ واحد وأربعين فاس بالعملة الأرجنتينية تعيدونها إليّ لأنّ الرفقاء لم يقبلوا أن أدفع أنا نفقات النزول في فندق في زيارتي الأخيرة لخوخوي.
سررت كثيراً لهذه النتيجة من وجهتها الروحية لأنها تنقذ معنويات مديرية خوخوي عموماً ومعنويات رفقاء تلك المديرية أفراداً من التدهور إلى حضيض نظرات واعتبارات لا تليق بنفوس تؤمن بمبادىء النهضة السورية القومية الاجتماعية وتصيو إلى العمل ‎بتعاليمها السامية. وزاد سروري تسلّم المديرية تبرّعي الزهيد بمساعدة الحركة في الوطن ‎حيث المعركة حامية الوطيس وحيث رفقاؤنا الأبطال المجاهدون يتحملون الشدائد ‏ويعانون الحرب وحرّها المصلاة بلا شفقة ولا احترام - حيث الحرب بأنواعها الداخلية والخارجية وألوانها الفكرية والجسدية قائمة على قدم وساق، نهاجَم ونهاجِم بالأرواح ‏‏والأجساد، يدخل أبطالنا العظام السجون ويتلقون أحكام المحاكم العسكرية بصبر وشجاعة نادرتي المثيل، وتصطدم صفوفنا مع الجند ومع الأحزاب الرجعية والأحزاب العاملة بإرادات أجنبية في وطننا كالشيوعيين، فنقتل من الأعداء، ويقتل الأعداء منا. إنّ أقلّ ما يمكن الرفقاء في المغترب فعله هو أن يشعروا مع أبطالهم ورفقائهم في الوطن ويتنادوا لنجدتهم بما أمكن من المال والعتاد، وإلا كانوا عديمي الشعور والوجدان وكانت قوميتهم ‎ ‏‏وعدمها سيان.
ذكرت، أيها الرفيق الكريم، أنك قرأت كتابي الاداري الأخير "مستفهماً كل ما جاء فيه من الإرشادات والأوامر والتأنيب" ويسرّني أنك اهتممت بتفهّم كل ذلك كما يقضي به واجب الوعي للحقيقة ومعرفة المسؤوليات، إذا كنا نريد أن تكون لنا حقيقة وأن تكون علينا مسؤوليات. واعتقد انك بعد تفهّمك اقتنعت بأنّ ما ورد في كتابي من "الإرشدات والأوامر والتأنيب" كان واجباً وضروريًّا، وخصوصاً التأنيب، لأنّ الحالة الروحية في مديرية خوخوي ابتدأت تهدد بالتدهور نحو الحضيض الذي تدهورت إليه مديرية بوينُس آيرس في سنة 1940 ومديرية توكومان ومديرية خونين وغيرها من المديريات في هذه البلاد. وقد أحسست ذلك من لمحات من أحاديث الرفيق صدير ومن كتابات الرفيق يعقوب ناصيف.
