حبيبتي!

كانت الريح شديدة أمس ولذلك لم يكن الصوت صافياً في التلفون. ولكني أنا سمعت صوتك الحلو جيداً وشعرت اني أريد ان أضمك الى صدري. وقد اشتدت الريح في الليل ولا تزال اليوم في اشتدادها وهذه طبيعة الجبال في الربيع.

انقطع البرد من يوم السبت الماضي. ويوم الأحد كان أول يوم تمكنت فيه من تعريض جسمي للشمس ولبس البنطلون القصير والقميص الذهبي ذي الكمين القصيرين وهو الذي لبستيه في "أغوي دأوره" وقد أخذت صورة به.
صحتي تتحسن، على الرغم من بعض المعاكسات، كما أخبرتك بالتلفون. وأكثر المعاكسات من الطعام فقد أصبحت معدتي وامعائي شديدة التأثر لطول مدة مرضها ولكثرة الصدمات التي تعرضت لها. وقد أخبرتك عن الانزعاج الذي حدث لي بسبب الخوخ المطبوخ طبخاً غير ناضج ولم يحدث شيء بعده حتى كان أول أمس فقد ارتأيتُ ان يطبخوا لي سميداً باللبن (الحليب) ولم أفطن الى انه ثقيل فاصابني انزعاج هضمي أرَّقني كل الليل. ومع ذلك لم أسعر بانحطاط في قواي وهذه علامة حسنة. وأمس ارتحت طول النهار ووردني كتابك الأخير وسورية الجديدة وكتاب من الرفيق جبران مسوح فسررت بها جميعها وسررت بكتابك أكثر من كل شيء آخر. ونحو الساعة السابعة ونصف مساء أخذت الحقنة الثانية 1 س3 وبعد ان خاطبتك تعشيت كعادتي وذهبت الى فراشي نحو الساعة 22 وبعد ساعة كنت نائماً. وعند الساعة الرابعة هذا الصباح استيقظت وبعد نحو ساعة عدت فغفوت حتى الساعة 8.30 وقد نهضت بصعوبة لشجة ما كان بي من نعاس وهذه علامة جيدة جديدة.
حبيبتي! عندما استيقظت نحو الساعة الرابعة هذا الصباح وجدتني حالاً وبغتة أصارع فكرة اعتمادك مؤخراً الكتابة اليّ باللغة الانغليزية. والظاهر ان هذه الفكرة كانت شاغلة عقلي الباطن Subconscious فلما استيقظت وجدتني أعالجها دفعة واحدة من غير تمهيد.
ثلاثة كتب كتبتِ اليّ مؤخراً وكلها بالانغليزية على التعاقب. وكانت الحجة في الأول انه يتعذر عليك الكتابة في المستشفى وسط ضجيج الموجودين حولك بالسورية ولكنك في البيت اكملت الكتاب بالانغليزية أيضاً. ثم جاء الكتاب الثاني فاذا هو أيضاً بالانغليزية. ثم جاء الثالث أمس وهذا أيضاً كان بالانغليزية.
لا أدري اذا كنت تفهمينني أو تنتبهين جيداً الى فهمي من هذه الناحية. ان كل كتاب يردني منك يحمل اليّ أمواجاً من الشعور بجمال الحياة. ولكن بعد ان أقرأ كتبك الانغليزية وأفرح بما تحمل اليّ منك يداخلني شيء من الحزن والانكسار. وقد عند يقظتي هذا الصباح في هذا الأمر وحللته هكذا:
1. ان شعوري القومي هو جزء هام من حياتي الروحية.
2. ان اللغة القومية عنصر من عناصر هذا الشعور.
3. ان الاعتزاز القومي والاباء القومي هما عنصران جوهريان في الحياة القومية.
4. ان استعمال لغة اجنبية بيننا نحن الاثنين ونحن قوميان يجرح شعور العزة القومية ويجعل عواطف حبنا مرتكزة على تعابير اجنبية تجعل لغتنا القومية خارجة عن هذا الأساس الروحي وتقلل ارتباطنا بها وهذا يحدث فراغاً روحياً في حياتنا وعواطفنا القومية التي يجب ان تتجلى في كل مظهر روحي من مظاهر حياتنا.
5. ان استعمال اللغة الانغليزية واللغة الفرنسية يجرح الاباء القومي بصورة مؤلمة، لأنهما لغتا الأمتين اللتين عملتا في العشرين سنة الأخيرة على أمتصاص موارد حياتنا واذلالنا وانزالنا منزلة العبيد. واللغة الانغليزية تذكرني بالشهداء القوميين الذين سقطوا في فلسطين بقنابل الانغليز الذين باعوا دماءهم لليهود.
