27/5/1940
رفيقي العزيز إبراهيم حبيب طنوس،
تأسفت كثيراً، لأن كتابي الأخير إليك الذي أرسلته منذ مدة غير قصيرة لم يصل. فقد تناولت في ذلك الكتاب بعض أمور هامة، وعلّقت على مقاليك المنشورين في عددي سورية الجديدة 46 و47 الواحد بعنوان «ننظر إلى الماضي لا لنقف....» والثاني بعنوان «إلى أن تغيّبهم الصحراء ....» والتعليق هام لأنه توجيهي وسأعود الآن إلى ذكر أهم ما تجب ملاحظته في مقاليك المذكورين: في المقال الأول «ننظر ....» يلاحظ الدارس الفاحص تجزؤ الوحدة الروحية وتعارض أجزائها وتعاكسها أحياناً كما في الفقرة الثالثة حيث تقول: «ومع أن الوطن السوري في العصور القديمة كانت تسكنه جماعات مستقلة عن بعضها (كما هي الحال الآن ....) ومحكومة كلها من جارتيها مصر وأشور».
فهذه العبارة الخطيرة تنقض ما ورد في سياق المقال من أن السوريين لم يكونوا يستكينون للذل أو للحكم الأجنبي. ومهما يكن من شيء فالقول في بدء الخطاب إن جماعات سورية كانت كلها محكومة هو قول خطر جداً من الوجهة النفسية، فضلاً عن أنه مخالف للحقائق التاريخية التي لم يعد كتاب مثل كتاب سيزار كنتو صالحاً لأن يكون مصدراً لها لسببين:
1 ــ إن مؤلف كنتو خالٍ، لقدمه، من الحقائق التي أثبتتها التنقيبات والتحقيقات المتأخرة.
2 ــ إن سيزار كنتو هو مؤرخ إيطالي، وهذا يعني أن وجهة نظره إلى التاريخ هي وجهة نظر المؤرخين الإغريقيين والرومان المتقدمين الذين وضعوا تواريخهم بروح عدائية للسوريين والحقائق التي في مصلحة السوريين بما أنهم كانوا أعداءهم ومزاحميهم على مستعمراتهم.
وهكذا نرى في سيزار كنتو الميل لتأييد كل ما ورد في المصدر الأول لتاريخ الحرب الفينيقية، خصوصاً الحرب الهنيبعلية، بليبيو الذي حاول الانتقاص من عظمة هنيبعل في عبوره الألب متذرعاً بالحجة أن بعض قطعان الجلالقة المتوحشة عبرت الألب قبل هنيبعل، واضعاً مقياساً واحداً للقطعان المتوحشة الضاربة في الأرض على غير هدى وللحملة العسكرية المنظمة التي لها قصد وموضوعة لها خطة، إن في سيزار كنتو وأمثاله حقائق كثيرة يجب نشرها ولكن يجب الحذر من اعتبار كل ما يرد في مثل هذه الكتب «حقائق» ثابتة، خصوصاً في كل ما يتعلق بمدنية سورية ومنشآتها وامتداد سلطتها وحروبها وأبطالها، فهذه جميعها كثيراً ما تكون ممسوخة، ويكاد المسخ يكون أكيداً حين تكون المسألة بين سورية وإغريقية، أو بين سورية ورومة أو إيطالية.
لم تسمح لي أشغالي الكثيرة بتتبع كل ما تترجمه لسيزار كنتو بدقة. وقد أعود إلى قراءة السلسلة كلها دفعة واحدة فيما بعد.
لم أستحسن اتخاذك أمثلة من الأقاصيص اليهودية لإيضاح فكرة سورية جالت في دماغك حين كتبت مقالك «إلى أن تغيّبهم الصحراء ....» وقبولك هذه الأقاصيص الخرافية، أو المنسوخة عن حكايات وسير شعب آخر كحقائق تاريخية.
هكذا قبلت فكرة دخول اليهود شبه جزيرة سيناء وبقائهم فيها أربعين سنة كما قبلتها الأجيال القديمة. والتحقيقات الأخيرة ترجّح وتؤكد عجم مجيء اليهود من مصر، وأن حكاية يوسف كتبت بعد السبي على الأرجح، وأن العبرانيين أخذوها عن حكاية من حكايات ما بين النهرين.
وأنت قلت في موسى إنه كان «مفكراً وقائداً محنكاً .... وكان صدره طافحاً بالآمال العظيمة وقلبه مسكراً بالمثل العليا ومحبة الإقدام على جلائل الأمور»، ومثل هذا القول لم يقله كاتب إغريقي أو روماني، حتى ولا في هنيبعل أعظم نابغة حربي ظهر على وجه البسيطة، حتى ولا في معرض الهزل.