إنّ أحاديث جرت في صدد رحلات الزعيم إلى خوخوي، وماذا يفعل بأي مبلغ مالي يتسلمه، وغير ذلك من الكلام المستوحى من شعور وافكار لا قومية، مليئة بالشكوك والظنون السيئة، القاضية على الروحية القومية الصحيحة، التي أقلّ ما ينتظر ويطلب من القوميين الاجتماعيين الصحيحي العقيدة أن ينزّهوا على الأقل، مقام زعامتهم منها ويصونوا زعيمهم ومؤسس نهضتهم ومعلم عقيدتهم، من أن تلتّ الألسن حرمته وسمعته بها. لأنه إذا كان يجوز أن يُرمى زعيم القوميين الاجتماعيين بمثل هذه الظنون والشكوك فماذا يقال في من هم دونه. وعلى أية روحية يمكن أن تشاد نهضة قومية اجتماعية سامية؟ ‎ ‏
‏إنك أنت، أيها الرفيق، بصفة كونك مدير مديرية خوخوي، أكثر أعضاء تلك المديرية مسؤولية عن إجازة جر مثل هذه الأحاديث الانحطاطية والإصغاء إليها أو الاشتراك فيها، وعن معرفة ما تجرّه هذه الأحاديث السيئة الكريهة من العواقب الوخيمة على روحية البيئة التي تتولد وتنتشر فيها. هكذا ابتدأت الظنون والشكوك والأحاديث السيئة في مديرية توكومان فقضت على روح الثقة والنظام والواجب وعلى الشعور بقداسة النهضة السورية القومية الاجتماعية في تعاليمها ونظامها وحرمة منشئها، وانتهت بتلك المديرية إلى العودة، تدهوراً، إلى حضيض اللاقومية الذي كانت قد ارتفعت عنه قليلاً، فمزق فساد النظرات والعادات اللاقومية وحدة صفوفها، وتفرّق أفرادها تفرقاً لا اجتماع بعده. ولو كانوا بشكوكهم وظنونهم السيئة طلبوا الحق ووجدوه لكان الحق أبقاهم مجتمعين ورفع شأنهم بدلاً من القضاء عليه، ولكنهم طلبوا الباطل الذي تعوّدوه في حياتهم اللاقومية وتعلّموا منه تلك الشكوك والظنون السيئة الفاسدة فأصابهم ما يصيب كل جماعة أخذت بالباطل. فما اجتمعت جماعة على باطل إلا مزقها وأهلكها الباطل الذي اجتمعت عليه. ‎
إنه ليحق لكم ان تشكّوا وتظنوا الظنون بمن هم من أهل الفساد والظنون، ولكنه عيب كبير وخطة منكرة ان تشكّوا وتظنوا الظنون بمن هداكم إلى قوميتكم، وجاء يعلّمكم الحق‎ ‏ والعدل والمناقب السامية والأخلاق الراسخة، برسولكم في القومية الاجتماعية ومحجتكم في اليقين بها وقدوتكم في مكارمها ومرجعكم في مسؤولياتكم وفي كل ما أشكل عليكم وحصنكم ومعتصمكم كلما اشتدت عليكم الشدائد.
أود كثيراً أن تنعم النظر في هذه القضايا الخطيرة وتقدّر خطورتها، وتحمل من ‎ حولك من الرفقاء النابهين على إنعام النظر فيها وتقدير خطورتها، وتهيب جللها وخشية عواقبها. إنّ نهضتنا القومية الاجتماعية ليست حادثاً اعتياديًّا بسيطاً حتى يجوز أن تبتذل الألسن مقدساتها وحرماتها، كما تبتذل وتلوك الحوادث الاعتيادية المألوفة من عهد الذل والانحطاط والوساوس.
لا تجعلوا قضيتكم صغيرة لئلا تدلوا على أنّ نفوسكم صغيرة. لا تنزلوا قيمة نهضتكم ومؤسساتها إلى درك القضايا الصغيرة الحقيرة التي لا تتعدى نطاق: من يدفع هذا القرش وماذا يفعل الزعيم بهذا "المال" ولماذا التبرعات ومن سيتولى عليها! الخ. ‎ ‏ ‎ ‏
