صدر عن الزعيم، 26/5/1946
إلى الرفيق غسان تويني ، مفوض الاتصال
كمبردج، ماس. أميركانية
أيها الرفيق العزيز،
تسلمت كتابك الأخير الموسع في 9 مايو/أيار الحاضر وأخذت علماً بتنفيذ المرسوم الإداري المختص بإقالة الرفيق فخري معلوف من منفذية أميركانية وتوقيفه عن ممارسة وظائفه الأخرى ورتبته وحقوق العضوية ابتداءً من تاريخ كتابك المذكور، فأسفت جدًّا لحبوط المحاولة الأخيرة لإرجاع الرفيق المذكور عن شذوذه، وأسفت، بالأمر للحالة النفسية التي صار إليها الرفيق معلوف، وسببت إقصاءه عن المساهمة في النهضة السورية القومية الاجتماعية. وحصر عهوده الفكرية والعملية في مسائل غيبية قد فرغ التاريخ من الاستماع إلى حجج أصحاب الوجهة اللاهوتية منها.
منفذية أميركانية: الآن وقد حلّت منفذية أميركانية بمسألة المنفذ العام السابق المعزول صار من الضروري الاهتمام السريع بإعادة تنظيم هذه المنفذية الواسعة الإمكانيات، التي لم يكن لها نظام سابق، منذ بدء وجودها، غير وجود الرفيق الموقّف فخري معلوف على رأسها وعمله الشخصي فيها. وقد كنت أستغرب عدم إكمال جهاز المنفذية بناموس وناظر إذاعة وغيرهما من الموظفين، ولكن الثقة التي كانت موضوعة في الرفيق معلوف الموقّف جعلتني أعتمد حسن إدراكه لتهيئة الأسباب الكافية واقتراح الأشخاص الذين يرى فيهم الأهلية، النسبية على الأقل، للقيام بالوظائف المتعددة في هيئة المنفذية. أما الآن فإني مرتاح إلى قدومك، في هذا الظرف، إلى أميركانية ومسرور باكتشاف مؤهلات الرفيقين جورج شاهين، مدير مديرية الإسكندرونة، وميشال أبي رجيلي، ناموسها.
بناءً عليه أكلّفك درس مسألة إعادة تنظيم منفذية أميركانية بإشراك عناصر صالحة في هيئتها الإدارية. وفي هذا الصدد أرغب في أن تطلعني على أعمالك الدراسية والموضوع الذي تتخصص لدرسه وأوقات عملك الدراسي، وإمكانيات تولّيك منفذية أميركانية وإعطائها الاتجاه السياسي - العملي اللازم على الأساس العقائدي الصحيح والمدة التي تقدّر أنك ستقضيها في أميركانية. إنّ الحياة الأميركانية واسعة وعظيمة المشوقات، وقد ضاع فيها معظم مهاجرينا الذين لم تكن لهم نفسية اجتماعية خاصة يبنون حياتهم عليها، ولا وعي قومي أو ميزة روحية تحفظ لهم شخصية اجتماعية يفيد الاستناد إليها لتحريك قواهم الكثيرة الإمكانيات. وإن تعدد ألوان الثقافة في أميركانية وما يصحب ذلك من تعدد منازعها الروحية والعقلية قد أفقدنا عدداً غير يسير من شبابنا المؤهلين لأعمال البناء النفسي في مجتمعنا وفي العالم بواسطة مجتمعنا، خصوصاً أولئك الذين تقدّموا الوعي القومي وجاؤوا أميركانية للدرس، وغاياتهم في الغالب شخصية بحتة فأشبهوا المواد الخام الجيدة النوع في معامل نسيج الفكر والشعور الأجنبية. ولم يخلُ الأمر من الذين جاؤوا بوعيهم القومي الجديد، وكان أقوى شبيه بهم الرفيق المُوقّف فخري معلوف، الذي لم يصل إلى غير النتيجة التي تقدّمه إليها للدكتور شارل مالك، الذي وجد زبدة الفلسفة في الفلسفة الدينية والفلاسفة الكلاسيكيين الإلهيين ولم يتأثر بمجاري الفكر العلمي التي أظهرت الفلسفات العصرية من اجتماعية ومادية ولا مادية وغيرها فبقيت القضايا الإنسانية الكبرى محدودة له في نطاق الفكر القديم.