حبيبتي! ان بعدك في الماضي عن مجرى الأحوال في الوطن جعلك تغفلين عن هذه التفاصيل. ولكني أثق انك سترين هذه الأسباب الجوهرية، خصوصاً وانت تعلمين ما للتفاصيل الصغيرة والجزيئات البسيطة من الأهمية.
لا تتهاوني، يا حبيبتي، في هذا الأمر مهما بدت لك الأسباب المخالفة جوهرية. وثقي انه لا يزجد سبب واحد جوهري يبرر تهاوننا في شعورنا القومي وإبائنا القومي. اكتبي دائماً كتابة سورية اينما كنت. اكتبيها صحيحة واكتبيها مغلوطة واكتبيها "مكسرة" فهي تكون دائماً صحيحاً أبياً فخوراً وهذا هو الجوهر. وقد أرجت ان اجعل من مراسلتنا نوعاً من الدروس التي تقوي عبارتك وتجعل الفاظك متقنة وهذا لا يعني اني لا أفهم كتابتك أو اني لا أقبلها كما هي أو اني لا أتساهل فيها متى كتبتِ بعجلة. فاذا اصلاحي يتعبك فأنا أتركه لفرصة أخرى.
حبيبتي! ان عبارتك السورية هي جميلة وهي تصل الى قلبي بأسرع مما تصل عبارتك الانغليزية. وكم كنت أفرح واغتبط حين كنت تكلمينني، في اجتماعاتنا، بلهجة سورية صريحة يتجلى فيها جمال نفسيتك المجانسة لنفسيتي. وصحيح اني أنا أيضاً استعملت معك الانغليزية قليلاً ولكن كان ذلك عندما كنت أجد ضرورة أو سبباً ما ولكني دائماً أتحاشى الالتجاء الى الانغليزية في مخاطبتي لك حين نكون منفردين. واذا تذكرتِ فقد تذكرين اني أحياناً كثيرة كنت أحوِّل الحديث من الانغليزية الى السورية.
وكم أود ان تفهميني جيداً من هذه الناحية كما تفهمينني جيداً من النواحي الأخرى. وثقي، يا حبيبتي، انه يكون أحلى على قلبي وأرفع لشعوري ان أعلم انه لم يردني كتاب منك لسبب انك تصبرين على التعب من اجل المحافظة على مثالنا الأعلى القومي من ان يردني كتاب منك فيه هذا التساهل والأخذ بالأهون. ان حياتنا وحبنا يجب الا يكون أساسهما الأهون بل الأعمق والأصحّ. وليكن أكيداً لك ان خمسة أسطر سورية على ورقة هي أفضل عندي من خمس صفحات ملزوزة الأسطر بعبارات اجنبية تجعلني أشعر كأني خارج من ثيابي.
تقولين، يا حبيبتي، ان العادة تجعلك تستسهلين الكتابة الانغليزية أو الاسبانية. وهذا صحيح. ولكن هذه العادة قد كلفتك بعض الصعوبات في الأول. ولا بد لك من اجتياز بعض الصعوبة الى تعوّد السورية واعتمادها لغة أولية. وقد رأيتُ ان تجتازي هذه الصعوبة الآن فاذا لم يكن رأيي موافقاً فهل عندك رأي في أي وقت تكةن الفرصة الأفضل. رأيي أنا الفرصة الأوفق هي الدقيقة التي أنت فيها.
لا شك عندي في انك ستشاركينني في شعوري وتجعلينني أسعد يوماً بعد يوم. وأني واثق ان المسألة ليست سوى انشغال الفكر بأمور أخرى كما يحدث لي في شؤوني الصحية التي لم أتعود الافتكار بها واني سأكون بعد الآن سعيداً دائماً بقراءة وسماع عباراتك السورية التي تتفق مع رغبتك في الظهور مزينة بطبيعتك، مجرّدة من كل تزيين مستعار.
أني أحبك كما أنت وكما تكونين بطبيعتك فحافظي عليها بكل قوتك ولا تدعي صعوبة تغلب ارادتكِ في ان تكوني كما أنت وكما تريدين دائماً. وبكل حبي وشعوري أضمك اليّ وأقبلك.


في 20 نوفمبر 1940

المزيد في هذا القسم: « حبيبتي حبيبتي! »

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.