‏إنّ لحزبكم تاريخه. وهو تاريخ جهاد وبطولة وعظمة وارتفاع نحو المثل العليا الجميلة. وإنّ لزعيمكم سيرة تعليمه وجهاده وبطولته. فلا تجعلوا للشكوك والظنون سبيلاً إلى تحقير هذه القيم الأساسية الجوهرية في نهضتكم القومية الاجتماعية المباركة بل آمنوا وثقوا أنه لو شاء الزعيم نوال مال لوسائل بذخ وترف لنال من ذلك شيئاً كثيراً في الوطن وفي أوروبة وفي الأرجنتين. إن أموالاً كثيرة ووسائل يذخ وترف ومناصب عالية في الباطل ‎‏وضعت عند قدمي وأنا في السجن وأنا خارجه وأنا في أوروبة وأنا في بوينس آيرس الأرجنتين، ولو كانت نفسي عالقة بهذه الأمور لكان لي منها كل ما يمكن أن تشتهيه نفس محب الباطل عشرات ألوف ومئات ألوف الفاسات الأرجنتينية عرضت عليّ من الجانبين المتحاربين وأنا في بوينس آيرس، وكان يمكن أن أتناول مبالغ جسيمة من المال، وأنتم لا تعلمون وكنت أكون في غنى عن تناول شيء من الأموال الحزبية لنفقتي، وعن النزول إلى ميدان التجارة لأصون مقامي وأحفظ كيانى. وإذا كنت قد تناولت مالاً لنفقتي حين لم أكن تاجراً أفليس ذلك مشروعاً؟ إسأل نفسك هل إذا عرض عليك الزعيم أو أية هيئة حزبية إدارية عليا أن تترك عملك الكسبي وتخصص وقتك لعمل مكتبي أو إداري في الحزب أيمكنك أن تقوم به من غير أن يعطيك الحزب نفقة، إلا إذا كنت غنيًّا عالياً كبيراً؟
إفحصوا سجلات الدول من ألمانية إلى إيطالية إلى بريطانية إلى فرنسة إلى روسية إلى اليابان إلى غيرها فإنكم تجدون قيوداً لأموال كثيرة أنفقت على دعاة وعملاء سوريين، ولكنكم باطلاً تبحثون عن إسم أنطون سعاده بين أسماء من تسلّموا شيئاً من تلك الأموال. فهل امتنع أنطون سعاده عن تناول شيء من الأموال الأجنبية لأنها لم تعرض عليه، وقد عرضت على من هم دونه بطبقات ومراحل عديدة؟ أم ترك تلك الأموال طمعاً بالمبالغ الطائلة التي تدرّها عليه فروع الحزب السوري القومي الاجتماعي الغبية؟
إني أسوق هذا الكلام ليس دفاعاً عن حقيقتي التي أعرفها ويعرفها التاريخ، بل‎ مساعدة لكم لترفّع نفوسكم عن المسائل الصغيرة وتطهير مجتمعكم من أدران الفكر اللاقومي المنحط الشائنة.
إرفعوا نفوسكم عن الدنيا من كل نوع، وعن جميع المسائل الحقيرة الشائنة، لتكونوا جديرين بنعمة النهضة السورية الاجتماعية وبالحياة المثالية الجميلة العزيزة التي تؤهلكم لها تعاليمها ومناقبها ونظرتها السامية إلى الحياة والاجتماع والكون.
إني، من أجل أن أكلمكم وأكلّم غيركم من الرفقاء، كما اقتضى الأمر، بمثل هذه الصراحة وهذه الشدة، رغبت في الإقدام على العمل التجاري وإعادة استغلالي المالي والاقتصادي إليّ. فلو كنت لا أزال أتناول أموالاً حزبية منكم ومن الفروع الأخرى لنفقتي الخاصة لتبدّى لكثيرين من ضعفاء النفوس أني أتكلم طمعاً في ما يردني من الأموال فكنت أتجنب ذلك ما أمكن حتى ضعفت سلطة الزعيم عند غالب أعضاء الحزب في الأرجنتين، وهانت كلمته واستبيحت حرمته، وأجاز أكثر الأعضاء لأنفسهم أن يتناولوا جميع خصوصيات الزعيم كأن يبحثوا في هل يجوز للزعيم أن يتزوج، وكم من الوقت ‏يجوز أن يصرف مع عانلته كأنّ الزعيم شيء مستأجر منهم استئجاراً أو مباعاً لهم بيع العبيد.
قد يكون كبر عليك، أيها الرفيق، تأنيب الزعيم فعزمت على الاستعفاء من وظيفة المدير فلا بأس أن تشعر بألم التأنيب إلى هذا الحد بشرط أن يدفعك ذلك إلى الشعور بألم الإهانة لخرق حرمة الزعيم بمثل الأحاديث السخيفة التي ذكرتها لك آنفاً والتي يجب أن ينزّه شخصه عنها كل التنزيه، فلا يؤتى على ذكره إلا بما يليق بعلو منزلته وسمو رسالته وما يجدر بعظم جهاده وكبر تضحيته وقداسة آلامه في سبيل أمته وتعاليمه.
