الشرق،
سان باولو،
15/5/1931
لا جدال في أنّ الضائقة الحالية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البرازيل. فقد قوَّضت أركان التجارة وضعضعت أحوال الزراعة وهدمت بيوت الصناعة وشلّت الأيدي العاملة في عرض البلاد وطولها. ولو لم تكن البرازيل واسعة الأرجاء كثيرة الخيرات جيدة التربة لكانت الأزمة أشد فتكاً بالنفوس من الأمراض الوافدة وأكثر وبالاً من الحروب المهلكة. ومع ذلك يقال إنّ الضائقة في البرازيل أخف وطأة منها في معظم بلدان العالم القديم والجديد!
وليست غايتنا من إنشاء هذا المقال البحث في علل الأزمة وأسبابها والدواء الناجع لها، لأن لهذا الموضوع أرباباً أكفياء. وإنما أحببنا أن نفكّه القرّاء بملحوظاتنا عن غرائب الضائقة ومفعولها في أخلاق الناس لعل في ذلك تفكهة وعبرة.
وأول تأثير للأزمة هو أنك لا تكاد تدخل حانة إلا وتجد فها لوحة معلقة وقد كتب عليها بأحرف ضخمة وأساليب عديدة ما معناه «الدين ممنوع»، ذلك لأن التاجر أدرك بعد خراب البصرة أنّ الآية القديمة القائلة «إسْتدن وديِّن واتكل على الله» فاسدة من أساسها وأنّ أفضل منها «على قدر بساطك مد رجليك» لذلك أصبح الآن لا يديّن أحداً ولا يجد من يبيعه بالدّيْن فراجت معاملة النقدي فقط. ولا غرابة فمن نتائج الأزمة فقد ثقة الأب بابنه والرجل بامرأته والأخ بأخته!! في حين أنّ سهولة حسم الصكوك سابقاً ووفرة الربح في البيع والحسد والمزاحمة في سبيل تكبير التجارة والإثراء العاجل وغير ذلك، كان يدفع التاجر للمجازفة والمقامرة في تجارته واسمه وثروته. ولم ينتبه أحد إلى غلطه إلا حين ظهرت الأزمة فحولته من تاجر دين إلى تاجر نقدي حريص على ما أبقته الأيام بين يديه من الثروة بعد أن فقد ثقته بالناس ولحق اسمه العار.
وعمّ صراخ «المفاليس» في المقاهي والساحات والمتنزهات العمومية، حتى بلغ عنان السماء. وأنت لا تدخل بلدة ما إلا ويستقبلك جيش من «الظفرانين» نادبين غناهم السابق الذي فقدوه في هذه الأزمة على زعمهم وتجارتهم الواسعة التي تبددت. ولا يمكنك أن تَسْلَم ممن يلقاك منهم، إلا إذا وهبته بعض النقود التي يطلبها منك «بدون خجل» على سبيل المساعدة. أو أن تدفع فنجان قهوة أو كأس عرق إذا كنتما في مقهى أو حانة. وهذا بيت القصيد من ندبه ثروته المفقودة! وقد أصبح هذا التدجيل مهنة مجموع كبير من خشارة البشر ورعاع الناس.