هذه الحقيقة تجعل عملنا القومي الاجتماعي قي أميركانية غير بسيط وتقتضي إحساساً دقيقاً بالقضايا المنبثقة عنها. وقد اصطدم المنفّذ العام السابق ببعض هذه القضايا واقترح بعض الحلول الحقوقية التي تسهّل اشتراك مهاجرينا المتجنسين بالجنسية الأميركيانية في غايات نهضتنا المحدودة لهم في نطاق: مساعدة الأمة التي خرجوا منها على إصلاح أحوالها الاجتماعية الداخلية ونيل حريتها. على أن يكون ذلك عملاً تبرعيًّا من قِبلهم وبقدر ما تسمح لهم واجهات جنسيتهم الجديدة التي لها دولة تعيّنها وحكومة منظمة تنظيماً دقيقاً تسهر على تنبيههم إليها ومقاضاتهم تنفيذها. فوافقته على استعمال المرونة اللازمة لتسهيل عملنا القومي الاجتماعي في أميركانية بإدخال شرط في القَسَم للمتجسين بالجنسية الأميركانية ينص على قيامهم بكل ما لا يخلّ بولائهم لجنسيتهم الجديدة.
أفاد هذا الحل فائدة قليلة في الوجهة العملية، لأن حركة المنفذية الاذاعية كانت مشلولة ومتوقفة على نشاط المنفّذ العام السابق واعتباراته الشخصية، وانحصرت في مقالات قليلة في الماضي البعيد، وفي خطب قليلة في مناسبات بعض الحفلات التذكارية، ولم يكن لهذا الحل انعكاس أو صلة بالعمل الأساسي لكسب المغتربين غير المتجنسين بالجنسية الأميركانية، الذي يجب أن يكون هامًّا جداً في عمل المنفذية.
وفيما أنا أسوق إليك وصفاً مقتضباً للحياة الأميركانية وحالة مهاجرينا ومغتربينا وطالبي العلم منا في ميدانها ليكون منه فائدة في معالجة المسائل التي تعترض مهمة المنفذية العامة، أشعر أنّ الفائدة تزداد يإيقاظ إحساسك للأخطار الكامنة في مختلف نواحيها وللاعتصام بعقيدتنا ورسالة نهضتنا من غوائلها.
مهمتكم الأصلية الاتصالية إنّ هذه المهمة التى حققت القسم الأول من غايتها بوضع التقرير الأول وإرساله مع الوثائق والمنشورات المزوّد بها إلى مكتب الزعيم، قد أصبحت منتهية بالفعل بحصول الاتصال المباشر بين الزعيم والمجلس الأعلى ومكتب عبر الحدود بحيث لم تبقَ حاجة لاعتماد مفوضية الاتصال المداور التى أقيمت بسبب الاتصال المباشر بين الزعيم والمؤسسات المركزية. فأبلغكم انتهاء مهمتكم الاتصالية رسميًّا، الذي لا يمنع استمرار إمداد الزعيم بجميع المعلومات التي يرى أن يطلبها منكم للوقوف على كل ما يلزم لتكوين رأيه في الحالة الحزبية الحاضرة واستمرار التعاون في جميع المسائل التالية.
وإني انتهز هذه الفرصة لتهنئتك باغتباط بإحاطتك الفكرية بالمسائل الحزبية الدقيقة المتشعبة وشؤونها التقنية ولقيامك بالمهمة التي انتدبت إليها على أفضل وجه.
تقريرك الأول: قد شمل هذا التقرير جميع نقاط الاستعراض اللازمة لتصوير حالة الحزب الحاضرة. الداخلية، وموقفه وخططه السياسية العملية الحالية بالنسسة إلى حالة البلاد السياسية والحالات السياسية الإنترناسيونية الطارئة التي وصفها التقرير وصفاً متقناً.
إنّ جميع القضايا التنظيمية والإدارية والسياسية التي ذكرت في التقرير ستجد تحليل الزعيم وتعليله لها وحلولها في الخطاب الذي يوجهه الزعيم إلى المجلس الأعلى في أول جلسة يحضرها الزعيم بعد عودته وتكون مخصصة لسماع هذا الخطاب، وفي الخطاب الذي يلقيه الزعيم في اجتماع حزبي عام يعيّن خصيصاً لهذه الغاية أو يوجّهه الزعيم إلى مجموع الحزب.
