8/12/1940
رفيقي العزيز وديع،
وردني كتاباك المؤرخان 28 و29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ووقفت منهما على تفاصيل موقف السيدين فؤاد وتوفيق بندقي، وأنهما بعد أن كانا أقرا تحويل الجريدة بكلّيتها، على أن يدفع لهما ما يقبض من الاشتراكات المتأخرة حتى آخر هذه السنة، عادا فغيّرا موقفهما بعد وصول كتاب الرفيق جبران [مسوح] إليهما.
إنّ الإنسان البصير ليحار في نفسية عدد كبير من السوريين الذين يريدون شيئاً ولا يعرفون ما يريدون ولماذا يريدون. هم يريدون نظاماً، فإذا جاءهم النظام أرادوا أن يسري على غيرهم لا عليهم، والتجأوا إلى الفوضى.
وبعد فلماذا يجب أن يتكدر هذان السيدان من جواب الرفيق مسوح إليهما، وكيف يطلبان من الغير أن يراعي شعورهما بينما هما لا يراعيان شعور أحد، حتى ولا شعور الزعيم ومركزه؟ قد يكون بلغك أني أرسلت إلى إدارة الجريدة مقالاً متسلسلاً للنشر، فأجاز السيدان فؤاد وتوفيق لنفسيهما القبض على المقال ومنع نشره، فمن هو الزعيم، إذن أنا أم هما؟ قد يقولان إنهما يريان أنّ نشر المقالات يحدث كذا وكذا، ولكن الواجب يقضي عليهما أن يبديا رأيهما رأساً إليّ وألا يمنعا النشر، فإذا استصوبت رأيهما أرسل أنا وأمنعه، وإذا لم أستصوبه وجب عدم عرقلة تعليمات الزعيم. وإذا كانا لا يريدان حسبان نفسيهما عضوين خاضعين لسلطة زعيم، يجب على الأقل احترام الاتفاق بيني وبينهما على أن تكون جميع الشؤون الكتابية وسياسة الجريدة خاضعة كل [الخضوع] لمطلق إرادتي والدوائر التي أكلفها التنفيذ. لكنهما تدخلا في سياسة الجريدة، وشيئاً فشيئاً صار الرفيق فؤاد يعدّ نفسه صاحب الأمر والنهي فيها، وخالف جميع التعليمات التي أرسلتها إلى "مجلس إدارة سورية الجديدة"، وبدت الجريدة منحازة بسياستها إلى جانب دولتي المحور تحبّذ جميع انتصاراتهما بدون تحفظ، ونشر لسياستهما وجيوشهما المقالات الإذاعية والشروح الصورية، ولم يراعِ موقف الحزب وسياسته المستقلة، ولم يكلف نفسه مراجعتي في ما عزم عليه، فألحق بالحزب أضراراً جمة معنوية ومادية، وأضرّ بالقضية القومية التي أوجدها الحزب وقام عليها. وقد شكا إليّ الرفيق جبران مسوح من اللهجة القاسية التي استعملها السيدان فؤاد وتوفيق بندقي معه، وهو كان كتب إليهما عندما عرف بأنهما حالا دون نشر ما أمرت بنشره ولم أطّلع على كتابه ذاك، فكتبا إليه بلهجة الآمر إلى المأمور، أو بلهجة من يحسب مركزه أعلى من مركز من يكتب هو إليه، وقالا له في ختام الكتاب إنهما لم يكونا ينتظران مثل موقفه، وإنهما يسامحانه لأنه أخطأ تجاه مقامهما. وقد أرسل كتابهما المذكور إليّ الرفيق مسوح، وفيه خبط في مبادئ الحركة القومية وخلط بين نظرياتهما السطحية وغاية الحزب، وكلام لا يجوز قبوله بدون حساب مقام الزعيم وسلطته صفراً على الشمال. وجبران مسوح تأثر كثيراً من موقفهما وكلامهما، وبرأيي أرسل إليهما الكتاب الذي تشير إليه، وهو ليس سوى جواب على كتابهما. فهل يظن السيدان فؤاد وتوفيق بندقي أنهما وحدهما لهما شعور، وأنّ الزعيم وجبران مسوح وغيرهما لا شعور لهم. وكيف يجيزان لنفسيهما مس كرامة جميع القوميين بالتجاسر على مركز الزعيم وسلطته، ثم يطلبان من الزعيم ومن القوميين ألا يوجهوا إليهم كلاماً صريحاً يضعون فيه كل شيء في محله؟ ولماذا يتكدر هذان السيدان من وضع كل شيء في محله؟ ولماذا لا يحسبان حساب كدر مراجع الحركة وكدر القوميين الغيورين من جعل أشياء كثيرة في غير موضعها؟ أليس تكدرهما هذا تجاسراً جديداً على مقام الزعامة القومية.