ومثل هذه الأمثلة اليهودية تولد حالة نفسية لمصلحة اليهود تكون أقوى من الحالة النفسية المقصود توليدها من المقالة وموضوعها.
الفقرة الأولى والثانية من هذا المقال تشتملان على خلط تاريخي قصد منه وصل تاريخ «الهكسوس» العظيم «بتاريخ» الأقاصيص اليهودية.
فالهكسوس لم يدخلوا مصر باتفاق مع اليهود، ولا علاقة لليهود مطلقاً بامتداد سلطة الهكسوس على مصر، لأنهم لم يكونوا في مصر ولم تكن لهم بها علاقة. وقد أثبت ذلك ليوني غيتاني في كتابه دروس في التاريخ الشرقي الذي يكون أحد مستندات مؤلفي نشوء الأمم.
إن مقالاتك الأخيرة قد أعجبتني جداً، وترجمتك فصولاً من سيزار كنتو ستكون مفيدة جداً، لأنها تعمم درس التاريخ السوري.
منذ نحو شهر أو أقلّ كتبت إلى الرفيق وليم [بحليس] جواباً على كتب منه ومنك في مسألة نجيب العسراوي، وأخبرته حقيقة ما كتب العسراوي إليّ، وما كتبت إليه، وطلبت منه إبلاغك ذلك ووجوب قبوله رفيقاً، وإبلاغك وجوب الاهتمام في مقالاتك المقبلة بمسألة عقد مؤتمر سوري قومي في المهجر التي نشرت سورية الجديدة شيئاً عنها في إحدى رسائل أرجنتينية.
لا أدري إذا كان كتابي قد وصل، وقد أصبح راجحاً عندي أنه لم يصل مع أني أرسلته بالبريد المسجل كما أرسل هذا الكتاب إليك.
وقد وردني منذ نحو عشرين يوماً كتاب من السيد نجيب العسراوي يحلف فيه أمامي أنه اعتنق مبادئ الحزب السوري القومي، وأنه يكون في جميع الحالات سورياً قومياً نظامياً.
وهو يطلب أن أزوده بما يلزم للقيام بالعمل في منطقته. وسأكتب إليه أني قبلته سورياً قومياً مع وجوب تتميم المراسلة الشكلية التي لا بدّ منها، وأطلب منك أنت ووليم الاهتمام بهذه المسألة بجد والتعاون على بث الحركة في منطقتكم.
قد سافرت أول أمس إلى سان باولو الرفيقة مريانا دعبول فاخوري التي مدحتها مع الرفيقتين بلوميا مسوح وليلى فاخوري في مقالة قصيرة. وقد رأيت، بهذه المناسبة، أن أكتب إليك في وجوب التحفظ مع هذه الرفيقة لوجود ضعف في أخلاقها، يفسد أحياناً الحسن من أعمالها.
فهي مخلصة ومندفعة على ما يبدو منها. ولكنها كثيرة الثرثرة والتبجح وتحب التظاهر بأنها هي كذا وكانت كذا، وقالت كيت وسمعت كيت. وهي لا تعرف في كل ذلك حداً تقف عنده، حتى إنها أخذت تستعمل اسم الزعيم لتبدي آراءً وأحكاماً عن لسانه، ولتدّعي أنها مقرّبة إليه أكثر من جميع القوميات والقوميين.
والحقيقة انها قد استغلت مرضي في هذا السبيل إلى أبعد حدّ. وفتحت مظاهر اهتمامها بصحة الزعيم بعرضها وإلحاحها أن تحضر له الطعام الخصوصي الذي يصفه له الطبيب، كانت لها لبانات أبرزها حب استغلال الموقف للظهور أمام الآخرين أنها ذات مركز ممتاز عند الزعيم واستغلالها أحاديث الزعيم في بيتها حين يكون مدعواً للغداء أو العشاء أو الشاي لتظهر أمام الرفيقات أنها تعلم ما لا يعلمه غيرها، وأنها في مركز يخوّلها اتخاذ بعض المواقف.
وقد أدى تصرّفها هذا إلى تشويش واسع. فأطلب منك أن تكون متحفظاً كل التحفظ مع هذه الرفيقة وأن تبلّغ القوميين الذين تتصل بهم أن يكونوا كذلك، فتقول لهم إن عندك أسباباً كافية تحملك على الطلب منهم أن يكونوا متحفظين مع هذه السيدة، فلا يغرقوا في المديح ولا يقبلوا كل ما تقوله، فهي مبالغة إلى حد كبير. ومع ذلك يجب ألا تعامل باستنكار أو نفور. فهي مفيدة في الأول ثم لا تلبث أن تبدأ بإفساد المفيد الذي قامت به.