إلا أنه لا بد لي من إبداء ملاحظة على تحليلك نهج الحزب في صدر الباب الثالث من تقريرك في وصف "لاتجاهات الحزبية الداخلية" إذ تقول:
"لقد عرف الحزب في الماضي بالتشديد المتطرف على العقيدة، حتى أنه تحوّل هذا التشديد إلى تحجّر أكاديمي جعل الحزب في موقف سلبي من السياسة القائمة بدلاً من اشتراكه في هذه السياسة والتميّز عنها بوجود الأساس العقائدي كمبدأ تحاكم هذه السياسة بالنسبة إليه وكغاية يسعى إليها. وإزاء هذا الوضع، وبالنظر للظروف السياسية التي لم تكن، في توجيهها الظاهري موافقة للعقيدة القومية الاجتماعية اتجه الحزب نحو اتباع نهج جديد، هو تطبيق عملي لمبادئه، فأحلّ العمل السياسي المجرّد مكان الجدل العقائدي وبالتالي تحلى بالمرونة، وتمكن بذلك من الاشتراك المباشر في الحياة السياسية العامة والعمل على إصلاحها من ضمنها، الخ".
إلى أن تقول..
"كما أنّ هذا التحجّر الأكاديمي صرف حيوية الأعضاء في الأبحاث النظرية حول طبيعة الأمة ووجودها وغير ذلك، بدلاً من النشاط الخلاق الذي يدخل العقيدة إلى النفوس والعقول كأساس ضمني للنهضة الإصلاحية والثقافية التي يقوم يها الحزب.
إني أرى في هذا التحليل غلطاًفي التقرير والاستنتاج ناشئ عن عدم العناية بدرس نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي والكيفية التى نشأ فيها والظروف المحيطة بتلك النشأة. والظاهر أنّ مؤسسات الحزب الثقافية والإذاعية والسياسية لم تعنَ العناية اللازمة بهذه الناحية الهامّة من الثقاقة الحزبية، أو لم تسمح لها الظروف بتوجيه العناية إليها. وإني لعلى يقين من أنّ دراسة صحيحة لتاريخ نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي تؤدي حتماً إلى تعديل الآراء المتقدمة الواردة في تقريرك، التى يحتمل أن تكون آراء شخصية بحتة مما نستنتجه من ملاحظاتك الخصوصية، ويحتمل أن تكون آراء مشتركة بين عدد من أشخاص الإدارة المركزية الجدد الذين لم يشتركوا في اختبارات الحزب الأولى لعهد نشأته. ويشجع على أخذ الاحتمال الثاني بعين الاعتبار ما يلاحظ في تعابير بعض المسؤولين الجدد من صبغة "الاستنباط" أو "التجديد" كما في فاتحة نشرة عمدة الثقافة و"بيان عميد الثقافة والفنون الجميلة الأساسي" مما يحمل على الظن أنّ العميد يتوخى نهجاً جديداً غير الذي كان قبل توليه العمدة. فكل قول من هذا النوع يحتاج إلى تدقيق كثير وإعادة نظر ودرس تفاصيل عهد نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي وفلسفة عقيدته وخطوطه الأساسية، وإلا اضطررنا للدخول في سلسلة اختبارات "للاستنباطات" و"التجديدات التي يأتي بها المنتدبون الجدد للمسؤليات المركزية الذين لم يجتازوا امتحاناً في تاريخ الحزب ووحدة سياسته وإدارته واستمرارهما.
الحزب السوري القومي الاجتماعي نشأ حزب عقيدة جديدة في سورية فكانت غايته الأولى المباشرة إعلان هذه العقيدة وشرحها وغرسها في النفوس، وهذه الغاية الأولى المباشرة اقتضت عملاً يحب درس تفاصيله والتأمل مليًّا في مشقاته، وفي المدة التي يقتضيها نجاحه في دائرة واسعة من الشعب تكفل حصول الملاك المؤهل لتشكيل جهة عامة في جميع مناطق سورية، وحمل رسالة العقيدة التي تتجسد فيها شخصية الأمة الاجتماعية وبالتالي شخصيتها الحقوقية التي تعيّن ليس فقط ماهيتها بل حقوقها ومصالحها الرئيسية والحيوية التي تريد الاحتفاظ بها والدفاع عنها واسترجاع ما سلب منها وتنميتها وتوسيعها وضمانة رفاهية الشعب بواسطة تأمينها. وبتعبير تقني، إنّ تعيين شخصية الأمة الاجتماعية والحقوقية وحقوقها ومصالحها هو ما يعطي الأمة أساس عملها السياسى أو هو الشرط الجوهري السابق لنشوء سياسة قومية بالمعنى الصحيح. ولمّا كانت العقيدة جوهر النهضة السورية القومية الاجتماعية التي أسسها الحزب السوري القومي الاجتماعي وكانت دعوته إليها، فمن البديهي أن يكون كل عمله الأول فيها وأن يكون تحقيقها غاية أعماله. وقد اقتضى بث العقيدة واكتساب العناصر الصالحة على أساسها للعمل لها بإيمان بها عملاً شاقًّا طويلاً لأسباب عديدة، منها حداثة عهد الشعب بمثل هذه العقائد والمواضيع، وضعف الثقافة العمومية وتأصّل النعرات الدينية والعرقية والحزبيات المذهبية والشخصية، ولوجود سياسات أجنبية في البلاد تعمل على منع نشوء الشعور بالشخصية القومية والوعي القومي للحقوق والمصالح الرئيسية.
