ما كادت السيارة التي تقلك تغيب عن نظري عند العطفة على بعد امتار قليلة، حتى عدت الى غرفتي اجمع ثيابي وشؤوني الاخرى في عيابي valijas وقد استغرق هذا العمل وقتاً طويلاً نسبياً. كنت اجمع الأشياء ببطء وثقل. ولكن أخيراً تم هذا العمل فحاسبت مديرة المضيف وانتقلت الى المضيف الآخر حيث اُعطيت غرفة هي أسبه بغرفة معسكر احتلالي منها بغرفة مضيف.
كان الغيث غزيراً والبرد شديداًوضيوف المكان محتشدين في المأكل الصغير. فذهبت الى غرفتي وفتحت عيابي واخرجت منها ماهو ضروري فقط، لأني لم أرتح لهذا المحل المنقبض. وارتفع الغيث قليلاً قبيل الغداء فخرجت أمشي على الطريق ثم عدت للغداء وكان جميع من في المكان قد جلسوا إلى موائدهم فجلست مسروراً بأني اجلس الى مائدة صغيرة معدة لي وحدي. فأخذ أهل المكان يلحظونني بعيونهم وقد استلفتت جُبتي السورية انظارهم فوددت لو ان المكان خال من الناس بالمرة.
عندما فرغت من الأكل جاءت الفتاة تقول انها تسلمت بعض أشياء مرسلة اليّ فنهضت للحال وذهبت لأرى هذه الأشياء فوجدت الصحف الارجنتينية وكيساً من الورق فيه فاكهة متنوعة فأخذت الجميع الى غرفتي وأكلت بعض حبات عنب ثم لجأت الى سريري ونمت وسط تجاذب أفكاري وعواطفي وتدافعها والغيث يهطل في الخارج.
عندما نهضت كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة. الفضاء بارد والغيث لا ينقطع. ذهبت الى المأكل فتناولت الشاي وجلست اطالع الجرائد وأراجع ما كنت قد طالعته وأقابل الأخبار بعضها ببعض. وسريعاً ابتدأ الرقص وارتفع الضجيج، ومع ذلك استمريت أقرأ. فلم يرق ذلك للفتيات اللواتي كن ينتظرن ان انهض وأرقص معهن فجاءت واحدة تسألني لم لا أرقص ثم جاءت اخرى تسألني اي نوع من الرقص أفضل وجاءت ثالثة ورابعة وامطرنني وابلاً من الأسئلة. وأخيراً جاء دور رقصة اشترك فيها الجميع فاغتنمت الفرصة وأخذت الجرائد وخرجت الى غرفتي بينما احدى الراقصات تناديني الا أخرج. بقيت في غرفتي أقرأ واقطع الأخبار التي تهمني حتى كانت ساعة العشاء فتعشيت وارتحت ساعة ثم نهضت وخرجت أسري على طريق النهر. ليس خارج المنازل انسان. الطقس بارد جداً والأرض رطبة والجو مكفهر. القمر الجميل تحجبه غيوم سوداء كثيفة. الليل معتم ولكن عتمته شفافة بما يمازجها من نور القمر المحجوب. سرت قليلاً وغير بعيد، الى حيث جلسنا مرة بقرب الطريق وهناك فقط شعرت اني أعرف هذه الطبيعة.
اليوم صحو فأردت الخروج من هذا المكان الضنك. وما كدت أفرغ من الترويقة حتى خرجت يصحبني كلب صاحب المكان "نغرو". قبل ان أدرك الطريق وقفت قليلاً أتذكر مجيئنا للسؤال عن غرفة ثم تابعت السير واتجهت في طريق "نرنخة" حتى بلغت المفرق المنحدر حيث انحل حزام فرسي مرة ونزلت أشده. فنزلت في هذه الطريق فاذا هي الطريق عينها التي سرنا عليها من عند النهر لآخر مرة معاً.
ليس في جميع هذه الطبيعة ما يؤنس غير بعض الأماكن التي تجلب ذكرى وجودك. قد تكون هذه الطبيعة جميلة في نفسها ولكن جمالها غريب عن قلبي. وقد كنت أراها، حين كنت فيها، جميلة، مؤنسة، لأني كنت أرى جمال وجودك فيها ونفسُك أنت كانت مؤنستي. أما الآن فالطبيعة غريبة موحشة الا ملامح قليلة منها فيها ذكريات نفسك الجميلة وما تحمله من فضائل شعبنا العظيم.
اعتقد اني سوف لا أطيل الاقامة هنا. ويوم السبت القادم يكون منتهى أمد الاقامة هنا فأتوجه الى بوانس ايرس السبت أو الذي قبله.
اظن ان الطقس سيسمح لي بركوب هذا العصر فامتطي "سبرونو" وانطلق وحدي للرياضة. ومتى خرجت في البرية فسأكون دائماً منفرداً لأكون مع نفسي أو مع من أحب وسأصرف الأوقان القليلة الباقية في التأمل في القضايا الماثلة أمامي وفي كتابة ما يجب نشره فأعمل كل يوم قليلاً وأتروض قليلاً.
قد سميت التلة التي سرنا عليها وضللنا الطريق عند المساء "تلة الترافق" والهضبة التي سرنا اليها معاً عند الظهر "هضبة الرمز الجميل" أما أنت، جوليت، فقد أسميتك ضيايا، لأنك كنت ضياء لنفسي وسط ظلمة الحوادث والقضايا التي تكتنفني.
بينما كنت أكتب ما تقدم كانت الفتاة القيَّمة ترتب الموائد فصارت الساعة 13 ووجب ان أقطع الكتابة لأتناول الغداء. وقد عدت الآن، الساعة 16، لاكمال هذا الكتاب اليك، فوجدت القسم الأكبر من الضيوف القدماء قد غادر الى بوانس ايرس من شدة البرد فيبقى في المضيف جيراني في المضيف الأول وعجوز وابنتها وسيدة اخرى وطفلها فاذا لم تلح علي السيدتان في طلب رقص سوري كما فعلتا أمس فسأكون في سكون وأشعر بالهدوء الذي احتاج اليه كثيراً.
الجو الآن مكفهر ولكني لا أراه ينذر بالمطر قريباً ولذلك اعتقد اني سأركب بعد نحو ساعة وأروض جسمي قليلاً وأروح عن نفسي.
سأسمع هذه المرة طقطقة فرسي وحده، وسأجعله يعدو شديداً وقد استوقفه هنا أو هناك لالقاء نظرة أو لتأمل مشهد.
ستكون عصريتي الآن من هدية أمس التي جاءت رسالة في وقتها وكان لها أجمل وقع في نفسي.
عسى ان يكون قد هدأ الجو المحيط بك وان تكون الماما بصحتها.
وحتى أراك قريباً سلام
ولتحي سورية
في 26 مارس 1940