النهضة، بيروت،
العدد 110،
8/3/1938
حلَّ محل المفوض البريطاني السابق في فلسطين مفوض جديد هو السر هارلد مكميكل. وقد نشرت النهضة في عددها الأخير خلاصة رسالته التي أذاعها من محطة القدس. ورسالة المفوض الجديد هامة جداً لأنها بمثابة البيان الرسمي للسياسة المكلّف باتباعها.
نلاحظ من هذه الرسالة أنّ السياسة البريطانية في فلسطين سائرة في تنفيذ خطتها الجديدة التي ابتدأتها سنة 1936. وهي سياسة الوصول إلى استقرار سياسي حربي في فلسطين والوصول بالهجرة اليهودية إلى وضع ثابت من وجهة حقوقية عملية يضع حداً لحملة السوريين المستندة إلى أساس حقوقهم في وطنهم.
ومن الأمور الخطيرة في رسالة المفوض الجديد أنّ المفوض يتكلم على أساس الوضع، الذي تريد بريطانية الوصول إليه، كأنه أمر واقع. وهو يتمسك كل التمسك بوجهة نظر بريطانية وبنائها اعتباراتها على أساس مصالحها. فيضع اليهود الأغراب على قدم المساواة مع السوريين. وينوّه بأيادي "الشعب البريطاني" على "الفريقين".
تسمّي رسالة المفوض البريطاني عملية الهجرة اليهودية إلى جنوب سورية "مشروع عدالة كبرى" ثم يذكّر اليهود بأنه لولا مجهودات بريطانية لما كان ثمة وطن قومي لهم. ويأخذ من هذا اليهود بأنه لولا مجهودات بريطانية لما كان ثمة وطن قومي لهم. ويأخذ من هذا التذكير حجة لتذكير السوريين بأنه "لولا مجهودات البريطانيين لما قامت دول عربية مستقلة في مستهل القرن العشرين".
إنّ مسألة فلسطين من وجهتها الحقوقية القومية قد عالجها رد الحزب السوري القومي على تقرير البعثة الملكية البريطانية، وقد نشرته النهضة في عدد سابق (انظر ج 2 ص 133). وفي العودة إلى الرد المذكور جواب كافٍ للمفوض البريطاني من هذه الجهة. بيد أنّ قوله "لولا مجهوداتنا لما قامت دول عربية مستقلة في مستهل القرن العشرين" فهو كلام ملقى على عواهنه لا يليق أن يصدر عن ذي مقام مسؤول.
إنّ قيام دول مستقلة في العالم، عربية كانت أو غير عربية، لا يكون بمجهودات شعب أو أمة أخرى، بل بمجهودات الأمم الساعية إلى الاستقلال وتوافق مصالح إنترناسيونية تساعد على تحقيق المساعي القومية لهذه الأمم.
ونحن نريد أن نسأل المفوض البريطاني هل جرى استقلال الدول العربية على حساب فلسطين؟ وما هو هذا التعويض الكبير للسوريين في فلسطين أن تنشأ دول عربية لقاء خسارتهم أرضهم، وطنهم وتراثهم، الذي يخصهم ولا يخص أحداً سواهم؟
أليس هذا هو الغرض من تلويح بريطانية للسوريين بالقضية العربية؟
إنّ هذه اللباقة في تحويل السوريين عن قضيتهم القومية التي هي قضية وطنهم ومصالحهم ومطالبهم العليا، لم تعد كافية لتغطية الحقيقة. فإن الإدراك القومي الصحيح يدب الآن في طول سورية وعرضها، منبهاً جميع السوريين إلى حقوقهم والأخطار المحدقة بهم.
إذا كان استقلال "دول عربية" منّة من البريطانيين على الأمم العربية السائرة في طريق الاستقلال، فليأخذ البريطانيون جزاء هذه المنة من تلك الأمم نفسها لا من سورية. هذا هو المنطق السياسي والحقوقي. فقيام دول عربية لا يغني السوريين عن وطنهم ولا يوجب عليهم أن يدفعوا هم ثمن قيام هذه الدول.
إننا ندرك جيداً قوة بريطانية وعظمتها وندرك في الوقت نفسه حقوقنا ومصالحنا. فيمكن للقوة أن تفرض مشيئتها ولكن أصحاب الحق لن يتنازلوا عن حقهم. والأرض السورية لا تصير يهودية في هذا النزاع الطويل العنيف. والاعتراف بدولة يهودية في فلسطين لا يحل المشاكل بل يزيدها تعقداً. ونعتقد أنّ الأفضل للسياسة البريطانية عدم التورط في سياسة يهودية مشؤومة كسياسية "الدولة اليهودية".