فقد بدأت بث أفكاري ودعوتي في سنة 1930 ولم أتوفق إلى تكوين نواة العمل العقائدي - السياسي إلا في أواخر سنة 1932. وبعد تكوين هذه النواة بأيام أو أسابيع قليلة اضطررت للتظاهر بحلّها لإقصاء عضوين فاسدين دخلا في صلبها ولإعادة تكوينها، وظلت نبتة ضعيفة جدٍّا سريعة العطب طوال سنة 1933 ولم يتجاوز عدد أعضائها الخمسة عشر، وفي سنة 1934 تمكّنا، إلى حزيران من هذه السنة، من مضاعفة عددنا فصرنا ثلاثين. عضواً وكان الأمين الجزيل الاحترام نعمة ثابت تكملة العدد 30. وفي صيف السنة المذكورة امتدت الدعوة إلى طرابلس والكورة بمناسبة العطلة الصيفية واكتسبت عدداً من الشبان الذين قبلوا الفكرة قبولاً مبدئيًّا وكان الواجب صهرهم في العقيدة. وفي شتاء 1934 – 1935، امتدت الحركة خارج نطاق طلبة الجامعة والمدارس الأخرى إلى أحياء بيروت وقرى الجبل ودمشق، وجميع هؤلاء المقبلين كانوا بحاجة إلى فهم العقيدة وإرسخاها في نفوسهم، ولمّا تكن قد نشات إذاعة ولاكتب ولا نشرات ولا أبحاث لنقل الأفكار بسرعة فكان العمل بطبيعته بطيئاً ومحفوفاً بالمخاطر بسسبب قوانين "قمع الجرائم" وغيرها. ثم لمّا استشعرت أوساط الطلبة والأساتذة في الجامعة الاميركانية ينشوء فكرة جديدة ابتدأت مقاومة "العروبيين" لها، وفي مقدمتهم الأستاذ قسطنطين زريق، فكان علينا الدفاع عن العقيدة قبل كل شيء، ولمّا قبض على الزعيم وأعضاء مجلس العمد الأول وابتدأ الرأي العام يعرف من منشورات الصحف أصول عقيدة الحزب ابتدأت حملة رباعية على عقيدته - من "العروبيين" ومن "اللينانيين" ومن الاكليروس المسيحي، وخصوصاً الماروني الكاثوليكي، ومن رجال الدين المحمدي. كنت في السجن ولم يكن بين أيدي القوميين الاجتماعيين غير المبادىء والدستور الأولي وخطاب الزعيم في أول يونيو 1935 ونص كتاب خصوصي موجّه مني إلى سائل عن رأيي في العالم العربي. فدافع الأعضاء بهذه الوسائل وبما اكتسبوه من المحادثات مع الزعيم وما نقل عنه. وبديهي أن هذه الوسائل كانت ناقصة لا تفي بحاجة عقيدة خطيرة كعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولكن الدعوى القضائية والمحاكمة في المحكمة المختلطة أنقذتا الموقف وأحدث دفاع الزعيم في المحكمة ذلك التيار من القوة المعنوية الذي رفع منزلة الحزب في أعين الشعب وأعين الفرنسيين "المنتدبين". ويعد المحاكمة تمكنت من إنجاز كتابي نشوء الأمم في السجن ولكنه لم يطبع إلا في سنة 1938.
