النهضة، بيروت،
العدد 110،
8/3/1938
يقال إنّ سورية قد ابتدأت عهداً جديداً في حياتها السياسية هو عهد المعاهدات وإنشاء الدول المستقلة، والحقيقة أنها لم تبتدىء شيئاً من هذه الجهة. فما عدا نشوء الحزب السوري القومي لم تختبر الأمة السورية أي تقدم عملي في سبيل السيادة القومية والحصول على الحقوق القومية.
وليس في محله ظن "الكتلويين" في الشام أنّ المعاهدة التي أُعطيت لهم هي انتصار للأمة. فقد تكون هذه المعاهدة انتصاراً للسياسة "الكتلوية" ولكنها ليست انتصاراً للسياسة القومية. والحقيقة أنّ المعاهدتين الشامية ـ الفرنسية واللبنانية ـ الفرنسية لا تعنيان شيئاً سوى اتخاذ الوزارة الفرنسية خطة حاسمة فيما يختص بسورية الشمالية الواقعة تحت انتدابها. وقد لجأت السياسة الفرنسية إلى هذه الخطة رداً على نشوء الحزب السوري القومي وظهور تعاليمه الجديدة ونظرته القومية التي اشار إليها من بعيد السيد باستيد، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس الفرنسي.
وإنّ انتهاج سياسة واحدة في شمالي سورية وجنوبيها من قبل الدولتين المنتدبتين عليها، يدلنا على أنّ وجهتي نظر الدولتين الكبيرتين متفقتان نهائياً فيما يتعلق بمصير وطننا. والظاهر أنّ اتفاق هاتين الدولتين المنتدبتين النهائي في صدد القطر السوري قد حدث بناءً على تطور الحالة الإنترناسيونية، بعد فتوحات اليابان في الصين، وفتوحات إيطالية في الحبشة وحشد قواتها في ليبية، وبعد استعادة السيادة الألمانية على الرين، وحملة ألمانية في سبيل استعادة مستعمراتها، وبعد انتصارات القوميين في إسبانية بمساعدة إيطالية والمانية. فإن هذه التطورات قد ولّدت ضغطاً شديداً من الوجهة السياسية ـ الاقتصادية استدعى إعادة النظر في مناطق النفوذ عامة، ولجوء فرنسة وبريطانية إلى تحسين موقفيهما والبتّ نهائياً بشأن مصير بعض المناطق الواقعة تحت نفوذيهما. وكانت سورية في مقدمة هذه المناطق، إذ كان مصيرها من الوجهة الإنترناسيونية لا يزال معلقاً على تطور الظروف. ولما كان الشعب السوري شعباً نشيطاً قابلاً للتنبه السياسي والأخذ بالمبادىء القومية الصحيحة وكانت هذه المبادىء قد وجدت، فإن هذه الحقيقة استدعت النظر الجدي في مصير سورية الإنترناسيوني وكان لا بد من الالتجاء إلى سياسة أكثر تحديداً من ذي قبل، خصوصاً قبل وقوع الحرب التي يظهر أنّ العالم سائر نحوها بسرعة القطار المستعجل.
ويظهر أيضاً أنّ مسائل شرقي البحر السوري أوجبت إشراك تركية نهائياً في تقرير مصير هذه الناحية من العالم، لأنه لا يمكن مطلقاً إغفال خطورة تركية في الشرق الأدنى فكانت النتيجة أنّ تركية قدّمت مطاليبها بشأن لواء الإسكندرونة وكان أنّ هذه المطاليب أجيبت بغاية السرعة على حسابنا وحساب النفوذ السياسي الفرنسي شرقي البحر السوري.
أوجبت هذه الحالة الجديدة وتطور العالم نحو الحرب أن يتخذ الاستقرار السياسي في هذه البلاد شكل استقرار حربي، وأخذت التقسيمات السياسية في سورية تسير على الخطط الحربية. فالمناطق الجبلية الساحلية من سورية الشمالية كان لها امتياز ومعالجة خصوصيان في المعاهدتين الشامية ـ الفرنسية واللبنانية ـ الفرنسية. وجاءت مقترحات البعثة الملكية البريطانية بشأن تقسيم جنوبيّ سورية موافقة كل الموافقة لهذا النهج الجديد السياسي الحربي. فإنشاء دولتين سورية ويهودية في الجنوب وإبقاء ممر له مزايا خاصة تحت الانتداب البريطاني المباشر، فضلاً عن إنشاء موانىء ومواقع حربية، كل هذه شؤون مقصود بها تسوية نهائية سياسية حربية.
هذه هي الوجهة السياسية الحقيقية للوضع الجديد في بلادنا. وهذه هي النظرة السياسية الصحيحة التي لا تتمكن "الكتلة الوطنية" في الشام، ولا النواب من معارضين وحكوميين في لبنان ولا رجال السياسية التقليدية في فلسطين، من إدراك كنهها. وإذا كان لا بد لنا من التكلم بالسياسة بالمعنى الصحيح فيجب أن نعالج المسائل بالفن السياسي القومي العالي وان نطرق الموضوع في لبابه. ولا بدّ لنا في هذا الموقف من القول إن السياسة الكتلوية الاعتباطية قد ساعدت هذه السياسة الإنترناسيونية من حيث لا تدري، وهي تظن أنّ المعاهدة من صنع يديها، مع كل ما جلبته على البلاد من الخسارة والهوان.
قلنا في مقالات سابقة في هذا الباب إنّ إمكانيات سورية لا تبرر مطلقاً هذا التقلص في حدودها وفي نفوذ فرنسة في الشرق. ونقول الآن إننا نعتقد أنّ مصير شرقي البحر السوري يحتاج إلى سياسة تشجع نهضة سورية القومية. فإن سورية بعد النهضة القومية هي عامل هام من عوامل تقرير شؤون الشرق الأدنى.
إنّ الموقف الحاضر موقف حرج جداً يجب على سورية أن تتنبه لخطورته وخطره على حياتها ومستقبلها. ولا مخرج لسورية من هذا المأزق إلا بالاعتصام بنهضتها القومية وتقويتها. ونحن نعتقد أننا نكون حلفاء أفضل إذا كنا أقوى.