الرفيق جورج بندقي يعلم جيداً، مما كتبت إليه منذ نحو سنة، أني أوقفت مشروع إنشاء جريدة في الأرجنتين من أجل سورية الجديدة، ولكي أبقي لها امتياز كونها الجريدة شبه الرسمية إذا حصلت على التأمينات الكافية التي طلبتها، والتي كان الرفيق توما توما ساعياً للحصول عليها. وفي ذلك الوقت خاطبت أصحاب المشروع، وفي رأسهم الأديب القومي الكبير جبران مسوح، قائلاً: "إني لا أتخلى عن جعل الأولية للرفيقين فؤاد وتوفيق بندقي اللذين أقدما على تأمين صدور أول جريدة قومية في المهجر، ولا أسمح بإنشاء جريدة أخرى حتى تكون سورية الجديدة قد وصلت إلى ما أريدها أن تصل إليه". وكنت عازماً على جعل اسمي هذين الرفيقين منارة في صفوف القوميين. ولم أكن أتصور قط أنه بعد أن تصير سورية الجديدة في هذا المقام بفضل كتاباتي، وكتابات القوميين العاملين بتأثيري، وبفضل نفوذ الحركة السورية القومية أنّ الرفيق فؤاد بندقي يستعمل كل ذلك ليسيّر سياسته هو الخصوصية، ويوقع الحزب في ورطة أمام الرأي العام، ويعرقل حركاتي وخططي السياسية ويعطل إمكانيات سياسية كثيرة كانت تعود بالفائدة على الحركة القومية.
وكان قد جاءني تأكيد خطي من السيد فؤاد بندقي مكتوب بخط الرفيق توما، وموقّع باسم مستعار لفؤاد وبخط يده، يؤكد فيه أنّ الجريدة تكون خاضعة بكليّتها لأوامر المراجع الحزبية العليا. فطلبت كتاباً بخط فؤاد نفسه وبتوقيع اسمه الواضح الحقيقي فأخذ ينتحل الأعذار. وأنا لست في مقام الزعامة لأني قليل الحنكة أو لأني أحسن أن أكون مطية. ولكني فضلت الانتظار ومعاملة الرفيقين بندقي بمنتهى التساهل لعلهما يدركان حقيقة الموقف ويعملان بمقتضيات الواجب القومي، فكانت النتيجة أني بعد أن عطّلت مشروع الجريدة في الأرجنتين وفاتت الفرصة السانحة آنئذٍ وبعد التأكيد أنّ الجريدة سورية الجديدة تكون حسب الاتفاق الإنشائي خاضعة للتوجيهات والتعليمات الصادرة من المراجع الحزبية ذات الصلاحية، وجدت أنّ سياسة الجريدة تسير ضد تعليماتي الصريحة المكررة التي أرسلتها إلى مجلس إدارة الجريدة والتي أرسلتها إلى مدير شؤون الجريدة. وأنت وغيرك تقولون إنّ السيدين بندقي ضحيا ويضحيان، وأنا أقول إنه لو سئل أحد الخبراء كم يجب أن تتقاضى جريدة ذات مركز ممتاز لتقوم بالدعاوة التي قامت بها سورية الجديدة وفي هذه الظروف لكان جوابه: لا أقلّ من مئتي كنط.