العاطلون كثيرون جداً في هذه الأيام. وبعضهم يسعى كل السعي الليل والنهار وراء العمل ولا يجده. أما البعض الآخر «قلّل الله عددهم» فهم عمال تلفيق وكذب وتدجيل. اختلطوا بالعمال الحقيقيين اختلاط الزؤان بالحنطة. وإذا سألت أحدهم عن مهنته أجابك أنه حداد أو نجار فتنظر إلى يديه فتراهما أنعم من يدي العروس، ولكنه يبادرك بالتنصل قائلاً إنه من ثلاثة أو خمسة أعوام وهو يفتش عن عمل ولم يجده إلى الآن ولن يجده إلى الأبد!! وقد ابتكر هذا الفريق طريقة نظامية للاستجداء إذ يعارضون الناس في الشوارع، وكلما لاح لهم في سيماء فرد السخاء والشهامة يسأله أولاً إذا كان يقبله مستخدماً أو يدبّر له عملاً. ثم يبدأ بشكوى فقره ووفرة عدد أفراد عيلته فيجود عليه السامع بما تسمح به نفسه. وإذ ذاك يقصد إلى الخمارة وبيوت الخلاعة وأندية لعبة «البيش» الشائعة في هذه البلاد. وقد يعضّ بعضهم ناب الجوع فيلجأ إلى المنازل الخاصة لاستجداء القوت، وهكذا يقضي أيامه ولياليه طارقاً أبواباً الأجاويد ويشبع بطنه من فضلات الموائد. ولعمر الحق أنّ هذا هو عمله الحقيقي من يوم شب وظل إلى أن يدرج في كفنه.
وقد ابتلت بيوت الأجرة في هذه الأزمة بهضم حقها. فالعامل والعاطل سواء في هضم أجور المنازل في هذه الأيام. وحجة الجميع واحدة وهي قلة العمل وندورة النقود. ولقد تعرفت بكثيرين من الملاكين من مدة بعيدة ولحظت أنهم لا يطالبون مستأجري بيوتهم بأجرتها، ومنهم من يسلّم المستأجر المنزل على أن يقطنه مجاناً كي لا يقلق راحته بالذهاب والمطالبة والعذاب، وخوفاً من المشاجرة وتهشيم الأنوف والملاكمة والمحاكمة. ومنهم من أغلق منازله فارغة وامتنع عن تأجيرها مفضلاً إقفالها على تخريبها وعدم دفع أجورها.
ورأيت رهطاً من أصحابنا الجوالين، سابقاً من لبسة القمصان الحريرية والسيارات الفخمة، بحالة يرثى لها من المسكنة والذل. ولقد كان بعضهم لا يقصد إلى العمل، ولو كان على بعد عشرة أقدام إلا في السيارة، أما الآن فهم يسيرون على الأقدام بملء السرور. ومنهم من يحتمل حرارة الشمس المحرقة ماشياً الأميال في الحقول والمزارع يبادل القديسين والأنبياء والرسل والصلبان والمسابح بالبيض والدجاج التي يبيعها في المدينة ويربح منها قوته وقوت عيلته الضروري. ومن المضحك أني رأيت من المتجولين اثنين: الأول كنادلٍ في أحد الأنزال والآخر يقوم بالدعاية عن نادٍ للمقامرة! وقد قال لي أحدهم إنّ جعبة المتجول لا تحمل الحكمة النافعة في أيام الرخاء، ولا تحفظ صدره الفلسفة الثمينة في أيام السعة وهي اقتصاد الغرش الأبيض لليوم الأسود. أما الباقون في مراكزهم التجوالية ــــ وهم قليلون جداً ــــ فإنهم يهربون من زملائهم المتقدم ذكرهم هرب السليم من الأجرب.
وأغرب الغرائب التي لحظناها، في هذه الأيام الغريبة العجيبة، متاجرة بعض الأفراد بالفقر نفسه. ذلك أنّ هؤلاء الناس أو أبالسة الناس عندما شاهدوا أنّ الفقراء من إخوانهم يكثر عددهم في كل يوم، حتى أنّ ملاجىء الإحسان الحقيقية ضاقت عن استيعابهم، ابتكروا جمعيات إحسان وشفقة ورحمة وإسعاف وسواها وأسسوا بأسمائها ملاجىء للفقراء والعاطلين، وقاموا يجمعون لهذه الغاية من محبّي البِرِّ والإحسان والأغنياء والأعيان المال الكثير لجيوبهم الواسعة، وأرصدوا القليل للفقير المسكين الذي أصبح سلعة يباع في سوق الإحسان الكاذب بيع السلع، أو كما بيع سيد النصرانية من يهوذا الإسخريوطي. فصحّ قول الشاعر: مصائب قوم عند قوم فوائد.