وما خرجت من السجن في مايو/أيار سنة 1936 حتى عدت إليه في يونيو/حزيران سنة 1936 وفي هذا السجن وضعت شرح المبادىء الذي بلور العقيدة وصفاها من التآويل غير المسؤولة ومن المخالطات الغريبة. وبعد خروجي من السجن الثاني ببضعة أشهر جرت اصطدامات بكفيا المشهورة وحصل السجن الثالث، فيكون غياب الزعيم، موجد العقيدة وصاحب الدعوة، عن الحزب وعمله الإداري السياسي مدة نحو سنتين تتخللها فترتان قصيرتان جدًّا. وكانت الحرب على العقيدة تشتد وكان يجب إرساخ العقيدة في الحزب وصيانته من الميعان المبادئي والأخلاقي المتفشي في شعبنا وإكسابه الصلابة والمناعة اللتين هما، مع رسوخ العقيدة، كل رأسماله المعنوي الذي يكسبه هذه المنزلة الممتازة في الأمة ويؤهله لبدء المرحلة الجديدة – مرحلة دخول ميدان السياسة العملية.
والحقيقة أنّ هذه المرحلة كانت قد ابتدأت في زمن السجن الثالث حين شعرت الحكومة اللبنانية بمناعة الحزب وصلابته وحاجتها إلى التفاهم معه، فابتدأت من جانبها بمفاوضة الزعيم في السجن فقبل الزعيم المفاوضة وتمكن من الفوز بذلك "التفاهم" مع الحكومة اللبنانية المؤلفة من حزب إميل إده – خير الدين الأحدب، وكان من وراء ذلك الإفراج عن المعتقلين وعدم التعرض لحركات الحزب والسماح للصحف بنشر أخباره واكتساب الرخصة بإصدار النهضة، وإصدارها أشهراً عديدة. وطبع مبادىء الحزب مشروحة بقلم الزعيم وكتاب نشوء الأمم وفي شرح المبادىء وغاية الحزب، وفي تصريح الزعيم لجريدة النهضة في صدد "الكيان اللبناني"، وفي سياسة الحزب مع الحكومة اللبنانية في زمن إده - الأحدب ومباشرة تدخله الفعلي في السياسة اللبنانية، وسياسته مع الحكومة الشامية، والمساعي التي بذلها للتفاهم مع "الكتلة الوطنية"، ثم مع الدكتور (عبدالرحمن) شهبندر المرحوم بطلب منه وحصول مقابلة سرية بين الزعيم والشهبندر عقبتها مقابلة ثانية بين وفد حزبي والشهبندر بعد مغادرة الزعيم الوطن وعدم كفاءة الوفد لاكتساب الوجه السياسي من المقابلة، ودخول الحزب في السياسة الشامية العملية حيثما تمكن من ذلك. كما في تدخّله الفعلي في انتخابات محافظة اللاذقية وفوزه في تلك الانتخابات في بعض المناطق وخسارته بعضها بسبب عدم ثبات بعض المتحالفين معه - في جميع هذه الظواهر المحسوسة نجد مبادىء السياسة العملية وقواعد مرونة الحزب الصحيحة مع صلابة عقيدته ورسوخ إيمانه اللذين أنقذاه من ورطات الميعان العقائدي والأخلاقي الذي حاول جرّه إليها أمثال صلاح لبكي وإميل الخوري وغيرهما.
