25/6/1938
عزيزي فخري،
كتبت إليك مساء أمس كتاباً مستعجلاً ليدرك البريد العادي، وأظن أنّ هذا الكتاب الذي أكتبه صباحاً سيدرك كتاب أمس ويرافقه. وقد جعلت العنوان باسم فاضل، لأنّ اسمه الإغريقي أبعد ما يكون عن الشبهة. إني جالس الآن في ظل خميلة وارفة الظل وسط غابة ما أجملها غابة! فحولي أنواع عديدة من الشجر من صنوبر وشجر يشبه الحور منبسط الأغصان، ورقه يشبه راحة الكف وله أصابع خمس، وأشجار أخرى لا أعرف أسماءها. وبقربي سيل ماء يسمع له خرير لطيف.
أريد أن أذكر له الأيام الأخيرة في عمّان وسفري إلى هذا المكان. إنّ زيارة بعض أصدقاء وأقرباء مضيفي جعلت وجودي في عمّان منكشفاً. وكان نايف [قعوار] يرتأي أن أزور الأمير لعله يمكن الاتفاق معه. وحدث تسرّع من هذه الجهة فلم تدرس وضعية الأمير قبل الجزم بهذه الفكرة. وقد جرّ إلى الإسراع ذهابي إلى السلط لزيارة أهل نايف. وفي السلط يقيم الأستاذ الشنقيطي، أحد رجال الأمير المخلصين له. وكان من رأي نايف الاتصال به، لأنه سيعلم بمجيئنا إلى السلط، فزاره نايف وأخبره بوجودي في دار أبيه، فخفّ لاستقبالي والسلام عليّ وكان في حديثه ودوداً.
وهو الذي عرض عليّ فكرة زيارة الأمير، فقبلت، فقال إنّ الأمير نايف بن الأمير عبد الله سيكون عنده بعد الظهر وإنه سيتحدث معه في هذا الأمر، على أن أزور الأمير في صباح اليوم التالي. عند الظهر غادرنا السلط وفي صباح اليوم التالي، السبت في 18 الجاري، ذهبت لمقابلة الأمير في موعد ضربه. وكان عنده رئيس وزارته والسيد فؤاد الخطيب، رئيس دوائر الشرطة. وبعد أن استقر بنا المقام وفاتحة مجاملة، أبلغني الأمير أنه لا يحب نشوء أحزاب في منطقة نفوذه وانه بلغه أني قادم لإنشاء فرع للحزب وهو لا يودّ ذلك، فجاملته وقابلت كلامه بعدم اكتراث ظاهر ونهضت وخرجت بعد أن ودعت الأمير وأنا منتصب كما سلّمت عليه عند قدومي. والظاهر أنّ الأمير شعر بصلابة عودي فلم يقرّ له قرار بعد خروجي من عنده.
والحقيقة أنّ قلقه كان قد ابتدأ يظهر حالما أبلغه الشنقيطي بالتلفون خبر وجودي في عمّان منذ أيام. ففي ذلك اليوم عينه، أي الجمعة، تلفن إلى القائد العام وسأله إذا كان يعرف شيئاً عن وجود «شخصية خطيرة» في عمّان وأنّب القيادة على جهلها الأمر. وقد علمت أنّ الأمير ووزارته صرفوا أيام السبت والأحد والاثنين في تداول ومخابرات واتخاذ تدابير. وكان قد بلغهم أنّ وجودي في عمّان هو بدون جواز سفر أو بدون إجازة رسمية فأرسلوا مساء الاثنين عريفاً وفرداً يطلبان جواز سفري لتطّلع عليه القيادة فأعطيتهم الجواز. وقد بلغني أنهم كانوا يقصدون القبض عليّ وتوقيفي ذلك الليل ووضعي خارج الحدود في صباح اليوم التالي، ولكن جواز سفري كان مستوفياً الشروط فلم يمكنهم فعل شيء، ولكنهم أخذوا يشيرون بوجوب مغادرتي شرق الأردن «لأن الحكومة في خوف وقلق».
فسافرت في صباح الثلاثاء في 21 يونيو/ حزيران بطريق إربد، جسر المجامع، طبريا حيث عرّجت على منزل أهل يوسف [صايغ] ووجدت هناك فؤاد [صايغ] وتناولت الغداء عنده وتابعت إلى حيفا وليس معي سوى 8 ليرات سورية. فأعطيت السائق خمس ليرات وأحلت الباقي على نايف إذ تركت معه أربعين كتاباً وأخذت معي 10 إلى حيفا. وبقي معي ثلاث ليرات سورية ولم أكن أعرف مقرّ أحد في حيفا، وفيما أنا أتجول في حيفا التقيت بصديقة أحد الأعضاء التي جاءت معه في أيام الثلج إلى بيروت وهي صديقة جمال ناصيف.
وهي فتاة يقولون إنها إنكليزية ولكني أعتقد أنها يهودية. فهذه عرفتني وأسرعت فخابرت السيد سليم سفري وبواسطته تم الاتصال بباقي الأعضاء. وكان من حسن حظي أنّ باخرة شركة اللويد تريستينو تسافر مساء الأربعاء إلى قبرص. فتمكنت هيئة المنفذية في خلال اربع وعشرين ساعة من إيجاد المبلغ اللازم لي لسفري. والحقيقة أنّ الأعضاء في حيفا، على كسلهم الماضي وتراخيهم، كانوا جيّدي الروحية. وقد عقدت اجتماعات إدارية وعمومية وأفهمتهم الواجبات العملية وطريقة العمل. وأظن أنّ حيفا ستتحسن كثيراً بعد الآن.
إنّ قبرص جزيرة صغيرة وأهلها في خمول دونه الخمول الذي لا يزال معششاً في بعض أوساط شعبنا. وكثير منهم يشبهون السوريين شبهاً عظيماً، ولعل ذلك بسبب المزيج السوري ـ الإغريقي القديم. والجزيرة ليست غنية ولكن فيها معادن نحاس يشتغل فيها بضعة آلاف، والبقعة العالية التي أنا فيها الآن تصلح لجلب عدد كبير من السياح وطلاب الراحة، وأرى أنه لا بد لي من الإقامة نحو شهر ونصف لترويح النفس وتقويم الصحة والنشاط من أجل متابعة العمل.
والمكان هنا يعطيني راحة تامة فالمصطافون لا يزالون قليلين والطبيعة جميلة ورحبة. فهو المكان الذي كنت أتمنى الحصول عليه وجئته مكرهاً!
أحب أن أعرف ماذا جرى للمدربين وهل يتابعان أعمالهما؟ ويجب عليهما أن يجتهدا كثيراً في هذا السبيل، لأنّ قسماً كبيراً من عمل النهضة العظيم سيكون في هذه الناحية.
كيف حال الماما وفايزة عساهما بخير وراحة بال. وكيف فاضل؟ سأكتب إلى رشدي ويوسف قريباً. بلّغ الجميع سلامي. واسلم.
ولا تنسَ أن ترسل إليّ بعض الصحف والأخبار.
ولتحيى سورية.