قيل إنّ المشاجرات والاختلافات والشكوى يكثر عددها بين البشر في أيام الشدة والضيق «القلة بتجلب النقار» أما في الوقت الحاضر فالحالة خلاف ذلك. لأن المحامين والكتّاب، وبعض من كانوا يستدرّون أرباحهم من شكاوى الناس واختلافاتهم، قد كثر العاطلون منهم إلى حدٍ كبير نظراً إلى إفلاس معظم العنوانات التجارية. ثم إنّ الحالة هادئة فلا تصفيات ولا اختلافات تجارية ولا سوء تفاهم بين أصحاب الأملاك ومستأجري أملاكهم. لأن التاجر الذي لم يدفع ديونه إلى الآن لن يدفعها فيما بعد. والمستأجر الذي لا يدفع أجرة البيت من تلقاء نفسه فلا المحامي ولا الحكومة ولا القانون يجبره على الدفع عنوة. وهكذا اضطر المحامي أو الكاتب إلى التفتيش عن عمل جديد. ولقد رأينا أحد الكتّاب مستخدماً عند خباز وآخر في نزل يغسل الصحون. وعلمنا من محامٍ مشهور أنه باع كتبه القانونية وكرسي مكتبه وابتاع بثمنها مزرعة هو يديرها بنفسه. رحم الله الماضي كان ما أكرمه!!.
أما كبار المزارعين (فزنديروس) فقد ابتلوا بداء الإفلاس مثل زملائهم كبار التجار. وبينما كنت ترى أحدهم في الماضي مقتنياً سيارة خاصة له وسيارة أخرى لأفراد عيلته، فضلاً عن القصور في عواصم البلاد، إذا بك تراه الآن وسيارته حصانه وإقامته المستديمة في المزرعة نفسها. وقد تحولت مزارع بعضهم إلى البنوك أو الدائنين وأصبحوا بحالة يرثى لها من الفقر والحاجة يذكرون عهد القهوة التي كانت تدرّ لبناً وعسلاً.
وكنت لا تزور بلدة من بلدان الداخلية إلا وتسمع الجدل بين السوريين حول سياسة سورية. وكلٌّ يغنّي على ليلاه بين محبذ وجود فرنسة فيها أو منتقد أعمالها أو طالب خروجها من البلاد. وكنت لا تسمع إلا حديث الجمعيات والأحزاب السياسية أو اللجان وجمع المال للثوار أو للمروزئين في الوطن. وتحبيذ الجرائد ونزعاتها العديدة بيننا إلى غير ذلك من الأبحاث التي تتعلق بسياسة وطننا وكنت تتمثل في كل بلدة برلماناً سورية وفي كل قرية مجلس أمة لبناني! أما الآن فقد تبدلت الآية واختلف البحث وتباينت المسايرة لأن أفكار الناس منحصرة بالأزمة وبالأزمة فقط. فمن كل الأفواه لا تسمع إلا «كيف الأحوال في الريو أو في سان باولو؟ شو قولك هل تتحسن الحالة؟ كيف أحوال الكمبيو طلع أو نزل؟ شو أخبار الحكومة المؤقتة هل هي مهتمة حقيقة بتحسين الأحوال؟ شو سعر القهوة هل يرتفع ثمنها وكم كيس شُحن منها إلى الخارج في هذا الشهر؟»، إلى غير ذلك [من] الأسئلة التي تظهر لك مقدار القلق والاضطراب اللذين سادا على عقول الناس في هذه الأيام العصبية. فمسكين هو الإنسان ما أجهله وأجحده لفضل ربه. فإذا ما وقع في ضيق أقلق راحة خالقه بالتمني والسؤال. ولما تنقضي محنته ويرجع له صفاؤه ينسى خالقه ويعود إلى ما كان عليه من الإسراف والتبذير والمنكرات! فقوتل الإنسان ما أكفره.
أنطون سعاده