بفضل ذاك "التحجر الأكاديمي" وتغيّر الظروف السياسية يتقدم الحزب السوري القومي الاجتماعي اليوم لاحتلال مكانه السياسي الممتاز في جميع المناطق السورية ودولها ومكانه الثقافي الممتاز في "تفجر النشاط في البلاد، سواء في صفوف الحزب أم خارجها" الذي دعت إليه، بالأكثر، عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي والتي وضعت على بساط البحث قضايا الأمة، والتي هزت الأفكار وحركت العقول وحرّضت الأفهام. فلا ننسى كم حلّ "الجدل العقائدي" الذي أثاره الحزب، للعقول من عقد، وكم دعاها إلى تفكير هادئ أو صاخب. فإن عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي ونظرياته قد حرّكت العقول ونشّطت الأفكار، ليس فقط في الذين دخلوا في صفوفه، بل في جميع المشتغلين بالسياسة والاقتصاد والثقافة والأدب. ولست أريد أن أقول أنّ كل نشاط فكري مصدره الحزب، بل أريد إظهار ما كان لعقيدة الحزب ونظرياته من شأن في دفع قوى الأمة نحو هذا "النشاط الثقافي المتفجر"، وهو شأن اعترف به رجال ومؤسسات لها مكانتها. فاعترف به السياسي الكتلوي المعروف الأستاذ فارس الخوري في عدة مناسبات منها أمام عدد من نواب المجلس الشامي في غرفة رئاسة المجلس بحضور الزعيم ومنفّذ دمشق العام آنئذٍ الرفيق فريد مبارك، وشهد به مؤلف كتاب Nationalité Syrienne devenue arabe من الكتلويين، واعترف به الدكتور شارل مالك قبل تعرّفه بالزعيم في "نادي الفلسفة في الجامعة الأميركانية"، واعترف به جميل مردم نفسه في مقابلة بينه وبين الزعيم في فندق النجار في صوفر بحضور عدد من القوميين الاجتماعيين و"الكتلويين"، وأقرّ به رجال المفوضية الفرنسية أنفسهم، والأب شنتور في الجامعة اليسوعية. والمرحوم الدكتور عبدالرحمن شهبندر، وظهر أثر شانه في محاولة "الكتلة الوطنية" اقتباس شكل مبادئه في "ميثاقها" الذي وضعته بعد أربعين هنانو وبعد ظهور الحزب السوري القومي الاجتماعي ومحاكمتهم وفي تقليده وتقليد قسمه بتشكيل "القمصان الحديدية"، وفي تنظيم "شباب الوفد" المصري سنة 1936، وفي إقبال عدد من طلبة الجامعة الأميركانية العراقيين على درس مبادئه وأشكال تنظيمه وطلب وفد منهم مبادئه ونظام تشكيلاته ليحملوها معهم إلى العراق ليسيروا هناك على غرارها، وفي تصريحات مكتومة للمير شكيب أرسلان إلى أحد أصدقاء خصوصيين له، وفي أدلة كثيرة غير ذلك يمكن أخذها من الصحف، وخطب السياسيين وحوادث البلاد بوجه الإجمالونشوء طائفة من الأحزاب الببغائية فيها، تقلّد حزبنا.
وضع الحزب الإداري الحاضر: إنّ تقدم الحزب إلى ميدان السياسة العملية وأخذه رخصة في لبنان باسم "الحزب القومي" على أنه حزب لبناني واضطراره لإنشاء "لجنة إدارية عليا" لدولة الشام وإدارات شبه لا مركزية في بقية المناطق السورية سيجلب معه قضايا تقنية تستدعي درساً سابقاً وخطة مقررة ومنهاجاً معيناً. وهذا ما لمّحت إليه في كتابي إلى حضرة رئيس المجلس الأعلى الموقر ومما لا شك فيه أنّ التضعضع الإداري الذي مُني به الحزب من جرّاء حروبه التي لا هوادة فيها، عرّضه لبعض التدابير المتسرعة كتعيين خالد المورلي عضواً في المجلس الأعلى. فإن هذا الشخص كان عرضة لشكوك كثيرة في "مكتب الاستخبارات" الحزبي وإدارة الحزب العليا من جراء تصرفات غامضة له في نواحي الشام، ولكن الشكوك لمّا تكن قد تجسمت في عمل واضح. والظاهر أنّ هذا الشخص كان يحوك مؤامرة انفصالية في منطقة الشام اكتشفتها إدارة الحزب العليا مؤخراً، وكان من وراء ذلك صدور قرار المجلس الأعلى بطرده وطرد شركائه وهم: جورج عزام، مصون عابدين بك، محمد الرافعي، كامل بنقسلي، نور أيوب آغا، زكي صواف.
أما جورج عزام فكان أمره مشهوراً من زمان. وأما مصون عابدين بك فإنّ الزعيم اكتشف تصرفات سيئة له في برلين أثناء قيامه بوظيفة مدير لمديرية الطلبة القوميين الاجتماعيين في ألمانية وتلاعبه بأموال حزبية واتخاذه المديرية وسيلة لطلب إعانات مالية من بعض دوائر الحكومة الألمانية فعزله في ختام إقامته في برلين حين عرّج على ألمانية بطلب من المديرية وهو في طريقه إلى أميركة. وأما زكي صواف ففيه هوج يساعده على الشذوذ. واما الآخرون فلا علم لي بشيء عنهم.