سأرسل إليك عدداً من البطاقات الرسمية الجديدة فهي أكمل وأضبط، ويمكنك أن تجعل الرفيق العسراوي يوقّع اثنتين منها.
صار رفيقاً لنا في سان باولو الصناعي فؤاد لطف الله وغالب صفدي، وهذان الرفيقان الجديدان يجب أن يبقيا مكتومين حتى عن الأعضاء، ولكن أحببت أن تعرف أنت ويعرف وليم بهما وأن تتصلا بهما وتتخابرا في الشؤون العامة وهذا ضروري، لأن الحركة مشلولة بسبب شلل الرفيقين توما توما وإلياس بخعازي اللذين يظهر أنهما اكتفيا بوجود أعضاء وفرع.
وليس هنالك ما يدل على أنهما يدركان أن الفرع يوجد لغاية، وإلا فوجود فرع وعدم وجوده سيان. فأريد أن تتصلا بالرفيقين الجديدين والرفيق إلياس فاخوري الذي هو أفضل من امرأته الرفيقة مريانا، وبعد تمام الاتصال والتفاهم يجب أن تتجنبوا قول كل شيء للرفيق إلياس خشية إيصاله إلى امرأته التي لا سر عندها. وكنت قد كتبت في أمر إيجاد الاتصال بينكم إلى الرفيق فاخوري ولا أدري ماذا جرى، وسأكتب إليه في البريد الجوي غداً أو بعد غد.
إن الحرب تسير بسرعة إلى نهايتها، كما ترى، ومع أنها دائرة على أعدائنا فلا يمكن التأكيد أنها مع أصحابنا. فنحن حتى الآن نعرف أعداءنا ولكننا لا نرى أصدقاءنا، والحق على غفلة الشعب. وإني أتألم كثيراً لأن الكثير من شعبنا يظن أن انكسار أعدائنا وحده يوصلنا إلى مطلوبنا. هذه الروح الاتكالية القبيحة، هذا التراث النفساني الملعون متى يمحى أثره. إن أريد أن أرى زواله بسرعة.
عسى أن تكون والعائلة بخير. إني أشعر بألمك من الحالة التي لا تسمح لك بفعل كل ما كان يكون في مقدورك فعله من أجل القضية.
لا أدري إذا كنت سأتمكن من السفر إلى المكسيك. والأرجح أن القنصلية الفرنسية تلغي جواز سفري كما فعلت بجواز خالد [أديب]. ولكني سألجأ إلى خطة قد يكون فيها التوفيق، فإذا تمّ ذلك سافرت قريباً جداً، وإلا فأنا باق طويلاً في أرجنتينية، وعلى ذكر خالد أقول إنه خيّب ظني في جميع الأمور الأساسية، وفي المسائل الشكلية أيضاً، وكانت مظاهره أضخم كثيراً من حقيقته.
ليس من جهة العقيدة، بل جهة النفسية الشخصية والمقدرة العملية. فهو وأسد [الأشقر] المسؤولان أمام إدارة الحزب عن كيفية توقيفنا في البرازيل وذيوله. فقد علمنا أن التحري يبحث عني لتوقيفي، ولم يهتما بتبليغي الأمر، ولم يسألا عني طول ذلك النهار، ولم يهتما بإخفاء الأوراق الهامّة.
وقد أقلتهما حال وصولي إلى أرجنتينية من وظيفتي ناموسين في مكتب الزعيم، وأخيراً فصلت خالد عن مرافقة الزعيم وأقلته من وظيفة «معاون وكيل مكتب عبر الحدود» لعدم قيامه بشيء من هذه الوظيفة، وأحلته على سلك الإذاعة برتبة مذياع عام بدون وظيفة أولوية. فأطلب منك تبليغ هذا الأمر إلى القوميين المتصلين بك. سلامي لك وللعائلة والرفقاء حولك.
ولتحيى سورية.
بعد ــ أحببت أن أضيف إلى ملاحظاتي ملاحظة على ما ورد في مقالك «ننظر إلى ....» في صدد العهد الأموي في سورية. فصحيح أن الخلفاء الأمويين كانت لهم نقائصهم، ولكن هذا العهد لا يمكن أن يحسب عهد انحطاط للسوريين، فسورية ازدهرت على العهد الأموي. ويحسن ألا نجعل الماضي أكثر ظلاماً مما كان لأن الظلمة تعمي وتخيف.