إني لا أقبل الآن استعفاءك بل أطلب منك التشمير عن ساعد الجد لضبط أحوال مديرية خوخوي ورفع معنوياتها. وإذا رأيت في المستقبل أنّ كثرة أسفارك تحرمك من‎ ‏ تعهّد المديرية بالعناية اللازمة لتعزيز شأنها وتقوية فاعليتها وجعلها مورداً من موارد القوة المعنوية والمادية للحركة السورية القومية الاجتماعية في الأرجنتين بوجه عام، فحينئذٍ يمكن النظر في استعفائك وفي من يحسن أن يخلفك على الإدارة.
أما الآن فإني، نظراً للروحية النظامية الجيدة التي ظهرت منك ومن بقية الرفقاء بعد اطلاعكم على كتابي الإداري الأخير إلى المديرية، أطلعكم على ما كتمته عنكم إلى الآن من ورود أخبار من الوطن بعدة طرق تصف امتداد حركتنا القومية الاجتماعية ونموها وتعاظم شأنها في جميع المناطق، في لبنان والشام وفلسطين وشرق الأردن وجبل الدروز، وفي جميع المدن والقرى والدساكر. ويسرّني أن أخبرك وجميع الرفقاء المخلصين في ‎خوخوي أني تسلمت أمس أحسن معايدة وردتني، وإن لم يكن مقصوداً منها المعايدة، ألا وهي أول رسالة واردة إليّ بالبريد الجوي من مركز الحزب الإداري في الوطن. وقد يكون حسناً أن أنقل إليكم هذه العبارة الواردة فيه: "قدّمت لكم في الرسالة الأولى (هذه الرسالة لا أزال أترقب وصولها) تحية رجال النهضة القومية الذين تغلّبواعلى مصاعب السجن والتشريد والاعتقال بفضل المناقب السامية التي غرستموها فينا. ثم أنبأتكم عن وصول الزوبعة (هي نسخ من آخر عد صدر من الزوبعة كنت‏ أوعزت إلى بعض الرفقاء في بوينس آيرس بإرسالها إلى عدة عنوانات في الوطن)، كما أننا استطعنا أن نصدر جريدة جديدة صدى النهضة ستصل أعدادها في البريد". وفي كتاب إليّ من البرازيل أنّ أحد أعضاء السفارة اللبنانية صرّح بأنّ "انتصار النهضة القومية حقيقة راهنة". ولا تسل، أيها الرفيق، كيف أمكن إصدار صدى النهضة. إنه صار ممكناً بالمساهمة. فقد أصدرت إدارة الحزب عدة أسهم وجعلت ثمن السهم في الوطن 25 ليرة سورية، وفي المغترب 3 ليرات استرلينية، وقد وردني من منفذية الشاطئ الذهبي في أفريقية الغربية أنها تسلمت 250 قسيمة أو سهماً نفدت كلها، وأنه يطلب منها ثلاث مئة قسيمة أخرى. وعدد أعضاء منفذية الشاطئ الذهبي لا يتجاوز الآن الثمانين!
وإني أجيز للرفيق يعقوب ناصيف إطلاعكم في أول اجتماع على فقرات أول كتاب تسلمته من الشاطئ الذهبي وقد نقلتها في كتاب إليه.
فبادروا أيها الرفقاء إلى مساعدة حركتكم العظيمة بسرعة. فاجمعوا ما أمكن من التبرعات واستعدوا للمساهمة في صدى النهضة وللاشتراك فيها حالما تصل أوّل أعدادها.
أما ما تطلب مني من عنوان "دار النهضة" فليس عندي غير ما وقفت عليه في مطبوعاتها، فليس فيها اسم شارع معيّن، والظاهر أنه يكفي أن يُكتب "دار النهضة للطباعة والنشر – بيروت" أو "دار النهضة للطباعة والنشر، بواسطة مطابع صادر ريحاني، بيروت، الجمهورية اللبنانية"، وأعتقد أنه صار ممكناً الآن توجيه رسائل إلى جريدة صدى النهضة بيروت بطلب أسهم وأعداد الجريدة ولتقديم الاشتراكات، وفي الأخير أبلغك شعوري العميق بالبرقية التي أرسلتها إليّ تهنئة بميلادي وتيمناً بنجاح حركتنا، واقبل شكري وسلامي القومي.
ولا تنسوا فلسطين والإسكندرونة ولتحيى سورية.

 

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.