فتبلّغ طرد هؤلاء الأشخاص لمعرفتك ولا تذعه في أميركانية لعدم الحاجة إلى ذلك.
عودة الزعيم: إنّ عودتي إلى الوطن و إلى نطاق إدارة الحزب المركزية حيث أجتمع بأعواني وجميع رفقاء النهضة القومية الاجتماعية تعني لي فكاكاً من أسر كان أشأم ما عرفت من أسر. فإنّ النزالة السورية في الأرجنتين كانت لي أظلم سجن طويل عرفته، فكأنه فرع من سجن الرمل في بيروت في عهد إميل إده. وإنّ متطلبات العمل القومي الاجتماعي في هذا العهد تجعلني أرى واجب العودة السريعة، ولكن لهذه العودة ناحيتين يجب درسهما والعمل فيهما معاً: ناحية الزعيم وكيفية إقامته في الأرجنتين، وناحية الحزب في الوطن وتأمينه المعاملات القانونية اللازمة والأسباب والظروف المناسبة لهذه العودة.
أما إقامتي هنا فكانت دائماً كرهاً. فقد نشبت الحرب بعد وصولي إلى الأرجنتين ببضعة أشهر وابتدأت تعقّبات الحزب في الوطن من جديد، وأوعزت الحكومة الفرنسية إلى قناصلها بإلغاء جواز سفري، فعلمت بذلك ولم أقدم جواز سفري لتمديد المدة، ولم أعد قادراً على السفر إلى أي قطرآخر.
وبعد مرور نحو شهرين على قدومي إلى الأرجنتين عزم الرفيق المرافق أسد الأشقر على العودة إلى أفريقية فسافر إليها ومنها إلى الوطن، وبقيت بصحبتي خالد أديب ولا فلس معنا، وأنا في حالة صحية سيئة جدًّا، فطلبت شيئاً من المال من رفقاء البرازيل وأرسل خالد أديب بغير علمي فطلب مالاً من منفذية الشاطىء الذهبي. فلبّت منفذية الشاطىء أولاً بمبلغ لم أعرف كم هو لأنّ خالد أديب ادّعى أنه من أخيه، وعرفت الآن انه أربعون استرلينية وتصرّف به وحده. والمال الذي ورد من البرازيل كان قليلاً يكفي لإقامة شهر.
في هذه الحالة ابتدأت عملي الحزبي في هذه النزالة الجاهلة في جو مشبع بالدعاوات السامة ضدنا. وبعد جهد وتراوح بين الإخفاق والنجاح حصل تقدّم ضعيف للحركة. ولكن حصلت حوادث تخريب كثيرة من خالد أديب ومن بعض الدجالين ومتعودي الاحتيال الذين انضم بعضهم على يده ويد الرفيق أسد الأشقر، وبعضهم الآخر يواسطة العمل الحزبي في المديريات. ولمّا دخلت البرازيل وأميركانية الحرب وانقطعت المواصلات الحزبية مع فروع البرازيل، التي صارت منفذيتين ومديرية مستقلة، ومع منفذية الشاطىء الذهبي ورأيت جهودي ضائعة في نزالة الأرجنتين وعدم إمكان تأسيس مطبعة لـِ الزوبعة خطر لي في الأخير، حفظاً لكرامتي وصيانة لمقام الزعامة في قبول العمل في الصناعة أو التجارة. فقبلت ما عرضه عليّ "رفيق" محتال يدعى إبراهيم الكردي كان قدّمه إليّ المدعو جبران مسّوح وهو كاتب شعبي ومحتال آخر خفي، وعرّفه إليّ بأنه "من أركان الحزب في توكومان" فوقعت في ورطة معه تخسّرت فيها قسماً من المبلغ المالي الذي اقترضته من ابن حميّ، وقامت الرجعة تأخذ بناصر المحتال وتحرضه على ادعاء دعاوى مختلفة. ثم قبلت ما عرضه عليّ المحتال الآخر الذي كنت أرى أنه أفضل من عرفت في الحزب في الأرجنتين لاستمراره في التظاهر بالاخلاص والنزاهة مدة طويلة، ولكونه الوحيد القادر على الكتابة الصحافية والمعاونة في العمل الإذاعي، وهو الاشتراك معه في تجارة أضع فيها أنا الرأسمال ويضع هو عمله وخبرته فنؤمن المداخيل اللازمة لنا وللعمل الإذاعي للقضية. وفي ستة أشهر فقط اختلس الرجل كل الرأسمال ومثل نصفه عدا عن الأرباح. ولولا تداركي الأمر بالتقويم في ستة أشهر لما كان مفرّ من الافلاس والشماتة وذيول الإشاعات.