ومع كل ذلك لم أوجه إلى الرفيقين بندقي أية كلمة، وكل ما فعلته أني أرسلت أطلب المقال المتسلسل الذي يظهر الآن في الزوبعة وكتبت إلى الرفيق جورج أقول له إني أجد عمل ابني عمه خرقاً لشروط الاتفاق الأوّلي وخروجاً على النظام، ولذلك ليس في إمكاني الاستمرار في حمل مسؤولية أعمالهما، وإنهما يجب أن يحملا مسؤولية ما ينشر في الجريدة، وإني بعد ذلك الوقت أعدّ سورية الجديدة جريدة قومية شخصية، أي أنها تعبّر عن آراء شخصية لا قيمة لها من حيث التعبير عن الحركة القومية وسياستها، وإني مستعد لتقديم كل مساعدة أتمكن منها لها بهذه الصفة. وكنت قد أوعزت بإصدار الزوبعة هنا لأسباب محلية مستعجلة، فصدرت بشكل غير حسن وصفحات قليلة وصغيرة. فلما رأيت موقف الرفيق بندقي استدعيت الرفيق جبران مسوح وأمرته بأخذ امتياز رسمي بــــ الزوبعة وتحسين طبعها وزيادة صفحاتها. ففعل. وبعد مدة وجيزة جاءني كتاب من الرفيق جورج بندقي يقول إنه الآن، أي بعد مدة غير قليلة، أطلع ابني عمه على الصفة التي أعطيها لـــ سورية الجديدة وإنهما قالا إنهما لا يريدان إلا أن تكون سورية الجديدة للغرض الذي أنشئت من أجله، وإنهما لذلك يتنازلان عن شراكتهما قابلين بتحمل نفقاتها حتى آخر هذه السنة، على أن تتولاها الإدارة الحزبية برمّتها، فقبلت ما عرضاه وأرسلت تعيين اللجنة وكان ما كان.
وكان وردني قبل كتاب الرفيق جورج كتاب من الرفيق [إلياس] بخعازي يشير به أن أكتب بنفسي إلى الرفيقين بندقي وأبيّن لهما ضرورة نشر المقال المتسلسل، إذ إنه يرجّح أنهما يقبلان بهذه الوسيلة بنشره. وقد رأيت هذا الرأي أخرق، فالواجب إذا كنا نريد المحافظة على النظام القومي الذي لا نهضة بدونه، يقضي بأن يكتب السيدان بندقي إليّ وينتظران أمري، لا أن أكتب أنا إليهما وأنتظر قرارهما. وإني لو فعلت لما كنت جديراً بمركز الزعامة، إذ أكون قد فرّطت بحقوقها ولغمت أساس النظام الذي تقوم عليه دولتنا الناشئة.
ولعلك لا تعلم أني، عندما بلغني خبر وفاة والدة السيدين بندقي منذ نحو سنة ونيف، كتبت إليهما معزياً فلم يردني منهما جواب، وحتى الآن لم يكتبا إليّ كتاباً واحداً لا حزبياً ولا شخصياً. وبعد ذلك يريد الرفيق بخعازي أن أكتب إليهما، أي أن أصير أنا الزعيم في مقامهما ويصيران هما في مقامي!