ففسخت الشركة في الحال مع المحتال وقبضت على بعض الوثائق الدالة على احتياله، ولكن لم يكن لي وقت ولا مال للإنفاق على دعوى اتهامية ضده، فضلاً عن أنه لا فائدة من الدعوى التي تطول وهو لا يملك عقاراً، ولا منقولات يمكن حجزها والمال أودعه عند خليلته.
وبعد أن كنت أؤمل الاعتماد على "مخلص" الأعمال التجارية بالمبيع والحركة وجدتني تحت عبء محل تجاري مفلس وتحت عجز مالي.
وفي هذه الآونة قاربت ولادة طفلتي الثانية ففقدت معاونة قرينتي مدة الوضع والراحة ثم عملت كل السنة الماضية بمساعدتها بكدّ وتعب وتمكنّا من إنقاذ المحل، وفي التقويم السنوي الأخير، تبيّن أني عوّضت معظم الخسارة مع المدعو جبران مسّوح.
في هذه السنة الحالية ابتدأت أعمالي التجارية تتسع وابتدأت أتوقع نجاحاً ماليًّا جيداً، فاشتريت كميات بضائع أكثر من السنة الماضية وأخذت على نفسي تعهدات، وآخر عمل تجاري كان صفقة شراء كمية كبيرة من الورق لصناعة أكياس الورق للحوانيت طلبتها رأساً من معاملها الأسوجية ومركب الشحن يصل في آخر هذا الشهر وينتظر وصول الورق إليّ بعد نحو عشرين يوماً. هذه الكمية يستغرق استهلاكها بالصناعة نحو ستة أشهر ومبلغ ثمنها نحو اثني عشر ألف فاس (ريال) أرجنتيني.
فتكون المسألة من جهتي مسألة التخلص من التجارة إما ببيع المحل وإما بتصفيته. أما البيع فهو أخصر الطرق إذا وجد الشاري المناسب. وأما التصفية فيمكن أن تستغرق ثلاتة أشهر إلى السنة.
تبقى مسألة معرفة ما يبقى لي من مال بعد ردّ المال المقترض من ابن حمي، وأظن أن ما يبقى زهيد لا يستحق الذكر خصوصاً والبيع سيكون تصفية بلا ربح تقريباً. وفي هذه الحالة يجب تأمين نفقة سفر الزعيم وعائلته من فروع الحركة في أميركة.
أما المعاملات اللازمة من الوجهة القانونية فقد بدأت في الوطن بتقديم مذكرة للوزير الصديق الأستاذ إميل لحود بطلب إعطائي جواز سفر للانتقال بحرّية وللعودة إلى الوطن إذا شئت، والمذكرة مشفوعة بالحجج النافية لتوهّم خطر الزعيم على كيان لبنان أو اختلاف موقفه عن موقف الحزب المعلن وإني انتظر نتيجة هذه المحاولة.
وأما الأسباب والظروف المناسبة واستعداد الحزب للاضطلاع بمسؤولياته فيوجد توافق بين ما ورد في تقريرك وفي رسالة حضرة رئيس المجلس الأعلى وهو ما يشتمل على الخطوط العريضة للحالة الحزبية العامة.
هذا ما رأيت أن أورده لك الآن، وفي مناسبة أخرى أعود لأسألك بعض المسائل اللازمة لإيضاح بعض الأمور.
هنا بدأت بإمكانياتي المادية المحدودة حركة تبرّع من الرفقاء والمحبذين لخزانة الحزب العامة، ولقد جمع مبلغ يمكن إيصاله إلى عشرة آلاف فاس (ريال) أرجنتيني أو نحو أربع مئة أو خمس مئة استرلينية لترسل إلى الخزانة الحزبية العامة في الوطن.
قد صدرت جريدة صدى النهضة في بيروت، وإني أنتظر وصول أعدادها الأولى بالبريد العادي. وقد ساهمت منفذية الشاطىء الذهبي مساهمة جيدة في إيجاد رأسمالها.
بعد أيام غير كثيرة يصدر أول عدد من استئناف إصدار الزوبعة هنا.
إقبل سلامي القومي. ولتحيى سورية.