إني أفضّل أن تزول الجريدة وأن يزول الحزب كله على أن يقوم أحدهما أو كلاهما على أساس الفوضى أو الامتيازات الشخصية غير المستحقة. فأنا قد جئت لأنشئ شيئاً جديداً لا لأسير حسب النظام أو الوضع القديم. والآن، إذا شاء السيدان بندقي أن يعودا إلى الحق، فأنا أعرف كيف أقدّر جهودهما. وإذا شاءا العمل حسب الاتفاق الأولي في اللجنة، أي بترك كل حق ومسؤولية لهما في الجريدة ابتداء من السنة المقبلة، على أن يُعاد إليهما كل اشتراك يقبض لمدة قبل هذا التاريخ فإني أوافق. وإذا شاءا غير ذلك الحزب بريء مما يعملان، كما أنه بريء مما فعلا حتى الآن. أنا لست طامعاً في شيء شخصي، وإني أقوم بتأدية رسالتي كما يليق بي وبها، ولن أرضى خطة غير ذلك. وكل من يعدّ نفسه سورياً قومياً صحيحاً له حق إبداء الرأي من غير أن يوقف أو يمتنع عن تنفيذ أمر صدر. وإبداء الرأي يجب أن يكون لدى المراجع المختصة، وإذا صدر الأمر فيجب عليه التنفيذ بدون تردد أو إضاعة وقت. فمن لا يقدر على ذلك فالأوفق له ألا يضع نفسه تحت هذا الحمل.
يمكن أن تطلع لجنة المخابرة كلها على هذا الكتاب. وبعد ذلك ليسلّم إلى الرفيق فاخوري لمدة ثلاثة أيام فقط لغرض خاص ثم يعيده إليك فتكتب عليه بخطك هذه العبارة: "أشهد أني تسلمت هذا الكتاب في حينه وقرأته وأطلعت اللجنة عليه وأعدته إلى مكتب الزعيم حسب التعليمات الواردة فيه" وتضع إمضاءك. ولك أن تبقيه عندك على أن تنسخه بخط يدك وتشهد أنها نسخة الكتاب الواردة إليك مني تنسخه وترسل النسخة لتبقى في مكتب الزعيم حسب الأمر، أو أن تبقي النسخة عندك وترسل هذا الكتاب. سلامي لك وللعائلة. وأثني على جهودك. ولتحيى سورية.
بعد: كتبت لك كل ما تقدم لكي تطّلع على ما في داخل الموقف مما له علاقة بالمسلك الذي يسلكه السيدان فؤاد وتوفيق بندقي. ومتى قابلت هذين السيدين استعمل بصيرتك النيّرة ولا تخبرهما بهذا الكتاب، ويمكنك أن تقول لهما إنك علمت أنّ الزعيم أرسل يعزيهما وأنهما لم يجيبا على كتابه. وتسألهما أما كان من الأفضل أن يخابرا الزعيم رأساً بدلاً من الالتجاء إلى إقامة سفراء بينهما وبينه، وإنك ترى أنّ ذلك كان يكون أليق وأقرب إلى الصحيح، وتخبرهما عما تعلمه عن التقدير الذي قدرته لهما، وأنهما قصّرا تجاه الزعيم، وغير ذلك ولا تتجاوز هذه الناحية.
وقد رأيت الأفضل أن تعيد إليّ هذا الكتاب عينه، وعليه شهادتك بتسلمه وإعادته مع وضع تاريخ الإعادة والإمضاء. ويمكنك أن تحتفظ بنسخة عنه.
بعد أيضاً: ولكي تعلم خطورة الضرر الذي لحق بالحزب من السياسة التي سلكها فؤاد بندقي، أخبرك أنّ أخباراً وردتني من مركز الحزب في بيروت منذ مدة تفيد بأنّ التحقيق العسكري تناول مسألة سورية الجديدة وموقفها من ألمانية وإيطالية، ويظهر أنّ موقفها أوغر صدور الفرنسيين على الموقوفين القوميين. والأحكام القاسية التي أصدرتها المحكمة الفرنسية يعود قسم هام من أسبابها إلى شذوذ سورية الجديدة عن الخطة التي رسمتها لها، والتعليمات التي أصدرتها إلى مجلسها وإدارتها.
7/1/1941
[كتب وديع عبد المسيح في نهاية الرسالة: "أشهد أني تسلمت هذا الكتاب في حينه وقرأته وأطلعت اللجنة عليه وأعدته إلى مكتب الزعيم حسب التعليمات الواردة فيه".
وديع عبد المسيح].